الحلقة 10 شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ». وقع اختيارنا على عبد الواحد سهيل كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات.... عبد الواحد سهيل شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. عبد الواحد سهيل، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب. مؤتمر الحزب يلتئم في منزل عبد المجيد الذويب في سنة 1966 تعرفت على الرفيق إسماعيل العلوي. كان حينها طالبا يتابع دراسته بفرنسا. كان لقائي الأول به أثناء حفل للموسيقى والرقص نظمته داخل منزلي. كانت الحفلات والسهرات المنزلية وسيلة ذكية، بل ومثلى، لتحقيق التواصل المباشر بين الرفاق بعيدا عن أعين ومسامع البوليس. كنت قد وجهت الدعوة للرفيق عزيز بلال كي يحضر هذا الحفل الموسيقي علما مني أنه يحرص على لقاء الشباب وأنه يحب الاستماع للموسيقى، وخاصة لأغاني المطرب فريد الأطرش. وهو جانب من شخصية أستاذنا ورفيقنا عزيز بلال اكتشفناها كرفاق وكطلبة خلال إحدى الرحلات الجامعية. نعم. كان عزيز بلال حريصا على الاتصال المكثف بالشباب. لبى الدعوة التي وجهتها إليه. لكنه لم يحضر الحفل لوحده. بل جاء إليه مرفقا بشاب لم يسبق لي رؤيته أو حتى السماع به. فما أن حياني الرفيق عزيز بلال حتى بادر إلى تقديم الوافد لأول مرة إلى بيتي، قائلا: هذا إسماعيل العلوي. طالب يتابع دراسته بفرنسا. تبادلنا التحية وطلبت منه الدخول مستنجدا بالعبارات التي يستعملها عامة المغاربة للترحيب بضيوفهم وللتعبير عن فرحتهم بمقدمهم. في تلك الأمسية شاركنا بعضنا البعض الاستمتاع بالموسيقى والرقص ونقاش الأفكار المطروحة للنقاش الحر. كانت العلاقات الداخلية وسط الحزب، في ستينات القرن الماضي، تنتظم على شكل هرمي. كنا في حالة «شبه سرية» تقتضي منا توخي الكثير من الحذر خلال اللقاءات التي ننظمها أو خلال عمليات التواصل التي نجريها مع بعضنا البعض، سواء داخل الخلية الأساسية بكلية الحقوق، أو مع خلية تلامذة ثانوية مولاي الحسن والخوارزمي وخلية ثانوية الخنساء التي كانت تضم رفيقات مناضلات. لهذا كانت الحفلات الموسيقية الحل الأمثل. كنت أنشط داخل هذا المحور الطلابي –التلاميذي. ولم يكن مسموحا لي، إلى حدود تلك المرحلة، تجاوزه. كنت أغبط بعض الرفاق الطلبة الذين كانوا مكلفين بالاتصال بالفلاحين داخل البوادي، كتقليد دأب عليه الحزب. كان نشاطي محصورا في الدارالبيضاء. كانت مسؤوليتي لا تتجاوز الإطار الطلابي بالتنسيق مع الرفاق الطلبة الآخرين، كما لم تتعد أنشطتي، خلال هذه المرحلة، الالتزام بالتعاون على صعيد جريدة الحزب والالتزام بنشاطاتي الحزبية على مستوى خلية المدينة القديمة التي كنت أنشط بعض دوراتها، وأستقطب رفاقا جددا للحزب، ولعل ما يؤهلني ويساعدني على ذلك هو انتمائي لهذا الحي العريق. بعد تمرسي على صعيد هذه المسؤوليات، أصبحت عضوا قياديا في مكتب ناحية الدارالبيضاء إلى جانب أحمد بيوض وسي أحمد السربوتي وعبد الكريم فكري والحاج احمد بن بلا. كان الكاتب الأول لناحية الدارالبيضاء، آنذاك، هو الفقيه القوقجي. استفدت كثيرا من ممارستي للأنشطة الحزبية في مكتب الناحية الذي أصبحت عضوا فيه بداية من سنة 1966. أي ثلاث سنوات بعد التحاقي الرسمي بالحزب. فقد تمكنت من معرفة العديد من الأمور، وبات لدي إلمام بالتنظيم على مستوى العاصمة الاقتصادية. وفي السنة ذاتها التي حصلت فيها على عضوية مكتب ناحية الدارالبيضاء، تمكنت من حضور مؤتمر سنة 1966 الذي انعقد في أجواء تطبعها وتفرضها حالة السرية التي كنا مجبرين على العمل في ظلها. كان التهييئ لهذا المؤتمر جيدا جدا، وتمت مناقشة أطروحته بعمق على مستوى الخلايا. لم نعمد إلى تنظيم انتخابات، بل لجأنا إلى أسلوب التعيين تفاديا للتشهير بأنشطتنا، وحتى لا يتم الاطلاع على أسماء المؤتمرين الذين لم يكونوا سوى الكتاب الأولين للفروع والخلايا. وبالتالي كان عددهم لا يتجاوز بضع عشرات (40 إلى 50 مؤتمرا). هذا العدد القليل سمح بألا تتعدى أشغال المؤتمر يوما واحدا فقط، خصوصا وأنه التأم بمنزل عبد المجيد الذويب بعين السبع في الدارالبيضاء. ورغم ضيق الفضاء الذي التأم فيه المؤتمر، والذي لم يكن سوى منزل الرفيق عبد المجيد الذويب، الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير مدرسة تكوين الأطر، كان المؤتمر ناجحا على مستوى القرارات التي تم اتخاذها. فالحزب وضع، خلال هذه المحطة الهامة، قراءته الخاصة للاشتراكية العلمية بارتباط مع التراث التقدمي للحضارة العربية الإسلامية، وأعلن الديمقراطية اختيارا أساسيا لأسلوب تأطير المواطنين والارتباط أكثر بالشعب. كلها أفكار مهمة جدا تم تهييئها على مدار السنين من طرف قادة ومناضلي الحزب الذي سيعرف طريقه نحو الشرعية. وقد اختتم المؤتمر أشغاله دون وقوع حوادث ولا طرائف. كانت النصيحة التي يتبعها جميع الرفاق لتفادي الوقوع في أيدي رجال المخابرات هي «احضي اجنابك ورد بالك لا يشدوك البوليس «. وهي نصيحة حاولت إكساب الرفاق نوعا من النجاعة لصون ذواتهم ضد موجة القمع والتنكيل بالمناضلين وبالطلبة والتي زادت حدتها خلال انتخابات 1963 وأحداث مارس 1965. كنا نحتاط من البوليس الذي يلاحقنا ويترصد خطواتنا لمعرفة أماكن اجتماعاتنا السرية قبل مداهمتها، فنعمد في مسيرنا نحو هذه الاجتماعات أو اللقاءات إلى إلقاء نظرات خاطفة يمنة ويسرة والالتفات إلى الوراء في مناورات رشيقة لمعرفة الشخص المكلف بملاحقتنا. كان الاحتياط ضروريا للحيلولة دون الكشف عن أنشطتنا وأيضا لتفادي القمع القوي والتعذيب الرهيب في مخافر الشرطة. والواقع أن هذه الأجواء المتسمة بالمواجهة بين المناضلين والبوليس واستدعاءات الشرطة لحضور الكوميساريات والعرقلة المفتعلة للإجراءات الإدارية للحيلولة دون تمكين المناضلين وثيقة إدارية أو جواز سفر كباقي المواطنين، والحيطة والحذر لتفادي الوقوع في أيديهم لم تكن غريبة علي. فقد عشتها وعايشتها منذ السنة الأولى بكلية الحقوق بالدارالبيضاء أثناء مظاهرات سنة 1965 التي كنت في خضمها كطالب أوزع إلى جانب رفاقي الطلبة المناشير. في تلك السن كان انشغالنا هو تغيير نظام الحكم إلى نظام ديمقراطي وإقرار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبناء الاشتراكية. كان الهاجس الذي يؤرقنا كشباب اشتراكي هو بلوغ الاشتراكية. هاجس طبقي أساسا، وهاجس وطني وديمقراطي، هاجس واضح تعلمناه وسط حزبنا الذي تعلمنا منه أيضا، منذ ذلك الإبان، سياسة المواجهة والتناقض الأساسي والتناقض الثانوي والتحالفات... يمكن أن أقول إن السياسة لم تتغير منذ ذلك الوقت إلى اليوم. رغم كل هذه المضايقات، لم أكن أبالي بما يمكن أن يلحقني مادمت أدافع عن مبادئي وعن قضايا الشعب والطبقة الكادحة في الدائرة التي رسمها لي الحزب في مرحلة أولى والتي كانت تشكل بالنسبة إلي محيطا ضيقا مقارنة بطموحاتي. فعلى المستوى الوطني كنت مسؤولا على التنسيق الطلابي وعضوا في اللجنة الاقتصادية التي انضممت إليها بداية من السنة الثانية بعد التحاقي بالكلية. كانت هذه اللجنة الاقتصادية تضم الرفيق عزيز بلال ومجموعة من الرفاق. ظل نشاطي على هذا المستوى. وكنت استدعى للجنة المركزية التي لم أكن، إلى حدود سنة 1966، عضوا فيها. بيد أنني كنت أحضر في كثير من الأحيان أشغالها. فقد كانت لجنة مركزية لا يتعدى أعضاؤها 35 عضوا من الرفاق القياديين أساسا، وهم مثقفون يعيشون بالمدن، ومناضلون واعون يمتهنون الفلاحة كالرفيق المعطي اليوسفي، ومقاومون واجهوا الاستعمار كالسي المهدي المسكيني الذي كان يأتي من فاس. لم يكن من السهل بلوغ اللجنة المركزية وأخذ العضوية فيها خلال ستينات القرن الماضي. فالأمر كان يتطلب أن يحظى الرفيق بمستوى عال من الثقة لكي تضمك نفس القاعة التي كان عدد الرفاق أعضاء اللجنة المركزية فيها يعدون على رؤوس الأصابع. وفي بداية السبعينات بدأ العدد في الارتفاع شيئا فشيئا وتواصل هذا التزايد بعد بروز حزب التقدم والاشتراكية الذي عقد مؤتمره الأول سنة 1975 . وبعد هذا المؤتمر سأصبح عضوا رسميا في اللجنة المركزية، أناقش إلى جانب باقي الرفاق القضايا المطروحة وتوجه الحزب. هذا الأخير كان توجها واضحا يسهر عليه سي علي بكثير من الدقة. إنه التوجه الوحدوي مع اليسار والوحدة النقابية ومواصلة العمل والتعامل مع حزب الاستقلال رغم اختلاف الرؤى والمواقف في أكثر من محطة.