الحلقة 21 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. النساء في الرحامنة قد يتذرعن بالخروج لزيارة في طلب الترفيه عن أنفسهن أو للخروج في ما يعن لهن من نزوات الموت لا تجد مراسيم الحداد عند الرحامنة، كما عند سائر الأقوام في شمال إفريقيا، قد بلغت شأواً من التطور، بعكس ما يوحي لنا بالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي يكتسيها لديهم الاعتناء بالأموات كما تدلنا عندهم المكانة الكبيرة التي يولونها للأضرحة. ففي لحظات الاحتضار الأخيرة يتحلق الأقارب من حول المحتضر، وكذلك يفعل الجيران. فهنالك اعتقاد شائع عند المسلمين أن روح الميت لن يكتب لها أن تدخل الجنة إلا إذا نالت رضى أولئك الحضور. وتجد لديهم ذلك الاعتقاد في الوضع أيضاً؛ فهم يعتقدون أن الوليد لن يُكتب له الخروج إلى الدنيا إلا إذا نال رضى جميع الحضور. ولذلك تراهم يحرصون بجميع الوسائل الممكنة، خاصة في اللحظات الأخيرة من حياة المحتضر، للتضييف من عدد الحضور. ثم إن الذين يحضرون الوفاة لا يأتون بدافع من ذلك الاعتقاد الذي ذكرنا وحده، بل يدفعهم إليه الرغبة الشديدة في أن يبعثوا عن طريق المحتضر برسائل إلى أقاربهم الأثيرين عليهم. فهم يخاطبون المحتضر بالأصوات المرتفعة قائلين: «وصّل السلام» ل خويا») أو»لوالدي»ولذلك فأسرة المحتضر تحرص [بتضييقها من عدد الحضور] على أن يجنبه هذه المهام المريرة. المناحات ما أن يلفظ المحتضر أنفاسه الأخيرة حتى تنطلق المناحات من كل حدب وصوب، وتأخذ النسوة في الصراخ والعويل وتمزيق وجوههن بالأظافر. فكذلك يفعل الرحامنة ودكالة والسراغنة وتادلة. وأما أهل مراكش فليس من عادة نسائهم النواح واللطم على الخدود، وكذلك يغيب هذا العرف عند حاحا والشياظمة وعبدة. ولا ترى النساء عند الرحمانة يرافقن الجنازة، بل يلبثن في بيت الفقيد في نواح وعويل. وأما دكالة والشاوية وتادلة فالنساء عندهم يبالغن بتلك المناحات إلى أبعد الحدود، ويتمادين في تمزيق وجوههن حتى وهن يقفن عند قبر الفقيد، بل يواظبن على العودة إلى المقابر وتكرار تلك المناحات جمعاً عديدة متوالية. المراثي ترافق الراثي في العادة أناشيد حزينة ترددها «الندابات»، وهن نساء محترفات للبكاء والنواح. وهذه الآداب الشعبية شديدة الشيوع عند الرحمانة ودكالة. لكن ينبغي الإقرار بأن الأوروبيين يلاقون في دراستها الصعاب الجسيمة. فهذه المراثي، أو على الأقل تلك منها التي ليس لها طابع أدبي واضح، تكون كثيرة الحذوف وتبدو في ظاهرها قليلة انسجام وتلاحم. ولربما يكون هذا النوع من الأناشيد مطبوعاً في أصله بهذه الخصائص، وهو أمر سنقف عليه من خلال مجموعة من المقاطع قد استقيناها من عين المكان. فالمرثية الأولى تتحدث عن مقتل رجل في معركة، لكن يجدر التنويه إلى أن هذا الضرب من المراثي يشيع ترديدها في الوفيات من غير تمييز، ومن غير مراعاة لأن تكون الكلمات متوائمة مع المناسبة؛ فالمديح الذي يقولونه في المحارب قد يرثون به كذلك الفقيد المسالم الذي لاقبل له بحمل السلاح الجنازة قد لا تجد الناس يحرصون في البوادي على مرافقة الجنائز بقدر ما يفعلون في المدن. والمسلمون الذين يرافقون في شمال إفريقيا عملية الجنائز يرون من واجبهم أن يتناوبوا على حمل النعش، فهو في اعتقادهم «يمحو الذنوب». وأما في فاسومراكش فإن هذا العمل يتولاه أناس مختصون، يسمون في فاس : «الزرزاية» (أي الحمالون) وفي مراكش «الرفَّاعة». وقد تسمعهم أحياناً يتلون في الجنائز [(ه. م) كتب الدفن]، وهو أمر أكثر شيوعاً في الجزائر، أبياتاً من «البردة» و»الهمزية» وهما قصيدتان أنشأهما البوصيري في مدح النبي، خاصة القصيدة الأولى. غير أنك لا تجد بداية «البردة» مما ينسجم وأناشيد الجنائز، فالشاعر قد أفرد ذلك المطلع، كجري القاعدة القديمة في الشعر العربي، لتصوير حزنه على فراق حبيبته. ومعنى ذلك أن العشر العربي يلتزم أعرافاً وقواعد، وكانت التقاليد الصارمة في هذا الشعر لا تترك للشاعر العربي حرية ليبتدئ قصيدته كما يحلو له. فليس علينا لذلك أن نستغرب لهذا الشاعر ثقف بين يدي النبي مادحاً فيبتدئ قصيدته بالحديث عن محبوبته. لكن ما أسهل ما جاء الشراح والمفسرون المسلمين يطمسون لم كان يمكن أن يبدو شيئاً معيباً في مطلع هذه القصيدة؛ إذ زعموا أن المقصود بتلك الأبيات الأولى من القصيدة لا الحب بمعناه المألوف، بل هو الحب للرسول، وأن مطلع قصيدة «البردة» إنما وضعه الشاعر للتغني بالرسول ولم يكن يقصد به محبوبة من بنات خياله. وعلى النحو نفسه يحمل علماء اللاهوت [المسيحيون] الخاتمة في مزامير سليمان على أنها تعبير عن حب المسيح للكنيسة. ومهما يكن من أمر فإن أهالي الجزائر من المسلمين إذا حضروا جنازة جعلوا يرددون أبياتاً من «البردة» ويزيدون إليها الشهادتين. وتكاد الأدعية التي تتلى على القبر تكون متشابهة في سائر مناطق إفريقيا الشمالية؛ وهي أدعية يقوم بها الطُّلبة. وأما العادة الشائعة في جميع أنحاء المعمور، والقائمة على دفن بعض الأغراض مع الميت فلا تكاد ترى لها وجوداً عند أهل المغرب، فأنت لا تراهم يدفنون مع موتاهم حلياً أو نقوداً، لكنهم قد يدفنون أحياناً مع الطفل أو المرأة بعض الأساور والحلي. وكثيراًُ ما ترهم في الجزائر يجعلون مع الميت تميمة يسمونها «سؤال»، يجعلونها تحت رأس الميت، وهي تميمة يكتبها الطلبة ويقولون إنها تعين الميت في الإجابة عن أسئلة منكر ونكير، وهما الملكان اللذان يأتيان، حسب الاعتقاد الإسلامي، لسؤاله في القبر. ولم أر لهذا العرف شيوعاً في جنوب المغرب. وتدخل في عوائد الرحامنة، كما يدخل في عوائد شعوب شمال إفريقيا بوجه عام، زيارة القبور. والنساء هن من يقمن بهذه الزيارة بضعة أيام بعد وفاة أقاربهن، ثم يعدن للمداومة على تلك الزيارة في أيام الجمع، ويأتين بالطلبة للدعاء للأموات. وتشكل زيارة القبور في أيام الجمع في كثير من المدن المناسبة الرئيسة لخروج النساء، بل إنهم كثيراً ما يتذرعن بتلك الزيارة للخروج في طلب الترفيه عن أنفسهن، ولربما تذرعن بها للخروج في يعن لهن من نزوات وحماقات. ولئن كانت الشريعة الإسلامية تحرم هذه الزيارات فإنها لم تفلح في اجتثاثها والقضاء عليها. ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الأقوام البربرية من ساكني الحوز يمتنعون من زيارة القبور؛ فكذلك هو الشأن عند حاحا، وحتى إنهم يمتنعون من هذه الزيارة ولو في عيد عاشوراء. وعلى العكس فأهل مراكش يقبلون في تلك المناسبة على زيارة القبور في حشود عظيمة؛ فيتصدقون على الفقراء ويرشون الماء على القبور ويغرسون فيها من الريحان. ومن عادتهم في بعض الجهات من الجزائر أن يضعوا فوق القبور بعض حبات العنصل. وتعتبر عادة غرس الأزهار فوق القبور عادة عالمية؛ لاعتقاد بأن الروح تُنتقل إلى هذه النباتات فتخفف عنها. وهنالك خرافة واسعة الانتشار تتحدث عن عاشقين قد دفنا بإزاء بعضهما وفوق قبريهما طلعت شجرتان متشابكتا الأغصان. وتحضر هذه الخرافة في إقليموهران وبطلاها كورة وعوالي. ولا تزال ترى أهل مراكش يقبلون رجالاً ونساء على زيارة القبور في اليوم السابع والعشرين من رمضان، والنساء وحدهن يداومن حين يتوفى لهن شخص على التردد على المقابر ثلاثة. وفي ما خلا هذه المناسبات لا ترى الناس في مراكش يقبلون على زيارة القبور. الرحامنة والزكارة أدرج مولييرا في بحثه عن الزكارة رحامنة الحوز في عداد المجموعات الاجتماعية التي كانت تجاهر بالمذاهب التي ينسبها إلى هذه الأقوام في شرق المغرب. ومهما كانت الاكتشافات التي تأدى إليها هذا الأستاذ من وهران للأفكار والتصورات الشائعة، ومهما كانت يلزمنا أن نحمله مؤقتاً المسوؤلية الكاملة عن تلك الاكتشافات، فلا نميل إلى الاعتقاد، كما قيل، بأنه قد وقع في الزلل بدفع من بعض المخادعين. فعندما سيقيض التحقق من صحة الأفكار الأساسية التي أقام عليها بحثه وسيتم الوقوع عليها لدى مختلف الأقوام التي تناولها بالحديث، فسيكون له فضل السبق في الإشارة إليها. ومع ذلك فالعادات الخاصة بالزكارة قد سبق أن وجدنا الإشارة إليها من لدن ديماييغ؛ فهو يفيدنا أنهم كانوا يعتبرون عند العرب بأنهم من المبتدعة، وأنهم أصحاب عادات منحلة وأنهم لا يختتنون. ومن جملة الجماعات التي لها يذكر مولييرا أنها تأخذ بمعتقدات الزكارة توجد الملاينة في ضواحي فاس. وقد أشار أوبان إلى علاقات الملاينة بالزكارة، لكنه لم يشر بشيء إلى عاداتهم، بل قال عنهم : «إنهم يشكلون جمهورية مستقيمة». وينبغي لنا أن نقول ههنا، من غير ادعاء باستخلاص شيء من هذه الواقعة، أننا استفسرنا أثناء زيارتنا لفاس في سنة 1901، من المسلمين في مرات كثيرة عن الملاينة، وقد حدثنا كثير من مخبرينا حديثاً مطبوعاً بالعنف، بقولهم إنهم «خوارج»، أي مبتدعة لا يؤمنون بشيء ويأتون شتى أنواع المناكر، بما فيها الدعارة ببناتهن وزنا المحارم. وحيث إنني لم أزر بلاد مليانة، ولم يتسن لي بالتالي أن أتحقق من صحة هذه الاتهامات، فقد اكتفيت بتسجيلها وعزوتها إلى نوع من الكراهية قد كانت من المغاربة تجاه هؤلاء الأجانب. لكنني لا أستبعد اليوم أن تكون تلك الاتهامات لا تعدم نصيباً من الصحة. ومن المعروف عن الغنانمة في جنوبوهران، والذين يدخلهم مولييرا كذلك في معتنقي الزكراوية، أنهم يتعاطون عامة أحط المهن وأنهم كفار وأنهم يتركون لأزواجهم مطلق الحرية في التصرف، فنكون ههنا بصدد مجموعة من القرائن ينبغي أن تحملنا على أن نأخذ بعين الاعتبار التخريجات التي جاء بها صاحب كتاب «المغرب المجهول». وأما ما تعلق من هذه المزاعم بالرحامنة فلا يمكن أن نعزو إليها أي نصيب من الصحة. فلم نقف في الدراسة المختصرة التي تناولنا بها هذه القبيلة على شيء مما يمكن اعتباره من العادات الغريبة من قبيل العادات حق الليلة الأولى عند الزكارة أو «ليلة الخطيئة»، وهو شكل غريب من الزواج صوره الكاتب. لكن بما كان في الإمكان أن نقع لديهم على آثار لهذا النوع من الزواج على أننا وجدنا من ينبهنا إليه قبلاً. وإذا كنا في كل ما نسوق في هذا الفصل لا نتحدث بشيء عن عادات الزكارة، فلن يكون من المسوغ أن نستخلص شيئاً من هذه الملاحظة السلبية. عيد الأضحى من جملة الأعياد الدينية الأربعة الكبرى التي يحتفل بها الرحامنة كسائر المسلمين، فإن العيد الكبير وعاشوراء الذي يسمونه «العاشور» هما وحدهما اللذان يتميزان بخصوصيات جديرة بالاعتبار. ففي يوم عيد الأضحى يتوجه الناس عند «الفقيه» في الموضع الذي هم فيه، ومعظم أرباب الأسر يسلمونه سكاكينهم ويدفعون إليه بشيء من التمر. والفقيه هو الذي يقوم بنفسه بشحذ السكاكين. ثم يصلون في المصلى، في براح يهيئونه في العراء لهذا الغرض. ويتولى الفقيه ذبح عدد من الأضاحي، ويعين بعض الأشخاص ليقوموا بذبح الباقي، ويعين لكل واحد منهم الخيمة التي ينبغي أن يقوم فيها بذبح الأضحية، ويعطيه سكيناً ويدفع إليه كذلك بحفنة من التمر. وهم يذبحون كل خروف أمام وتدين يقومان ركيزة تتوسط الخيمة. العرافة بالدم وعظم الكتف في تلك اللحظة يقومون بجمع دم الأضحية، ويزيدون إليه الحرمل وشيئاً من الشعير وشيئاً من الفحم، فإذا تخثر هذا الدم جاءوا ليتفحصوا ذلك الخليط. فإذا روا فيه خطاً أبيض كبيراً دلهم على «الكفن»؛ ومعناه الموت، وإذا تبينوا فيه ثقوباً كانت دلالة على «المرس»، أو «مجموعة كبيرة من الأهراء»، وهي فأل حسن بأن السنة [الفلاحية] ستعرف المحصول الوافر. وأما إذا رأوا فيه تحذُّبات فأنها تكون عندهم دلالة على الغنم، أو القطيع من البهائم، فالتي على اليسار تدلهم على أن السنة ستكون جيدة على الغنم، والتي على اليمين تدلهم، على العكس، على أن السنة ستكون جيدة على الأبقار. لكن العرافة والتنجيم باستعمال الدم ليست الوسيلة الواحدة التي يلجأ إليها الرحامنة في هذه المناسبة، بل إنهم يقبلون، كغيرهم من أهالي شمال إفريقيا، على الكتفية؛ أي العرافة باستعمال ألواح الكتف التي يحصلون عليها من خروف الأضحية. ومما يبعثنا على الاستغراب أن نرى هذه العادة تعرف الشيوع عند شعوب العالم على اختلافها وبعد الشقة بينها. وقد سبق للإدريسي أن أشار إلى أن الزنانتيين ساكني المنطقة بين تلمسان وتياريت مثل القبائل الخبيرة بالعرافة باستعمال لوح الكتف. وهذه ممارسة جارية في عموم مناطق المغرب، لكننا سنرى أنها تغيب عند بعض القبائل الأمازيغة. فهم يزيلون العظم عن الكتف الأيمن من الخروف ويُخرجون الكتف، فإذا وجدوه أملس صقيلاً دلهم على أن سنتهم ستكون جيدة، وأما إذا طالعوا فيه خطاً أبيض فهو دلالة على الكفن، فيكون عندهم فألاً سيئاً. ثم إنهم لا يطعمون في الأول من العيد غير الرأس والمِعلاق والأحشاء، وفي اليوم الثاني يأكلون العنق والكتفين، وفي اليوم الثالث يأكلون مما يروق لهم من الخروف ويجففون بقية اللحم. الفراجة لا تزال تجد الرحامنة يحتفلون بالعيد الكبير بإقامة «الفراجة»، وهي ضرب من المسخرة قد جرت العادة في المغرب على أن تقام بمناسبة عاشوراء، إلا أن الرحامنة يقيمونها كذلك في العيد الكبير. وسوف نرى في ما بعد، لدى حديثنا عن الاحتفالات التي تقام في عاشوراء، أن من اليسير الاهتداء إلى تفسير لهذا الاختلاف في التاريخين. والفراجة عندهم أنهم يقومون بتمثيل شخصية «عزونة»، ويقوم بتمثيلها شخص أمرد يُلبسونه من لباس العرائس ويجعلون له من الحلي، فيبدو في هيأة أشبه ما تكون بعروس يهودية. ومن حولها يحتشد المسلمون متنكرين في هيآت كأنهم يهود، ويفعلون كأنهم يبيعون؛ فبعضهم يتظاهرون بأنهم يقيسون الثوب، ويوجهون صفعة إلى الأشخاص الذين يقفون على مقربة منهم، والآخرون يتظاهرون بأنهم يبيعون من تلك الجواهر المزيفة التي تكثر في الأسواق لتتزين بها النساء؛ فهم يفعلون كأنهم يعرضونها [للبيع]، ويقذفون بالتراب المتفرجين عليهم... ثم يجيء الموكب إلى خيمة مفتوحة قد جلست أمامها النساء متبرجات وسافرات الوجه. ومن ورائهم يقف هرمة بوجلود، وهو شخص يتنكر في هيأة غول ذئبي ولبس من جلد الخروف أو جلد جدي الذي ذبح في هذا العيد، ووجهه وضع رأس خروف أو رأس جدي وزين رأسه من الريش. وتأخذ عزونة ترقص أمام النساء، وكذلك يرقص اليهود، ثم يظهر هرمة، فيفعلون كأنما يقتلونه بطلقات البنادق أو بضربات السيوف. ثم يعطون المشخصين لهذه المشخارة لحماً، وقد ربما ذبحوا خروفاً لأجلهم. ويمتد الاحتفال بالفراجة أو بوجلود أسبوعاً كاملاً. وفي عاشور يأخذ كل واحد منهم طعريجة، ويأخذون في الضرب عليها، ويوقدون النار في الأخشاب ويأخذون يتسلون بالقفز فوقها. وتلك هي «الشعالة». وعلى الرغم من أننا لا نحيط بمعنى هذا الشعار، كما هو الشأن في حالات أخرى كثيرة تجري في هذا المجرى، فالواضح أن هذا الشعر يترجم كرنفالاً حقيقياً للدفن. فنحن إذا ما تمعنا في عاشوراء وجدناه يوافق الكرنفال الذي نقيمه [نحن الأوروبيين] في الوقت الحاضر. التقويم الشمسي يقودنا هذا الاستعراض الذي جئنا به لهذه العادات الشعبية إلى الحديث عن نوع آخر من الاحتفالات قد بقي شيئاً رائجاً في المغرب، كشأنها في سائر بلدان العالم، وإن يكن معظمها قد فقد الدلالة التي كانت لها عند البدائيين وصار يتعذر علينا اليوم أن نهتدي إلى معانيها جميعاً. نريد بقولنا الاحتفالات تقام بمناسبة المنقلب الشمسي والاحتفالات الفلاحية التي يحكمها التقويم اليوليوسي لا التقويم القمري المعتمد من المسلمين. وقد لاحظنا [الدارسون] منذ وقت طويل أن أهالي شمال إفريقيا كانوا يداومون على استعمال التقويم وظلوا يحافظون فيه على الأسماء اللاتينية. والحقيقة أن المسلمين لم ينقطعوا يوماً عن الأخذ بالتقويم اليوليوسي، علماً بأنهم يقرون ويحتفلون بمجموعة من الأعياد المرعية كذلك عند المسيحيين، وينبغي أن نجعل في مقدمتها الاحتفال بما يسمونه «مولد سيدنا عيسى»؛ أي مولد السيد المسيح. والجهود الذي يبذلها المتشددون من الفقهاء لصرف المسلمين عن الاحتفال بهذه الأعياد، التي لا يجرؤون على التصريح بالاستنكار لها والرفض، خاصة إذا ما تعلق الأمر بنبي كعيسى، هي أمور ليس فيها ما يدعو إلى الاستغراب، وهي تقوم برهاناً على مدى تجذر هذه الأعراف [عند المسلمين]. ومن بين أقدم الأعياد الشمسية الضاربة في القدم والتي بقيت مرعية عند أهالي شمال إفريقيا ينبغي أن نذكر «إنَّاير» و»العنصرة». إناير (ناير) يعد الرحامنة في إنَّاير، أي في الأول من يناير، أكلة الدشيشية بالزيت، ثم يصطنعون كرة من تلك الدشيشة يضعونها فوق الخيمة في ذلك اليوم إناير نفسه، ثم يعودون ليروها في اليوم الذي بعد، فإذا وجودها قد تبللت وترطبت كانت علامة على أن السنة [الفلاحية] ستكون جيدة، وإلا كانت علامة على أن سنتهم ستكون عجفاء ماحلة. ومن عادتهم كذلك أن يطعَموا «العصيدة»، وهي أكلة ثقيلة يعدونها من دقيق الشعير. ويجعل الشياظمة كرات من تلك العصيدة في العراء خلال الليل، ليتعرفوا كيف تكون سنتهم [الفلاحية]. وأما أهل حاحا فالعادة عندهم أن يطعموا «تاكلة» (الاسم الأمازيغي للعصيدة) بالزبدة والعسل، وأما فقراؤهم فيجعلون معها زيت أركان، وكذلك يتناولون عسلاً قوياً ويشربون اللبن. ومن المعلوم أن عادة الناس في أكل العصيدة في المنقلب الشتوي، أي ثمانية أيام قبل إناير، تعتبر عرفاً واسع الانتشار. ولا تزال العادة جارية في قرانا الفرنسية على أكل عصيدة أعياد الميلاد، وعلى الصورة نفسها يحتفل الشرقيون بميلاد سيدنا عيسى؛ فهم فيه يطعمون عصيدة ثقيلة. ولما كانت عصيدة الحبوب أكلة ضاربة في القدم بطبيعة الحال فإن في هذا الأمر ما يشهد على أن هذه العادة تعود بأصولها إلى العصور القديمة. وهنالك بطبيعة الحال علاقة وثيقة بين إناير ومولد عيسى عند المسلمين، ولهذا العيد كذلك شيوع في المغرب، لكن تنقصنا المعلومات عن نوعية الاحتفالات التي يقيمونها في هذه المناسبة. ويفيدنا ماسكيراي أن أعياد الميلاد يحتفل بها كذلك سكان الأوراس، وأنهم تُعرف لديهم باسم بو ينّي، ثمانية أيام قبل إناير، وربما كان هذا الاسم مشتقاً من الاسم اللاتيني Bonus anus، وأما مرسيي فيذهب إلى أن «بو يني» معناها عيد الوتد، لأنهم في تلك المناسبة يغيرون جميع العصي التي يعلقون عليها الأواني المنزلية، ويقول إن هذا الاحتفال يتزامن مع إناير. وقد جئت في موضع آخر بفرصة مفادها أننا قد لا يكون من المتعذر أن نجد للكلمتين ببعضهما نسباً من اشتقاقياً. لكن ينبغي التثبت من التاريخ المضبوط لمختلف المناسبات والاحتفالات. فإن خلطاً كثيراً يعتور معلوماتنا؛ وربما كان هذا الخلط من صميم الواقع نفسه؛ فليس من المتعذر أن تكون السنة قد كان مبتدؤها في الزمن الماضي بالمنقلب السنوي وأن تكون الاحتفالات [بذلك المنقلب] قد وقعت مرتين بالمناسبات، مثلما أن من الممكن أن تكون السنة الرومانية قد ابتدأت في الماضي في الأول من مارس، فتكون الاحتفالات التي ترافق السنة الجديدة قد اختلطت على الناس بالاحتفالات بالمنقلب السنوي عندما صارت تقع في قريب منها. وعلى كل حال فإن العادة عند سكان المدن المغربية، كما في جهات أخرى كثيرة من شمال إفريقيا على أن يكون طعامهم في صوم العنصرة [الكسكس] بسبع خضاري. وفي مراكش يداومون على أكله أياماً ثلاثة، ويدخل في تلك الخضار السبعة اللفت والجزر والفول والحمص والقمح والزبيب والتمر، يطبخونها مع الكسكس. وتكون عشية إناير؛ أي يوم 31 و32 دجنبر، في جميع الأماكن، كأنها يوم للحداد. ويتفرد هذا اليوم بخاصية، وهي أن الناس فيه لا يطبخون شيئاً، ويكون فيه الكسكاس شيئاً لازماً لاغنى عنه. ومن عادتهم في الجزائر أن يقولوا في هذا اليوم : «ما يقفلوشي»، أي أنهم لا يحكمون وضع «الكسكاس» فوق الطنجرة. بل إنهم في كثير من المناطق لا يطعمون في هذا اليوم غير الأشياء الجافة، من قمح وفول وحمص يطبخونها بالماء وشيء من العسل. لكنهم يجعلون اليوم الذي بعدُ، أي الأول من يناير، يوماً للأفراح والمباهج؛ فهم فيه يطعمون [الكسكس ذا] السبع خضاري والزبدة والعسل والشفنج وغيرها من الأطباق اللذيذة. وإذا التقوا بعضهم تبادلوا المتمنيات بأن تكون سنتهم سنة سعيدة، وهي عادة قد درجوا عليها عند استهلال السنة الهجرية الجديدة؛ في يوم عاشوراء. وهذا مثال بسيط يبيّن لنا مرة أخرى أن الاستعمال التزمني للروزنامتين من شأنه أن يعقد الطقوس ويحير دارسي الفولكلفور. وهنالك اعتقاد لافت للانتباه وشديد الشيوع، وهو أنه في يناير يوجد دائماً في كل بيت شيء، مهما كان رهيفاً، يتكسر أو يتمزق؛ كصحن أو ثياب أو عصا...، ولو كان مجرد خيط أو قطعة قماش. وقد جرت العادة على أن يقوم الناس بتنظيف بيوتهم بالكامل ويجددوا بعض أثاث البيت.