تربط المغرب وإسبانيا مصالح مشتركة سياسية واقتصادية وتجارية وعسكرية وأمنية واجتماعية، متشعبة ومعقدة بحكم الجوار والتاريخ والموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام الذي يتقاسمانه. لذلك فالعلاقات بين البلدين تواجه تحديات كبيرة يتحكم فيها ماض عسير ومستقبل يبحث البلدان عن ترسيخ أسسه. فلا مناص من نهج حكومتي البلدين سياسة التعاون المشترك البناء ومراعاة المصالح الحيوية لكل طرف في إطار معادلة متكافئة ضمن رؤية منسجمة، بغية تحصين هذه العلاقات وتدعيمها. وإذا كانت إسبانيا قد تمكنت من الخروج من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية بفضل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي والدعم المتواصل الذي مكنها من إعادة هيكلة اقتصادها وتسوية أوضاعها الاجتماعية وتطوير بنياتها التحتية، فإن المغرب بدوره، وخلال العشرين سنة الأخيرة، حقق طفرة اقتصادية نوعية، تحسنت معها بنياته التحتية عبر العديد من المشاريع الإستراتيجية التي تحققت، وفي مقدمتها ميناء طنجة المتوسطي الذي بات يحتل اليوم مكانة الريادة في الملاحة المتوسطية، بل وأصبح منافسا قويا لموانئ إسبانيا. لكن الملاحظ أن إسبانيا تأبى في علاقتها مع المغرب إلا أن تتعامل معه بعقلية الماضي في محاولة لفرض هيمنتها والسعي للتحكم في إيقاع هذه العلاقات، الأمر الذي يرفضه المغرب ويمارس بدوره سياسة الند للند، ويدعو إسبانيا إلى الجلوس على طاولة الحوار وفق قاعدة المصالح المشتركة المتوازنة. ولمواجهة هذا الموقف المغربي القوي، فإن إسبانيا تمارس سياسة اللعب على الحبلين وهو أسلوب غير ودي مطبوع بالتناقض بين القول والفعل. فمن جهة تدعي إسبانيا تمسكها بمبادئ حسن الجوار والحرص على المصالح المشتركة والتأكيد على الحوار والتفاهم بين البلدين، وما إلى ذلك من العبارات التي يحتويها القاموس الدبلوماسي، بينما تمارس، من جهة ثانية، وعلى أرض الواقع أفعالا مناقضة لتلك المبادئ والشعارات التي ترفعها عن علاقاتها مع جارها الجنوبي، مطبوعة بالاستفزاز والإضرار بمصالح المغرب ومحاولات المس بسيادته. ويأتي في هذا السياق، استفزاز حديث فريد من نوعه، تمثل في تورط إسبانيا مؤخرا مع الجزائر في فضيحة من العيار الثقيل، بعدما استقبلت مجرم الحرب، زعيم البوليساريو المدعو إبراهيم غالي، الذي نقل من الجزائر إلى إسبانيا على متن طائرة رئاسية جزائرية، بجواز سفر دبلوماسي جزائري وهوية مزورة تحت اسم مستعار، بداعي تلقي العلاج، واتفق الطرفان على التستر على العملية. لكن المغرب اكتشف اللعبة بفضل يقظة أجهزته. والمثير للسخرية في هذه المؤامرة المدبرة من قبل الجانبين الإسباني والجزائري أن المدعو إبراهيم غالي الذي يسمي نفسه باسم "رئيس" "دولة" "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، لا يتوفر على جواز سفر باسم "دولته" الوهمية، بل يتحرك بجواز سفر جزائري، في اعتراف صريح من قبل السلطات الجزائرية أنه لا وجود لجواز سفر صحراوي طالما لا وجود لدولة من الأصل، بل حتى هوية الشخص تعمدوا إخفاءها. وللعلم فإن الانفصالي إبراهيم غالي، لم يتمكن من السفر إلى إسبانيا منذ سنة 2016، لكونه مطلوبا أمام العدالة الإسبانية في قضايا تتعلق بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وجرائم خطيرة ارتكبها في حق ضحايا أسبان ومغاربة، تستوجب القبض عليه ومحاكمته. ادعاءات الحكومة الإسبانية كون موقفها أملته "دوافع إنسانية"، ادعاءات غير مقنعة وتدعو إلى التساؤل، أولا حول مدى احترامها مبدإ فصل السلط الدستوري، بعد أن تجاوزت الحكومة اختصاصات السلطة القضائية وتغاضت عن مذكرة البحث القضائية في حق المدعو إبراهيم غالي، وذلك بالسماح له بدخول التراب الإسباني بدل اعتقاله فور وصوله بعد التأكد من هويته الحقيقية، وهو ملف آخر على القضاء الإسباني، بعد فشل الحكومة، أن يظهر مدى جديته واستقلاليته ونزاهته في التعاطي مع قضية قيد متابعة قضائية لإنصاف ذوي الحقوق. التساؤل الثاني الملح، لِمَ لَمْ تأخذ إسبانيا بعين الاعتبار ما تردده كون المغرب شريكها الاستراتيجي وتتحدث عن حسن الجوار والتعاون البناء، وهي تعرف جيدا أن المدعو إبراهيم غالي، هو العدو رقم واحد للمغرب، الذي أعلن صراحة ومنذ واقعة الكركرات أنه يقود حربا ضد المغرب. أما التساؤل الثالث، مرتبط بالمغامرة الإسبانية غير محسوبة العواقب، بالسماح باستقبال شخص تعلم جيدا أن وثائق سفره مزورة وأن صفته منتحلة، في خرق سافر للقوانين الجاري بها العمل بإسبانيا، وأيضا مخالفا للقوانين الموحدة الصارمة بين دول الاتحاد الأوروبي لدخول الفضاء الأوروبي، وهذا ما يثير شكوك الأوروبيين تجاه إسبانيا، ما يمس بالثقة بين السلطات الإسبانية والمغربية إزاء مجالات التعاون الأمني والاستخباراتي، التي ستتأثر سلبا لا محالة بهذا الحادث. تساؤل آخر يفرض نفسه، فقد غض الإسبان الطرف عن المواقف المشرفة التي تبناها المغرب في قضايا جد حساسة تتعلق بالوحدة الترابية لمملكة إسبانيا، أيام ثورة الحركة الانفصالية الباسكية، واليوم في قضية مطالب إقليم كاتالونيا بالانفصال، وقد وقف المغرب ضد أي نزعة انفصالية في إسبانيا وعبر من خلال مواقف صريحة أنه مع وحدة إسبانيا أرضا وشعبا. مما يدفع إلى مساءلة الأسبان عن هذه المفارقة الغريبة في تعاطيهم مع النزعات الانفصالية، فكيف يصارعون الحركات الانفصالية لصيانة وحدة بلدهم ويدعمونها ضد من وقف إلى جانبهم في قضايا مماثلة؟؟. خلاصة هذه التساؤلات، تكمن في الرغبة في التعرف على الرابح الأكبر من هذه الأزمة؟ تبدو للوهلة الأولى أن الجزائر هي التي كسبت من صفقتها مع الأسبان، فقد تخلصت من المدعو إبراهيم غالي وشرعت في البحث عن خليفته، كما تمكنت من خلق أزمة جديدة بين إسبانيا والمغرب. لكن إذا كانت الجزائر الرابح الأكبر، فمن هو الخاسر الأكبر؟ بالتأكيد إسبانيا التي استقبلت من الجزائر بضاعة منتهية الصلاحية غير قابلة للرواج في مكان آخر. إسبانيا التي تتودد بخطابها الدبلوماسي إلى المغرب تواجه موقفا لا تحسد عليه أمامه، بعد احتضان عدوه الأول وما رافق العملية من تدليس وتزوير لا يليق بسمعة ومكانة إسبانيا الدولية ولا تراعي أواصر الصداقة القائمة بين الجارين. الاستجابة الإسبانية للطلب الجزائري، من دون شك لن تكون دون مقابل، فلتمرير الصفقة فقد تعرضت الجزائر كالعادة للابتزاز، ليبقى معرفة ما شكل المكافأة الجزائرية للإسبان. تبدو المشكلة اليوم في بداياتها، وعلى المغرب أن يتجند لمواجهة الموقف الإسباني بكل حزم كما عودتنا الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة، فورقة المدعو إبراهيم غالي، يمكن اعتبارها ورقة رابحة في يد المغرب تجاه الحكومة الإسبانية، التي عليها البحث عن كيفية التخلص من الرجل المريض، بإحالته على القضاء لحفظ ماء الوجه، أم أنه سيظل خنجرا مسموما في خاصرتهم، ليضاف إلى مسلسل الملفات العالقة بين المغرب وإسبانيا. لقد أظهرت وزارة الشؤون الخارجية المغربية حزما واضحا في التعاطي مع المغامرة الإسبانية، حين وجهت انتقاداتها إلى الحكومة الإسبانية بكل صراحة ودون مواربة، لافتة أنظارها إلى تراكم أخطائها وتدبدب مواقفها، وذلك من خلال استدعاء سفيرها بالرباط طالبة منه توضيحا بشأن موقف حكومته من استقبال بلاده زعيم جبهة البوليساريو، زكته بإصدار بلاغ يعبر عن خيبة أمل المغرب من هذا الموقف الذي يتنافى مع روح الشراكة وحسن الجوار، والذي يهم قضية أساسية للشعب المغربي، موجهة أسئلة محرجة للحكومة الإسبانية حول موقفها المثير للاستغراب وأسلوب تعاطيها المخل والغامض مع هذه القضية.