نحن به ملتزمون، وله ضامنون، وعلى حسن تطبيقه ساهرون دستور 2011 تعاقد سياسي جديد يفتح الباب أمام جيل جديد من الإصلاحات ويتطلب إبراز نخب جديدة شكل الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه جلالة الملك أول أمس السبت، بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لعيد العرش، محطة جديدة في المسار الإصلاحي الذي يقوده جلالة الملك منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين، وضع فيها جلالته خارطة طريق لتفعيل مضامين الدستور الجديد للمملكة. ودعا جلالة الملك إلى الفاعلين تنظيم انتخابات تشريعية في الآجال القريبة، من خلال جدولة زمنية مضبوطة لإقامة المؤسسات الدستورية الكفيلة بالتنزيل الأمثل للدستور. وأكد جلالة الملك في خطابه السامي أن الدستور الجديد يشكل أساس تعاقد سياسي جديد لترسيخ دولة القانون وحقوق الإنسان والحكامة الجيدة والتنيمة. وأعرب جلالته عن رفض أي ممارسة أو تأويل منافيين لجوهره الديمقراطي، إذ يعد ذلك خرقا لإرادة الشعب والملك. وشدد جلالته على رفض أي تباطؤ في تفعيل الدستور الجديد. وقال جلالة الملك إن دستور 2011، بصفته دستورا متقدما من الجيل الجديد للدساتير، يستلزم بالمقابل جيلا جديدا من النخب المؤهلة، المتشبعة بثقافة وأخلاقيات سياسية جديدة، قوامها التحلي بروح الغيرة الوطنية، والمواطنة الملتزمة، والمسؤولية العالية، وخدمة الصالح العام. المرحلة الحاسمة، إذن، التي دخلها المغرب، تضع الجميع كل من موقعه أمام مسؤولياته المتضمنة في الدستور والتي يجب القيام بها على أحسن وجه. فالأحزاب السياسية مدعوة إلى مضاعفة جهودها لتحقيق مصالحة المواطنين، وخاصة الشباب، مع العمل السياسي، بمفهومه الوطني النبيل. والمواطنون يتحملون على عاتقهم أمانة حسن اختيار ممثليهم. والمنتخبون مدعون لاستحضار تلازم المسؤولية بالمحاسبة كقاعدة دستورية لها جزاؤها القانوني وضوابطها الأخلاقية الملزمة. والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والاتصال لهما دورهما في البناء السياسي والحقوقي والتنموي كقوة اقتراحية، وشريك أساسي في توطيد هذا البناء. وفتح خطاب العرش الطريق سالكة أمام إصلاحات سياسية جوهرية تتماشى مع روح مضامين الدستور الجديد الذي صادق عليه المغاربة بأغلبية ساحقة في استفتاء فاتح يوليوز الماضي، وذلك بإقامة المؤسسات الدستورية في القريب العاجل اعتمادا على ثلاث مرتكزات أساسية. وأول هذه المرتكزات، الالتزام بسمو الدستور روحا ومنطوقا ونهج قويم ووحيد لتطبيقه، ثاني المرتكزات يتمثل في إيجاد المناخ السياسي السليم، مع الالتزام بتجسيد جوهره المتقدم على أرض الواقع. ثالث المرتكزات التي أكد عليها جلالة الملك هو العمل على روح التوافق الإيجابي على تفعيل المؤسسات الدستورية، بالاعتماد الجيد للنصوص القانونية الضرورية، والإصلاحات السياسية الهادفة لانبثاق مشهد سياسي مؤسسي جديد وسليم، كفيل بعدم إنتاج ما يشوب المشهد السياسي الحالي من سلبيات واختلالات. ووضع الخطاب الملكي خارطة طريق واضحة لتنزيل الدستور الجديد وما سيواكبه من إقامة المؤسسات الدستورية، تنطلق في إقرار القوانين الجديدة المتعلقة بالمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وشدد جلالة الملك على أن أي تأخير في تفعيل مقتضيات الدستور الجديد، يتنافى مع الطابع المؤقت للأحكام الانتقالية فيه، ويرهن دينامية الثقة التي يتيحها الإصلاح الجديد من فرص للتنمية وتوفير العيش الكريم للمواطن المغربي. وبعد إقرار القوانين الجديدة، ستتميز المرحلة الموالية بتنظيم الاستحقاقات التشريعية لانتخاب أعضاء مجلس النواب الجديد، الذي ستفرز نتائجها تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي سيتصدر نتائج الانتخابات، وفق الدستور، ومن تم تشكيل الحكومة المقبلة المنبثقة من أغلبية برلمانية، متضامنة ومنسجمة. وحدد الخطاب نهاية المسار الانتخابي، الذي سينطلق في مقبل الأيام، بتنصيب مجلس المستشارين بصيغته الجديدة الواردة في دستور 2011، كآخر حلقة من هذا المسلسل قبل متم السنة المقبلة، اعتبارا بأن تنصيب الغرفة الثانية من البرلمان مرتبط بالمصادقة على القوانين التنظيمية والتشريعية المتعلقة بالجهوية المتقدمة والجماعات الترابية، والغرفة الثانية، وإجراء الاستحقاقات الانتحابية الخاصة بها. ودعا جلالة الملك كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لتوفير الظروف الملائمة لجعل المسار الانتخابي المتعدد، الذي سيمتد على قرابة السنة، الالتزام بقيم النزاهة والشفافية، والتحلي بالمسؤولية العالية، وجعل المصالح العليا للوطن والمواطنين فوق كل اعتبار. استكمال المؤسسات الدستورية سيتواصل من خلال إقرار التشريعات المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمحكمة الدستورية، بنفس الاستعجالية التي يتطلبها إقرار القوانين المتعلقة بالمؤسسة التشريعية. وتتمثل المرحلة المقبلة في تفعيل مضامين الدستور الجديد للمملكة، على المدى المتوسط، في التأهيل التشريعي العام، باعتباره أحد الأوراش الموكول تفعيلها للحكومة والبرلمان المقبلين، قبل نهاية الولاية التشريعية المقبلة؛ حيث دعا الخطاب الملكي إلى بلورة خارطة طريق مضبوطة لإعداد واعتماد مختلف هذه القوانين التنظيمية، وإقامة المؤسسات المرتبطة بها، سواء كانت مؤسسات حقوقية أوتنموية. ودعا جلالة الملك الجميع، كل من موقعه، إلى التعبئة الشاملة والمشاركة المواطنة والملتزمة في بناء الصرح الدستوري، من أجل تجاوز الصعوبات التي قد تقف أمام التطبيق السليم للدستور الجديد، من خلال العمل بروح الثقة والعمل الجماعي، بعيدا على «نزوعات التيئييس والعدمية، والممارسات التضليلية البالية» يقول جلالة الملك. وأكد صاحب الجلالة أن التعاقد الدستوري والسياسي الجديد سيظل صوريا إذا لم يقترن بانبثاق تعاقد اجتماعي واقتصادي تضامني، يجعل كل مواطن ومواطنة يلمس الأثر الإيجابي لهذه الحقوق على معيشه اليومي، وعلى تقدم وطنه. وبالتالي فإن تفعيل آليات الدستور الجديد، «لا يجوز أن يحجب عنا ضرورة مواصلة جهود التنمية؛ كرافعة قوية لتسريع وتيرتها، في حفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية والمالية، التي صارت قاعدة دستورية. وكما أن الدستور الجديد يشكل تعاقدا سياسيا جيدا، بما يتيحه من توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، فإنه يتطلب إطلاق «جيل جديد من الإصلاحات العميقة» كما قال جلالة الملك، من أجل مواصلة التصدي لمظاهر البطالة والفقر، والهشاشة والأمية، وتيسير أسباب ولوج كل مواطن، لجوهر هذه الحقوق، من تعليم نافع، وعمل منتج، وتغطية صحية، وسكن لائق، وبيئة سليمة، وكذا من تنمية بشرية، خصوصا مواصلة التفعيل الأمثل لبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. كما أن التعاقد الاقتصادي الجديد، انسجاما مع مضامين الدستور الذي يكرس دولة القانون في مجال الأعمال، يقتضي الاهتمام بمنظومة الإنتاج الاقتصادي، وإذكاء روح المبادرة الحرة، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، وإقرار الحقوق والهيئات الاقتصادية الضامنة لحرية المبادرة الخاصة، وشروط المنافسة الشريفة، وآليات تخليق الحياة العامة، وضوابط زجر الاحتكار والامتيازات غير المشروعة، واقتصاد الريع، والفساد والرشوة. وجدد الخطاب الملكي التأكيد على أن قضية الوحدة الترابية تظل أسبقية الأسبقيات في السياسة الداخلية والخارجية للمملكة، والدفاع عن سيادة ووحدة البلاد التي لا مجال فيها للمساومة. وأكد جلالة لملك أن التطور المؤسسي والتنموي المتميز الذي انخرط فيه المغرب، القائم على إرساء دعائم الجهوية الموسعة، والحكامة الترابية، بكل مناطق المملكة، وفي صدارتها الأقاليم الجنوبية؛ سيشكل دعما قويا لمبادرة الحكم الذاتي، كحل سياسي ونهائي للنزاع المفتعل حول صحرائنا، وذلك من خلال تفاوض جاد، مبني على روح التوافق والواقعية، وفي إطار المنظمة الأممية، وبالتعاون مع أمينها العام، ومبعوثه الشخصي. وأضاف جلالة الملك أن الدستور الجديد للمملكة، بما يكرسه من تشبث بالمرجعيات والقيم الكونية المثلى، ومن سمو للمواثيق الدولية على التشريعات الوطنية، يشكل رافعة قوية لعمل الدبلوماسية الوطنية، في خدمة المصالح العليا والقضايا العادلة للمغرب، وتعزيز إشعاعه الجهوي والدولي.