نادراً ما يطرح القائد السياسي أسئلة ذات طابع نظري وفكري مقلقة. غير أن نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، يفاجئنا بالسؤال الكبير والمهمة الأعظم حول كيفية العبور إلى عالم الحداثة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، في عالم تعصف به التحولات ويميل في ظل أزمة الرأسمالية البنيوية أكثر فأكثر نحو حكومات تتظلل بسياسات اليسار الاجتماعية في كثير من دول العالم؟ ولأن الهم شرقي أو عربي، يقف متفكراً، ينظر بداية في شؤون «اليسار العربي ورؤيا النهوض الكبير». ونظراً لتعدد مكوناته وتلاوينه وعناصر تركيبته القومية، فلا بد من معيار يشير إلى اليسار الديمقراطي، فيحدده حواتمة في الارتباط بجوهر مفهوم «العدالة الاجتماعية»، إضافة إلى مفهوم التقدم، وتتمثل رؤيته في تحقيق أهداف عامة منها: تحقيق السيادة الوطنية والقومية والتحرر من التبعية، والتنمية الإنسانية والحلول الديموقراطية للمشكلات «الإثنية والطائفية والمذهبية» والمساواة في المواطنة. إن أزمة بلداننا ليست بنت الحاضر القريب، بل هي مديدة في الزمن، قد تكون بدايتها في فترة «طغيان النقل على العقل» وتغلغله في طبقات التاريخ العربي وسيطرته على الذهنيات، ما جعل مشروع التنوير عندنا يتحول على يد صانعيه إلى «محنة للتنوير» كما يقول حواتمة. ما يتطلب من اليسار إعادة بناء حركته، كونه بخلاف الآخرين، يمتلك برنامجاً أفقه التطوير والتغيير والإصلاح. وهذا اليسار، ولا سيّما الفلسطيني منه، يقف على أرضية صُلبة من الإنجازات التاريخية المتحققة ومن أبرزها في عرف حواتمة، مساهمته في: بناء وتطوير الثورة الفلسطينية المعاصرة وإعادة تأسيس منظمة التحرير بمراحلها الأربع (1964، 1969، 1973-1974، 1987)، وفي برامج دمقرطة وإضفاء الطابع الدستوري على الحياة الفلسطينية. وما طرحه اليسار الفلسطيني كرؤية واقعية أصبح برامج تبنتها منظمة التحرير واقتنع بها الشعب طريقاً لحل المسألة الوطنية. وهو ما زال يسعى جاهداً لتجاوز الانقسام الحاد داخل قوى الثورة في سبيل إعادة بناء الوحدة استناداً إلى برنامج الإجماع الوطني الذي يقوم على طرد الاحتلال الإسرائيلي وانتزاع حق تقرير المصير والدولة المستقلة بعاصمتها القدس الشريف وحق عودة اللاجئين إلى أرضهم. وحواتمة، القائد المتمرس، ما زال يدرك أهمية النظرة الفلسفية وبالخصوص الماركسية، لكونها مرشداً للنظر، والتي يمثلها بحق اليسار الثوري الفلسطيني، فنجح في أن يجمع «سلاح النقد ونقد السلاح» و»سلاح الأيديولوجيا وأيديولوجيا السلاح» وبين البرنامج المرحلي والبرنامج الإستراتيجي طويل الأمد «فلسطين التاريخية دولة ديموقراطية موحدة لكل مواطنيها على قدم المساواة عرباً ويهوداً». والميزة الرئيسة لهذا الفصيل اليساري المتقدم أنه لا يعرف اليأس «فلا نصر مع اليأس» بعبارة حواتمة، بل مثابرة على المبادرات وطرق أبواب الحوار بيد لا تعرف الكلل. ويُملي الموقع اليساري على أطرافه عدم التهاون مع «السياسة الاستعمارية الأميركية والنيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على حساب الوطن في العالمين العربي والمسلم»، كما يقول حواتمة. كما يجب على اليسار الإفادة من تطورات العلاقات الدولية وتناقضاتها والإنكباب على البحث والدرس والمراجعة لاستيعاب آليات النظام العولمي الجديد ودور الدولة فيه. ويُقر حواتمة أنه رغم «الأزمة في الرأسمالية» فإن البديل اليساري حامل راية التغيير والإبداع لا يبدو جاهزاً. ومن استعراض حال العالم وتجاربه وما حفلت به من وعود أخفق بعضها، تبقى الاشتراكية في نظر حواتمة «تجسد أماني ومعاني نبيلة في وجدان الناس»، ما يفرض ضرورة «ابتكارها من جديد». في «الرؤيا والممارسة»، وهو عنوان يلخص سلسلة من حوارات ولقاءات الأمين العام مع الإعلام العربي، نجد توكيداً على مفهوم الديموقراطية خشبة خلاص في النزاعات الفلسطينية، وعلى دور اليسار «بديلاً» ورافعة للتغيير، وتنديدا بحال الانقسام الداخلي المضر بالقضية والشعب، ودعوة للعودة إلى مبادرات الإجماع الوطني والتمسك بالوحدة الوطنية «شفق الفجر والخلاص من الاحتلال». ولليسار نموذجه الإرشادي، وقد وجده الباحث المغربي، أحمد الحارثي (أثناء شهادته عن اليسار الفلسطيني)، في الجبهة الديموقراطية التي ألهمت اليسار العربي عموماً والمغربي خصوصاً، من خلال ممارستها الميدانية وعبر صفحات مجلة «الحرية» وتأثيرها في وعي ووجدان المغاربة. وينسب عبد الإله بلقزيز للجبهة نجاحها في تقديم رؤية برنامجية متكاملة بالترابط بين المسألتين الاجتماعية والوطنية، وتقديمها مثالاً ثورياً في الانخراط بالكفاح المسلح. وقدمت في رأيه مساهمات ثلاث لليسار العربي: أولاً، فكرة المرحلية ورديفها الواقعية السياسية وقراءة موازين القوى، وثانياً، مصالحته مع المعسكر الاشتراكي ومع الاتحاد السوفياتي، وثالثاً، مصالحته مع الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي رأيه أيضاً أن الجبهة كانت في أدبياتها ومواقفها مدرسة تعلم فيها اليسار المغربي مفردات الفكر الجديد. أما محمد الحبيب طالب، فيرى أن الجبهة حققت فتحين: تأسيسها لأطروحة الحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية وتبني البرنامج المرحلي عام 1973 والذي اعتمدته منظمة التحرير وبات محل إجماع وطني. لقد واظبت الجبهة على دعواتها للوحدة والإجماع وعدم التفريط بالحدود الدنيا التي لا يمكن إبرام أي اتفاق من دون ضمانها وهي:الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود 4 يونيو تطبيقاً للقرارين 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإبطال الضم الإسرائيلي للقدس العربية عملاً بالقرار الدولي رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن عام 1980، والاعتراف بها عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، وتفكيك المستوطنات ورحيل المستوطنين عملاً بالقرار الدولي رقم 456 الصادر عن مجلس الأمن عام 1980، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بما يعني الاستقلال واستعادة السيادة الكاملة على أراضي1967، والتمسك بحق اللاجئين وفقاً للقرار 194 الذي يكفل لهم حق العودة، والتنفيذ الفوري للقرار 227 الخاص بالنازحين. ومن دون إفراط أو تفريط، يبقى اليسار الفلسطيني بفصيله المتقدم مهموماً بفكرة الوحدة والوفاق والحفاظ على الحقوق الوطنية في مبادرات مرحلية توضع لخدمة الهدف الإستراتيجي «فلسطين ديموقراطية». عن «المستقبل» اللبنانية