يحدث أننا ذات مرة، ونحن نبحث عن نفوسنا داخل الشتات، الشتات الذي نصنعه ونغرق في أوهامه، شتات الروتين والالتزامات والعلاقات، الشتات الذي يصنع لنا الأيام، الشهور ثم السنوات.. يحدث أن نشعر، ونحن داخل قوقعة اللحظة، أننا نخاف شيئا منا، هو نفس الشيء الذي يعكرنا، مثل مياه راكدة، هادئة وسليمة. لحظات السلم والحقيقة هذه غالبا ما تكون حاسمة، فريدة ومخيفة أيضا، لأنها تلزمنا بضمير صاح أن نتخذ قرارات كبيرة، لأنها تضطرنا لمواجهة المخاوف. غالبا ما تكون هذه اللحظات سلسلة من المواقف المتتالية التي تتكرر بعدد المرات التي نتفاداها، مثل قدر لا يرحم، مثل معلم يرغب بنا مواجهين لنشاط تعليمي غير معتاد – أؤمن أن الأقدار تعلم – ثم نبدأ بالشعور أننا داخل دوامة من الأحداث المؤلمة التي كنا لنتفاداها لو أخذنا قرارا بمواجهة مخاوفنا، مثل أن نغادر علاقات سامة أو ضارة أو بكل بساطة علاقات لم تخلق لنا. للأمانة فقط، قد تكون هذه المخاوف هي دوافعي كي أكتب عدد الكلمات هذه. ينتابني خوف عميق، خوف متجذر داخلي، خوف كلما زادت حدته أبحث عن سبل كي أقنع نفسي أنه أمر طبيعي، كأن أبحث عن بئر بشري أفرغ فيه فزعي، لكن غالبا ما ينتهي الحديث إلى مصب أو طريق واحد مسدود، وأن ليس بالضرورة أن يكون هذا الخوف طبيعي أو عادي. الخوف من الوحدة، هل شعرت به ذات يوم؟ هل طاردك يوما ما؟ هل أزال عنك غطاء الأمان في ليلة باردة؟ بغض النظر عن السن أو الوضعية الاجتماعية أو مقر السكن أو أو … يحل بنا، فنفقد ما تبقى من الصواب، شعور بالحيرة والضعف والاعتماد والضغط والسواد، كأن تلك ستكون آخر مراحل الحياة، أو أن الحياة ستنتهي مع مضي إنسان بحياته بعيدا عنا. أما عن اللحظات التي جعلتني أدرك هذا الخوف فكانت سلسلة العلاقات المنهارة أيام الحجر الصحي بالمغرب، عندما أدركت أنني لا محالة خارج مجمع سكني من العلاقات البشرية بأنواعها مع أناس اعتدت ابتساماتهم لي خلال أيامي العادية. ثم عندما استفقت من الغيبوبة التي سببتها هاته النهايات، بالأحرى عندما انصعت للأمر الواقع بمغادرة البعض ومغادرتي للآخرين، بدأت أبحث داخلي عن الأسباب التي جعلتني سجينة هذا الخوف، لم أجد جوابا مقبولا عقليا، لا كبر السن ولا غربة أعيش داخلها ولا نقص اتجاه فرد مهم من مؤسسة الأسرة التي نشأت بها ولا غياب ثقة في النفس، إذن لماذا؟ ماذا يحدث لي كلما أوشكت على قول «مع السلامة، إلى اللقاء»، ما سر ذلك السواد، السواد الذي يحيط بأفكاري كلما شاهدت فيلما ينتهي بفراق أو ربما أغنية فرنسية قديمة تتحدث عن الوداع، السواد الذي يكثف يداي ولساني بمنديل من الخوف. أبحاثي المتواضعة على الانترنيت أو خلال حديثي مع بعض المتخصصين في علم النفس تقول إن هذا النوع من أنواع الخوف يسمى المونوفوبيا أو الخوف من الوحدة، مرض نفسي، يحدث عندما تتكرر مشاعر القلق من الشعور بالوحدة بشكل يعرقل السير العادي للحياة اليومية. هذا التعريف ينطبق علي، أو ربما التفكير بوجود تفسير علمي لشعور سوداوي يفزعني هو ما يجعلني أتقبل هذا التعريف. إن مشاركة إحساس داخلي أقل ما يقال عنه إنه نقطة ضعف في حياتي الاجتماعية، له دافع واحد لا أكثر، لعله نوع من أنواع الرسالة، أريد أن يعلم الجميع أن الشعور بالاختناق كلما واجهتنا فكرة الفرار من علاقات سامة ليس بنوع من أنواع الجنون، بل هو شعور نابع من فوبيا، ربما مرضية وربما تستدعي العلاج. شعور جيد، جيد جدا أن تدرك في لحظة ضعف أن هناك من يقاسمك ضعفك، ربما هذا دافع أيضا للكتابة في هذا الموضوع، لأن لحظات الضعف تجعلك تشعر بالوحدة، كأنها دوامة من مخاوف مصدرها واحد وتلقي بنا في مستنقعات مشاعر الحاجة والاحتياج بطرق تكاد تكون واحدة أيضا. بالنسبة للبعض، فهذه المشاعر مجرد خرافات رومانسية فارغة أو ربما ضعف في الشخصية أو عقد نفسية دفينة، ومع ذلك لا يمكننا أن نرمي باللوم على هاته الأرواح مادامت لا تمسنا بكلمة، لأننا في كثير من الأوقات نشعر بالمثل، عندما نرمي بالأسف على أرواحنا المعذبة بفراق أناس اختاروا الفراق، لم يفرض عليهم كما فرضنا نحن عليهم، عندما يبدأ هذا الخوف برمينا لأفعال مذلة، نبدأ بشن حرب من الكلمات بين العقل الذي يرشدنا إلى طريق الكرامة وعزة النفس، والقلب الذي يتغاضى عن كل شيء. حالة جنون والارتباك هذه قد ترمي بنا إلى أقدار الاكتئاب، احتمال مرجح، قد يكون البعض بين يديه الآن، ذلك الشرير الخبيث الذي يسلب منا في لحظة ضعف كل الذكريات الجميلة والأحلام الأجمل. ما الحل إذن؟ هل نعتزل الجميع مخافة أن نجد أنفسنا وحيدين يوما ما؟ أم نتمسك بهم دون أن نرتكب أي خطأ قد يعرض العلاقة للخطر، حتى لو كان ذلك على حساب كرامتنا، مبادئنا أو ربما تغير في المشاعر؟ لأننا في حالات كثيرة نحن من نريد الفرار من بعض العلاقات، فتجدنا بين ناري الملل والخوف من القادم المجهول. في كثير من الحالات أيضا ندرك أن هؤلاء كانوا اختيارا خاطئا أو ربما أصبحوا كذلك، لكننا نمضي بتلك العلاقات إلى الأمام مخافة الوحدة، ليس لأننا لا ندرك قيمة أنفسنا أو ما نستحق، لكن إننا فعلا فوق صراط الحياة، تحت رحمة القدر، أو ننتظر الصفعة على نار باردة، المهم أن لا نتجاوز مناطق الأمان ونغادر البعض. دفعتني هذه الأسئلة المحيرة والكثيرة، أيام الحجر الصحي، كي أكتب ما يقارب المائة والعشرين صفحة من الأحداث التي تستنجد بي كي أوقف سيرورة من العلاقات التي احتاجت إلى التوقف، لم أجد الجواب لكنني وجدت أسباب أضلل بها مشاعر الخوف ولو لأيام قليلة. الآن وأنا أكتب هذه الكلمات أشعر بأمواج من مشاعر الأمل تتمسك بثيابي، مشاعر لطالما أردت أن تنبعث بعيدا، بعيدا جدا. كلماتي الأخيرة، لربما كومة المواقف والأشخاص هذه رسالة تحملها لنا الأيام، حكمة، وربما دفينة أيضا، لأني، أقولها مجددا، أؤمن أن الأقدار تعلم.