الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    جوائز الكاف: المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض        حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من تاريخ الحركة الصوفية المغربية
نشر في بيان اليوم يوم 05 - 05 - 2022

إن التعرف على الحركة الصوفية المغربية فكرا وممارسة من خلال رصد علاقتها بالمجتمع وبالسلطات الحاكمة والمذاهب الدينية والفقهية السائدة في كل مرحلة من المراحل، يكتسي أهمية قصوى لفهم تحولات خطابها وأنماط مؤسساتها وأبرز رجالاتها ومظاهر تفاعلاتها الداخلية والخارجية.
ونظرا للصعوبات الجمة التي اعترضت الباحثين(1) في إنجاز هذه المهمة أمام ندرة الآثار الكتابية الكافية التي تسمح بدراسة وافية للظاهرة الصوفية في المغرب عبر التاريخ خاصة في القرون الأربعة الأولى للفتح الإسلامي للمغرب؛ فإننا سنقتصر في هذا الصدد على رصد أهم المميزات والسمات التي بصمت الحركة الصوفية المغربية في علاقتها بالحركة الصوفية في الأندلس، ما دام أن العلاقة بين الحركتين، علاقات متينة منذ بدايات فتح الأندلس ثم في العهد المرابطي والموحدي حيث أصبحت الأندلس جزء لا يتجزأ من الدولة المغربية. وعليه، يمكن التمييز في تاريخ الحركة الصوفية المغربية بين خمس محطات تاريخية كبرى:
أولا، مرحلة البدايات، وتشمل الفترة القائمة بين الفتح الإسلامي للغرب الإسلامي إلى قيام الدولة المرابطية.
ثانيا، مرحلة التأسيس التي امتدت من أواخر الدولة المرابطية إلى الدولة الموحدية.
ثالثا، مرحلة التجذر والانصهار التام في البنية الدينية والثقافية المغربية التي امتدت من نهاية الدولة المرينية إلى احتلال المغرب من طرف فرنسا وإسبانيا سنة 1912.
رابعا، مرحلة الاضمحلال والضمور.
خامسا، مرحلة الانتعاشة وإعادة البعث.
1 بدايات الحركة الصوفية في المغرب
وتشمل الفترة التي تبتدئ من الفتح الإسلامي للمغرب الكبير وتنتهي بنهاية القرن الخامس الهجري. إن استكمال عملية الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا والغرب الإسلامي جاءت في سياق القيادة الأموية للدولة الإسلامية. ومن دون شك، فإن إنجاز هذه المهمة بنجاح لا يقتصر فقط على الجانب العسكري رغم أهميته الحاسمة، بل يقتضي نشر القيم الدينية الجديدة والعمل على ترسيخها في بنية المجتمعات التي تم إخضاعها، وهذا ما يفترض أن يضطلع به عادة مجموع الفاتحين، ثم صفوة رجال الدين أي القراء والفقهاء. ولأن عملية الفتح ترافقها حركة السكان إلى المناطق الجديدة، يجعل فرضية تواجد زهاد وعباد بينهم أمر وارد للاستقرار بها. ومما يعزز هذه الفرضية الأخيرة، هو النتائج التي نجمت عن الصراع على الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وامتداداته بين المناصرين أو الرافدين لكل طرف من طرفي الصراع خاصة في أطراف الدولة الإسلامية ومن ضمنها الغرب الإسلامي الذي شهد ميلاد عدة إمارات ودول جديدة خارج السلطة المركزية للخلافة الإسلامية والتي كان من أبرزها:
قيام الإمارة البورغواطية الخارجية بالمغرب.
إمارة بني صالح بنكور.
إمارة بني مدرار بسجلماسة
قيام الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى.
استمرار الخلافة الأموية في الأندلس رغم سقوطها في دمشق.
ورغم طول هذه المدة التي عرفت نضج التصوف الإسلامي في المشرق، فإن حضورها في الغرب الإسلامي تم بتفاوت بين الأندلس والمغرب، ولازالت الدراسات المتخصصة بشأن بدايات نشأتها قليلة.
وللتعرف على جوانب من إرهاصات الزهد والتصوف طوال هذه المرحلة في المغرب والأندلس، سنعتمد على بعض الكتابات التي تطرقت إليها. فبخصوص المغرب، ذكر عبد اللطيف الشاذلي أنه: "لا يظهر في هذه الفترة ممن استطعنا الوقوف على ترجمته من الصلحاء سوى صالحين اثنين في القرن الرابع وخمسة صلحاء في القرن الذي يليه. ولا نعتقد أن الفترة خلت من رجال خيرين صلحاء، بل نرجح أن يكون غياب ذكر "صلحاء" بالمعنى الاصطلاحي ناتجا عن عدم وجود مقياس معياري للتصنيف"(2). وقد أضاف أنه لا يمكن الحديث مطلقا عن استقرار جهاز صوفي بتنظيماته ورجاله وبنائه الفكري طول تلك المرحلة. ويرى عبد الله الحسيني أنه يصعب "تعيين بداية منضبطة في الزمان والمكان للممارسة الصوفية على أرض المغرب وذلك ناتج عن ندرة الإشارات التاريخية في الموضوع، وراجع إلى اندماج المنحى الصوفي في الحياة الدينية العامة في القرنين الأولين الهجريين"(3). ومما يؤكد ذلك، أنه كان يصعب الفصل بين الأشخاص وتصنيفهم بين فقيه ومتصوف والتمييز الدقيق بين الزهد والتصوف. بيد أن التصوف المعرفي وما يصاحبه من إشراقات وأذواق ومصطلحات، يبدو أن المغرب "قد تأثر بذلك بعض الشيء باتصاله بحاضرة القيروان التي كانت تردد فيها نشاطات صوفية مشرقية… ومن القيروان هاجر بعض الأهالي إلى لمغرب حيث استوطنوا بعض مدنه وبواديه، وخصوصا حاضرة فاس وأغمات. ويعتبر بعض الباحثين المعاصرين أن أبا عمران الفاسي هو أول من أدخل طريقة الإمام الجنيد إلى أفريقيا بعد عودته من الديار المقدسة"(4). ومما يدل على بذور الظاهرة الصوفية في المغرب خلال تلك المرحلة، وجود رباطين شهيرين هما:
رباط شاكر الذي هو أول رباط بالمغرب، أسسه شاكر بن عبد الله الأزدي وهو من أصحاب عقبة بن نافع الفهري. و"قد كان يجتمع فيه صلاح المغرب ولا سيما في شهر رمضان من أجل ختم القرآن، وحيث كانت منابر الوعظ والإرشاد من أجل نشر الإسلام وتثبيته في أوساط المصامدة وغيرهم"(5).
رباط تيط الذي تنسب اللبنة الأولى في تشييده إلى الشيخ إسماعيل بن سعيد، جد الأمغاريين باعتباره أول من استقر منهم في المنطقة، وذلك منذ حوالي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري.
أما فيما يتعلق ببلاد الأندلس، فقد خصص محمد العدلوني الإدريسي الفصل الثاني من كتابه "التصوف الأندلسي أسسه النظرية وأهم مدارسه" للتعريف بالمرحلة الابتدائية في تكون التصوف الفلسفي بها. وقد ذكر مجموعة من المعطيات والأخبار التي تشير إلى إرهاصات التصوف بها نجملها في النقاط التالية:
أخبار جماعة من التابعين وتابعي التابعين الذين وفدوا إلى الأندلس إبان الفتح الأول ومن أهمهم: حنش بن عبد الله الصنعاني (ت 100 ه)، وعلي بن رباح (ت 114ه)، وميمون بن سعد وابنه داود، وأبو الفتح الصدفوري وفرقد السرقسطي كانا يرابطان في ثغري سرقسطة وفنيرية(6).
ظهور الزهد الجماعي عند بزوغ القرن 3ه وذلك عبر الحج والرحلات إلى المشرق العربي الإسلامي توجت بظهور أهم مدرسة زهدية صوفية فلسفية وهي مدرسة ابن مسرة الجبلي، التي سيكون لها أثر هام في تصوف الغرب الإسلامي(7).
شيوع تسمية زهاد وعباد هذه الفترة بالأبدال أولياء الله ثم المتصوفة. فالأبدال في مفهوم الصوفية "رجال صالحون يروون الحديث في هذه الأمة الإسلامية عندما يشتد غضب الله ونقمته عند تفشي الخطايا، وكلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا من هؤلاء"(8).
بناء أربطة صغيرة للعبادة والتأمل والجهاد والمرابطة على غرار الربط في أفريقية ومتصوفة المشرق(9).
أول من تلقب بلفظ الصوفي في الأندلس، هو عبد الله بن نصر القطبي أواخر القرن 3ه(10).
بداية الاصطدام بين المتصوفة وفقهاء المالكية(11).
بروز شخصية ابن مسرة (269ه – 319ه) الذي سيكون له أثر فعال في الحياة الفكرية عامة والفلسفية والصوفية الإسماعيلية خاصة. فهو نتاج تلاقح بين تسرب التشيع إلى الأندلس والاعتزال والفلسفة متضمنة في العلوم عامة والطب خاصة(12).
2 مرحلة التأسيس: المرابطون والموحدون
أ- العصر المرابطي:
ذكر إبراهيم القادري بوتشيش في كتابة "المغرب والأندلس في عصر المرابطين"، أن ظاهرة الأولياء والمتصوفة من الظواهر البارزة التي طبعت الحياة الاجتماعية في المغرب والأندلس خلال المرحلة الأخيرة من العصر المرابطي. أما فيما يتعلق بالأسباب والعوامل الأساسية التي تقف وراء ظهورها وانتشارها، فالكاتب يحددها فيما يلي:
على المستوى الاقتصادي: نضوب موارد اقتصاد المغازي الذي شكل حجر الزاوية في سياسة المرابطين. (غنائم المعارك، الضرائب الشرعية وغير الشرعية، الجزية والخراج، مداخيل تجارة السودان).
على الصعيد السياسي: احتكار السلطة وجعلها قاصرة على العناصر اللمتونية والفقهاء المالكيين وما نجم عنه من إقصاء للقوى الاجتماعية الأخرى وهذا ما سيدفع بالمتصوفة لتمثيل المعارضة لإعادة التوازن في العلاقات الاجتماعية بين السلطة الحاكمة والمعارضة.
وعلى المستوى الاجتماعي: بزوغ التفاوت "الطبقي" بين فئات المجتمع وذلك بازدياد الرفاه المادي لطبقة الخاصة، وفي المقابل، ازدياد ألوان من البؤس والفقر لدى طبقة العامة. ناهيك عن عصف الأمراض والمجاعات بأرواح العديد من الشرائح الاجتماعية وانتشار القحط والغلاء.
على المستوى الثقافي: تجلت الأزمة في محاربة التيار العقلاني وتضييق الفقهاء الخناق على كل أشكال التعبير.
على الصعيد الأخلاقي: انتشار جملة من الظواهر السلبية مثل تردي السلوكات الأخلاقية وشيوع البدع والمنكرات، وسيادة مظاهر الانحلال والتفسخ واستشراء وسائل اللهو بأنواعها، ويعزى هذا الأمر حسب نظرية ابن خلدون إلى مرحلة هرم الدولة.
في ظل هذه الأوضاع المتأزمة، برزت أصوات متعددة للتعبير عن "الرغبة في الخلاص إما بواسطة نبي أو مصلح"(13). فبالإضافة إلى الشهادات الفردية التي سجلها مجموعة من الكتاب والقضاة والشعراء تعبيرا عن استيائهم من سوء الأحوال، نجد بروز حركة التصوف وحركة المهدي ابن تومرت.
لقد كان للتلاقح الروحي بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه، دور بارز في انتشار التصوف في المغرب عن طريق الرحلة والحج والتجارة. علما أن التصوف في المشرق كان قد بلغ أوجه بظهور مذاهبه وطرقه ورواده الجدد الذين يأتي في مقدمتهم أبو حامد الغزالي الذي لا يخفى دوره البارز في ميلاد التصوف بالمغرب، "فقد وجدت تعاليمه ونظرياته التصوفية التربة الخصبة في المغرب والأندلس"(14). ومن الشخصيات الأولى التي جسدت عملية التلاقح نذكر:
من أشهرهم صالح بن حزرهم الذي أخذ عن الغزالي ثم عاد إلى فاس.
لقاء أبي مدين شعيب الشيخ عبد القادر الجيلاني في الحج.
لقاء عبد الجليل بن ويحلان بشيخه أبي الفضل الجوهر المصري.
قول الشيخ عبد القادر الجيلاني إن القرين الذي يضاهيه في البلاد الإسلامية هو: "عبد حبشي بالمغرب اسمه آل وكنيته أبو يعزى".
وتتمثل أهم التيارات الصوفية التي كانت سائدة في تلك المرحلة فيما يلي:
يصنف إبراهيم القادري بوتشيش الحركة الصوفية في تلك المرحلة إلى تيارين رئيسيين، يتشكل كل واحد منهما من اتجاهات.
التيار الأول، وهو الذي طبع الحياة المغربية، يصفه المؤلف بأنه "التصوف السني الساذج" الذي يتميز ببساطته وبعده عن الخوض في القضايا الفلسفية. ويمكن تصنيفه إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول، نهج أصحابه نوعا من المجاهدة النفسية والتقشف والزهد في سلوكهم اليومي(15).
الاتجاه الثاني، يمثله مجموعة من الزهاد الذين تبنوا وفضلوا مبدأ المجاهدة العملية المتمثلة في المرابطة والثغور والحصون والرباطات المتاخمة للممالك النصرانية للدفاع عن دار الإسلام.
الاتجاه الثالث، يطلق عليهم الكاتب اسم "الغزاليين السذج" الذين تأثروا بمبادئ الغزالي دون أن يتعمقوا فيها أو تكون لديهم رؤية فلسفية واضحة، بل أن بعضهم كان أميا مثل أبي يعزى الذي تنعته المصادر بالولي العارف، أو القطب؛ ومن أعلام هذا الاتجاه كذلك نجد أبي الفضل ابن يوسف بن النجوي، وأبو عبد الله الدقاق السجلماسي. ثم تلميذه أبي مدين شعيب. ومن مميزات هذا الاتجاه ارتكازه على "الكرامة الصوفية والبركة"، والتشديد على الجانب الأخلاقي والنزوع دوما إلى السلام ويميل إلى معايشة ومهادنة السلطة(16).
أما التيار الثاني، فقد طبع الحياة الأندلسية، ويصفه المؤلف بأنه "التصوف السني الفلسفي"، ظهر في العصر المرابطي، وبلغ قمة تطوره مع ابن عربي في العهد الموحدي. من مميزاته:
بداية التأثر بالتراث اليوناني كفلسفة أفلاطون وأرسطو، وبالفكر الفلسفي المشرقي ممثلة في مؤلفات الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا ومصنفات المتكلمين لاسيما المعتزلة.
وقد تشكل هذا التيار من اتجاهين:
الاتجاه المعتدل الذي تبنى أفكار الغزالي القائمة على "مجاهدة النفس والميل إلى العلوم الباطنية والزهد في كل شيء". وقد ظل معارضا للسلطة بشكل سلمي. ومما تميز به، ارتكازه على قاعدة المذهب المالكي. ومن رواد هذا الاتجاه، نجد ابن العريف، وابن برجان.
الاتجاه الباطني المتطرف، ويمثله أبو القاسم بن قسي الذي كانت له رؤية خاصة تميل إلى العنف والثورة على أولي الأمر.
وتتمثل القواسم المشتركة لتلك الاتجاهات الصوفية في العناصر التالية:
وحدة الموقع الاجتماعي للمتصوفة(17).
كثرة العبادة والتجهد.
المسلك التقشفي في الحياة الاجتماعية طعاما وثيابا وسكنا(18).
امتلاك ثقافة دينية متينة وانفتاح على مختلف العلوم بالنسبة لعموم المتصوفة(19).
الاهتمام بالجانب الإنساني في العلاقات الاجتماعية سلوكا ومبدأ(20).
استثمار فكر الكرامات لترسيخ شرعيتهم الدينية والاجتماعية والاعتبارية والسياسية، وبالتالي اعتبار "الأولياء بمثابة النخبة الوحيدة المؤهلة لقيادة المجتمع"(21)؛ مادام أنهم قادرون على خرق العادة، وتحدي سنن الطبيعة والمألوف، ويختلفون عن الإنسان العادي.
اتسام البدائل التي طرحها التيار الصوفي المعتدل بالمثالية والحلول الانهزامية في مواجهة أزمة المجتمع وقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
توجس السلطة المرابطية من خطابهم وممارساتهم جعلتها تتخذ سلوكا مزدوجا اتجاههم، يتسم تارة بالمراقبة الصارمة والتشدد الذي يصل أحيانا إلى التخويف والاعتقال والسجن والاغتيال. وتارة أخرى، بالاحتواء والتقارب.
في حين أفرز التيار الصوفي حركة سياسية لجأت إلى أسلوب الثورة والعنف الذي سلكه أحمد الحسين بن قسي أحد الأعلام البارزين في تاريخ التصوف بالغرب الإسلامي(22).
ب- العصر الموحدي:
يقسم محمد الشريف تاريخ الحركة الصوفية بالعصر الموحدي إلى ثلاث فترات أساسية:
فترة البدايات، في عهد المهدي ابن تومرت وعبد المؤمن ثم ابنه أبو يعقوب يوسف التي تميزت باستثمار قوة المتصوفة في البدء لصالحها للوصول إلى السلطة، ثم مباشرة بعد ذلك، انتهاج سياسة قمعية واحترازية إزاءهم.
فترة الوسط، في عهد أبي يعقوب يوسف ويعقوب المنصور، والتي تميزت بالصرامة مع النزوع نحو المرونة وسياسة الاستقطاب ومحاولات ترسيم الممارسة الصوفية في إطار طوائف.
فترة الانحلال الموحدي خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري.
وقد تميزت الفترة الأولى بما يلي:
محاولة المهدي بن تومرت إعادة إنتاج الرمزية النبوية في ممارساته السياسية والدينية.
العمل على إعادة إنتاج الرمزية الصوفية عن طريق إبراز المنحى الزهدي التقشفي والكرامي (التنبئي) في سيرته الذاتية.
نهج سياسة قمعية احترازية من طرف عبد المؤمن بن علي تجاه ثورتين هامتين ضد السلطة الموحدية خلال سنوات 541ه / 546ه، بزعامة شخصيتين ذات منحى صوفي. الثورة الأولى، قادها ابن هود برباط ماسة بمساندة الجماعة الصوفية المرتكزة فيه. ثم الثورة الثانية، بزعامة أبي القاسم ابن قسي، والتي كان مسرحها منطقة الغرب الأندلسي. وقد لعبت دورا كبيرا في التعجيل بانهيار السلطة المرابطية، وتعرف هذه الحركة ب "الحركة المريدية". ناهيك عن ثورة أخرى، يفترض أنها من إيحاء صوفي كذلك قادها "يدر الدكالي" في منطقة دكالة(23). ولأن هذه الثورات اندلعت وسلطة الموحدين ما تزال تبحث عن توازنها، ولم تثبت دعائمها بعد، فقد جوبهت بصرامة وشدة.
الفترة الثانية، اتسمت بما يلي:
بداية مراجعة موقف الريبة والصرامة تجاه المتصوفة وانتهاج نوع من المرونة مع رجال التصوف أخذا بعين الاعتبار قوتهم وتغلغلهم في المجتمع.
السعي إلى استقطابهم وإدماجهم في السياسة الإصلاحية التي نهجها يعقوب المنصور القائمة على ثلاث ركائز: إنجاز إصلاحات اجتماعية وأخلاقية، والتحضير للعمليات الجهادية بالأندلس، وسياسة ترسيم التعليم الصوفي، وتنظيم التيار الصوفي في شكل طوائف.
بداية التحول من التصوف الفردي إلى التصوف الجماعي المنظم الذي سيستفحل في عهد انحلال الدولة الموحدية.
أما الفترة الثالثة، فقد تمثلت في انحلال الدولة الموحدية، ومن مميزاتها الأساسية ما يلي:
اشتداد التوتر بين السلطة الموحدية وأتباع التصوف خاصة بعد هزيمة العقاب سنة 609ه التي أحدثت شرخا هائلا في بنية الدولة العسكرية وفي توازناتها الاجتماعية مما نجم عنها انقسام الإمبراطورية إلى كيانات مستقلة.
نبذ العقيدة التومرتية من طرف الخليفة المأمون.
نهج سياسة مزدوجة تجاه التصوف: من جهة، السعي إلى إضعاف الطوائف الصوفية المنظمة في رباطات ومحاولة إبعادها عن الخصم المريني. ومن جهة أخرى، السعي إلى الحصول على ثقة المتصوفة غير المنتمين لتلك الطوائف.
تشجيع ظهور الطوائف الصوفية الموالية للسلطة الموحدية(24).
اندلاع ثورات ضد الموحدين بالأندلس يلمس فيها تأثير المتصوفة السياسي مثل ثورة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود في مرسية سنة 625ه(25).
العصر المريني الوطاسي
سنعتمد في رصد أهم مواصفات الحركة الصوفية في هذا العهد، على كتابات محمد القبلي حول تاريخ المغرب، وعلى مؤلف "التصوف والمجتمع" لعبد اللطيف الشاذلي.
في البداية، سنرصد السمات العامة لوصول هاتين الأسرتين إلى الحكم حتى نتمكن من فهم أفضل للعوامل التي ساهمت في تجذر وانصهار الحركة الصوفية في بنية المجتمع. ثم في خطوة ثانية، سنحدد أهم المحطات التاريخية التي مرت منها وكيفية تعامل الدولة معها.
يمكن تحديد أهم السمات الدينية للدولة المرينية فيما يلي:
– إن الدولة المرينية قامت بالدرجة الأولى على "العصبية القبلية الزناتية"، فهي لم تصل إلى الحكم ارتكازا على دعوة دينية معينة كما كان الشأن بالنسبة للمرابطين والموحدين.
– رافقت هذه الانطلاقة أزمة مشروعية دينية طوال حكمها رغم حرصها على العمل في إطار المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية.
– ومما غذى أزمة مشروعيتها الدينية، أنها كانت تتحرك بداية في إطار النفوذ الديني للدولة الحفصية الحاكمة بإفريقية التي كانت تدعي حصولها على بيعة أشراف الشرق قبل أن تستقل عنها سنة 1277م.
– إن المرحلة التاريخية التي جاءت فيها سلطة المرينيين والوطاسيين مرحلة انتقالية بين العصر "الوسيط" والعصر "الحديث" في أوروبا. أما في المغرب فقد كانت مرحلة انتقال من الدول الإمبراطورية القائمة على عصبيات قبلية كبرى (المرابطون – الموحدون – المرينيون) إلى دولة "الشرفاء" المرتكزة على النسب الشريف كما هو الشأن بالنسبة للسعديين والعلويين.
– ومن مميزات هذه المرحلة كذلك، بداية حدوث انقلاب استراتيجي في ميزان القوى بين أوروبا والغرب الإسلامي أولا، ثم العالم الإسلامي بعد ذلك ثانيا. وما أشر على هذا التحول التاريخي هو هزيمة الموحدين في معركة العقاب منذ سنة 1212م، وهدم مدينة تطوان سنة 1399م، ثم احتلال مدينة سبتة سنة 1415م، واجتياح المدن الساحلية المغربية من طرف البرتغاليين، وأخيرا سقوط غرناطة سنة 1492م.
– هذه الوضعية الجديدة ستضع المغرب في وضع حصار من الشرق ومن الشمال، مما سيضاعف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل توالي الأوبئة التي ضربت بشكل متواتر المغرب طوال ق 15م.
أما فيما يخص أهم المحطات التي مرت منها الحركة الصوفية في هذا العصر، فهي:
في بدايات الدولة المرينية، نلاحظ امتداد نفوذ الطوائف الدينية التي تأسست أواخر العصر الموحدي. وما يدل على ذلك أن ابن قنفذ القسنطيني الذي جاب المغرب في منتصف القرن 8ه، أشار إلى وجود الطوائف(26) التالية:
الطائفة الشعيبية نسبة لأبي شعيب الصنهاجي المعروف بالسارية دفين أزمور (ت 561ه / 1156م).
الطائفة الأمغارية التي تأسست برباط تيط نفطر والتي تسمى كذلك بالطائفة الصنهاجية.
الطائفة الماكرية (الماجرية) أشهر الطوائف أسسها الشيخ أبو محمد صالح الماجري (ت 631 ه / 1231م).
"الحجاج" وغاياتهم تنظيم الحج ولهم علاقة بشيخ الطائفة المجارية.
الطائفة الحاجية من أصحاب أبي زكرياء الحاجي.
الأغماتيون وهم طائفة أبي زيد الهزميري.
ومن السمات الأخرى التي ميزت هذه المرحلة، ذكر عبد اللطيف الشاذلي المعطيات التالية:
إحصاء 525 صالحا، عاشوا في المغرب على مدى ثلاثة قرون من نهاية القرن السابع إلى نهاية القرن العاشر للهجرة.
شمول الصلاح كل جهات المغرب الطبيعية.
شمول الظاهرة الصوفية كل المجموعات السلالية أمازيغية وعربية(27).
تركز الصلاح في مناطق معينة مثل فاس ومراكش والقصر الكبير والريف الغربي وسهل الغرب وأزمور.
غياب شخصيات صوفية عن مسرح النشاط السياسي الرسمي في البلاد(28).
ظهور لفظ الزاوية مرادفة للفظتي الرباط والرابطة بين القرن 7 و8ه. أما قبل ذلك فكانت السيادة للفظتي الرباط والرابطة.
ظهور الزوايا مجسدة للصراعات الاجتماعية(29).
أما في المرحلة الأخيرة من الدولة المرينية الوطاسية، وخاصة أمام اشتداد الخطر الإيبيري على المدن المغربية، يلاحظ بأن المتصوفة لعبوا أدوارا مهمة في مواجهة المحتلين من خلال لعب دور الوساطة بين جهاز الدولة والقبائل في شمال المغرب مما ساهم في إفشال مخططاتهم في المواجهة الأولى التي شنتها القوات البرتغالية على طنجة والمناطق المجاورة. ومما له دلالته في هذا السياق التاريخي، هو تبلور الحركة الصوفية في ثلاثة اتجاهات كبرى ستحكم مسار الحركة الصوفية إلى حدود احتلال المغرب من طرف فرنسا وإسبانيا. ونظرا للمكانة الهامة التي لعبتها تلك التيارات الصوفية في تاريخ المغرب، سنسلط الضوء على روادها بشكل متواز مع رصد الخصائص التي ميزت خطابها الصوفي.
لقد خصص محمد القبلي حيزا هاما لدراسة وتحليل مكونات الحركة الصوفية المغربية خلال القرن الخامس عشر الميلادي. إن الحركات المستحدثة التي ميزت الحقل الديني في هذه الحقبة سعت إلى "تعزيز مكانة الشرفاء داخل المجتمع وتنامي دور المتصوفة بشكل غير مسبوق جعل من هذا القرن قرن التصوف بامتياز"(30). ومما لا شك فيه، أن هذه العبارة القوية بحمولتها الدلالية، تبرز بشكل ملموس الأدوار المركزية التي أصبح يحظى بها الخطاب الصوفي ورجالاته في البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية المغربية في عهد طغى فيه "إحساس مكين بالخوف لدى الفرد المغربي على نفسه وماله وذويه، إذ استحوذت عليه فكرة إمكانية التعرض للقتل أو الأسر في كل لحظة وحين"(31). ومن النتائج الوخيمة التي ستنجم عن هذه الأوضاع المتأزمة "أزمة ضمير حادة تجلت بشكل واضح في تعامله مع وضعه الخاص إزاء مشاكل عصره؛ حتى إذا حار في أمره، اعتقد أن ما ألم به مظهر من مظاهر الغضب الإلهي وعلامة من علامات قيام الساعة وظهور المهدي. من هنا أتى ارتباط المجتمع بقداسة الأولياء والالتجاء إلى الأضرحة تقربا منهم وطلبا لحمايتهم ضد بطش الطبيعة وطغيان البشر من مسيحيين ومسلمين على حد سواء"(32).
لقد شكل القرن الخامس عشر نقطة أوج التصوف المغربي و"انتهى إلى خاتمة أحقابه"(33). وتتجلى خلاصة هذه السيرورة في إقرار وترسيم مرجعية موحدة في التصوف، ويتعلق الأمر بالطريقة الشاذلية على غرار المذهب المالكي.
أصبحت هذه الطريقة، المحرك المركزي للحركة الصوفية المغربية منذ أواخر العهد المريني الوطاسي إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي الإسباني للمغرب. فهي في المرحلة الأولى، استوعبت وتجاوزت نظام الطوائف الصوفية وذلك ببلورة فكر صوفي وحد مختلف أطياف التصوف المغربي. وفي المرحلة الثانية، خاصة مع الحركة الجازولية التي تمكنت من إضفاء بعد جهادي للحركة الصوفية المغربية في مواجهة الخطر الإيبيري الذي تمكن من احتلال أجزاء هامة من الشواطئ الساحلية المغربية. أما في المرحلة الثالثة، فقد تحولت إلى قوة دينية وسياسية تهيكلت في شكل زوايا كبرى كانت لها أدوار بارزة طوال القرون الموالية للقرن الخامس عشر. ونشير على سبيل المثال إلى الزاوية الدلائية التي حكمت المناطق الوسطى بالمغرب لمدة، ثم نذكر النفوذ الكبير الذي أحرزته الزاوية الناصرية طوال القرن الثامن عشر ثم الزاوية الدرقاوية طوال القرن التاسع عشر. هذا ناهيك عن المكانة التي احتلتها زوايا أخرى مثل الزاوية الشرقاوية والزاوية الوزانية وأخيرا الزاوية الكتانية في المشهد الديني والسياسي. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، هو أن الطريقة القادرية كطريقة حركية كانت شبه غائبة عن تاريخ الحركة الصوفية المغربية، رغم أن أعمدة التصوف المغربي تتلمذوا على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني كما أشرنا إلى ذلك مع أبي يعزي وأبي مدين الغوث، واللذين بدورهما كان لهما تأثير قوي في رائدي التصوف المغربي عبد السلام بن مشيش وتلميذه الوحيد أبي الحسن الشاذلي.
مرحلة الضمور والاضمحلال
تمتد هذه المرحلة منذ بداية الحركة الوطنية المغربية المطالبة بالاستقلال السياسي التي انطلقت شرارتها الحديثة الأولى ضد ما سمي بالظهير البربري الذي أقرته السلطة الفرنسية للتمييز بين "البربر والعرب" بغية زعزعة الوحدة الوطنية للمغاربة. لقد قادت هذه الحركة الجديدة من جهة السلفية الوطنية المغربية التي جمعت بين التشبث بالقيم الإسلامية السمحة والانفتاح على القيم الإنسانية الغربية الحديثة الداعية إلى الديمقراطية والحرية والمساواة. ومن جهة ثانية، الفئات الأولى الأجنبية والمغربية التي تأثرت بالفكر اليساري والاشتراكي العالمي. ومما له دلالته، هو أن انضمام المؤسسة السلطانية ممثلة في الملك محمد الخامس إلى صف الحركة الوطنية المغربية منحها توهجا كبيرا أدى إلى خلق حركة سريعة لتحقيق الاستقلال بدءا من تقديم عريضة الاستقلال سنة 1944 إلى الحصول عليه سنة 1956. في ظل الوضع السياسي الجديد الذي عرفه المغرب، لوحظ أن الزوايا المغربية أخطأت موعدها مع التاريخ برفض التقاط التحولات الجديدة التي تقتضي الانخراط في العمل الوطني من أجل المطابة بالاستقلال. ولعل هذا ما يفسر كون السلطان المغربي محمد الخامس أصدر ظهيرا سنة 1946 يضع تنظيمات الزوايا تحت مراقبته المباشرة بعد ما تم ملاحظة انغماسها في خدمة المستعمر. ومما أكد هذا المنحى التواطئي الذي وسم موقف الزوايا والطرق الصوفية المغربية، هو مشاركتها الفعالة في تنظيم لقاء وطني برعاية الإدارة الفرنسية سنة 1953 استعدادا وتهييئا للأجواء السياسية والفكرية والنفسية لخلع محمد الخامس عن العرش.
والواقع أن استمرار استسلام الزوايا للمستعمر، هو الذي يفسر اضمحلالها وضمورها طوال الفترة الممتدة من بداية احتلال المغرب سنة 1912 إلى بداية الستينات حيث سيتم رفع الحصار عنها تدريجيا.
مرحلة الانتعاشة والانبعاث من جديد
المرحلة الخامسة، تمتد من بداية الستينات إلى الوقت الحاضر.
إن ما ميز هذه المرحلة الجديدة هي نهاية التحالف الذي جمع ما بين فصائل الحركة الوطنية واليسارية المغربية والمؤسسة الملكية المغربية. إن السبب المركزي الكامن وراء هذه الوضعية الجديدة هو اختلاف بل وتضارب استراتيجية كل طرف في سن وتدبير وتسيير الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما بعد الاستقلال. فإذا كان التوافق بينهما هو الذي ساد من 1956 إلى سنة 1961 تاريخ وفاة الملك محمد الخامس، فإن إقالة حكومة عبد الله إبراهيم ذات التوجهات اليسارية ستكون فاتحة عهد الصراع والتباعد بين المؤسسة الملكية والحركة اليسارية المغربية بخاصة في ظل الصراع الدولي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بين ما سمي بالمعسكر الاشتراكي والشيوعي وحركة التحرر الوطنية العالمية واليسار الغربي من ناحية، والقوى الاستعمارية والامبريالية العالمية من ناحية ثانية.
إن حدوث هذا الشرخ بين الطرفين هو الذي يفسر لجوء كل واحد منهما إلى حشد القوى المناصرة له بغض النظر عن الخلافات السابقة. ففي ميدان السياسة يبدو جليا أنه ليس ثمة عدو أبدي ولا صديق أبدي كذلك، فمصالح المرحلة هي التي تحدد بشكل أساسي التحالفات المناسبة.
إن هذه الأجواء الجديدة والتطورات الحاسمة هي التي ساعدت أنصار الزوايا المغربية على استئناف أنشطتهم بحرية أكبر. وفي هذا الإطار العام، فليتنافس المتنافسون في تقديم الخدمات المرجوة والمطلوبة والملائمة لكل فترة على حدة.
هوامش:
-1 أكد أحمد توفيق في دراسة له حول التصوف بالمغرب بموسوعة معلمة المغرب، أن التصوف الذي يعرف ب" التوحيد الخاص المبني على الاعتقاد بإمكان الوصل أي إدراك مباشر لبعض تجليات الذات أو حقائق الصفات واعتبار الروحانية النبوية أساسا لتحقيق ذلك على أكمل معانيه، كان ظهورا متأخرا بالنسبة للمشرق، وبالنسبة حتى لبلاد إفريقية والأندلس". وأضاف أن ذلك التأخر يتعلق بالآثار الكتابية الشاهدة عليه لا بتأخر الظاهرة نفسها. وقد أوضح الكاتب أن التصوف بمعناه الاصطلاحي لم يظهر إلا خلال القرنين السادس والسابع الهجريين حيث يمكن تصنيف من يدخلون في عداد المتصوفة الاصطلاحيين الذين ذكرت أخبارهم المصادر المشهورة التي أرخت للتصوف المغربي منها: كتاب محمد بن عبدالكريم التميمي وعنوانه: المستفاد في ذكر الصلحاء والعباد بفاس وما والاها من البلاد، ألفه قبل عام 572ه، وكتاب التشوف إلى رجال التصوف لمِلفه أبي يعقوب يوسف التادلي ألفه عام 617ه، وكتاب المقصد الشريف في صلحاء الريف لأبي يعقوب البادسي. ص 2391
-2 عبد اللطيف الشاذلي: التصوف والمجتمع نماذج من القرن العاشر الهجري، م س، ص 70.
-3 عبد الله الحسيني: التصوف وأهل التصوف في دكالة، ضمن كتاب رباطات وزوايا في المغرب، تنسيق أحمد الوارث، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 2007م، ص 238.
-4 المرجع نفسه، ص 239.
-5 المرجع نفسه، ص 240.
-6 محمد العدنوني الإدريسي، التصوف الأندلسي أسسه النظرية وأهم مدارسه، ط 1، مطبعة النجاح الجديدةالدار البيضاء، 2005م، ص 46.
-7 المرجع نفسه، ص 48.
-8 المرجع نفسه، ص 48.
-9 المرجع نفسه، ص 48.
-10 المرجع نفسه، ص 49.
-11 المرجع نفسه، ص 50.
-12 المرجع نفسه، ص 61.
-13 إبراهيم القادري بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين، ط 1، دار الطليعة – بيروت، 1993م، ص 128.
-14 المرجع نفسه، ص 129.
-15 المرجع نفسه، ص ص (130 – 131).
-16 المرجع نفسه، ص 131.
-17 المرجع نفسه، ص 131.
-18 المرجع نفسه، ص 134.
-19 المرجع نفسه، ص 134.
-20 المرجع نفسه، ص 139.
-21 المرجع نفسه، ص ص (140 – 141).
-22 المرجع نفسه، ص ص (163 – 164).
-23 المرجع نفسه، ص 42.
-24 المرجع نفسه، ص 84.
-25 المرجع نفسه، ص ص (90 – 91).
-26 عبد اللطيف الشاذلي، التصوف والمجتمع، م س، ص 149.
-27 المرجع نفسه، ص 64.
-28 المرجع نفسه، ص 269.
-29 المرجع نفسه، ص 174.
-30 محمد القبلي، تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، م س، ص 300.
-31 المرجع نفسه، ص 339.
-32 المرجع نفسه، ص 339.
-33 المرجع نفسه، ص 340.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.