عندما تكثر حشود الأشخاص الغاضبين يتملكه الضجر، يعبر الشارع بهدوء. لا يهاب أبواق السيارات، لن تمتد يد لتضغط على «الكلاكسون» بنفاذ صبر. لن يصرخ في وجهِهِ أحد. ليس سعيدا، ليس بالضرورة متعبا لكنه يقاوم رغبة في التوقف هناك فقط لكي يقف، لكي تقترب سيارة نحوه بما يكفي ليتسارع الأدرينالين في عروقه فيشعر بقليل من الخوف.. القليل الكافي ليعود حيا. يمسح العرق عن جبينه، يشرب بعض الماء الساخن لأن لا مكان يظلل فيه قنينة الماء، يلتفت صوب السيارات، يتفحص ألوانها وماركاتها وأحيانا أرقام تسجيلها، يتغاضى عنها بمراقبة طفل يعبر بينها محاولا بيع علب مناديل ورقية. يحلم بمظلة فقط ليتذكر حبيبته الأولى، كان يحب مظلتها ذات الورود الصفراء، كان يحب حذاءها الطويل والشال الصوفي الذي يلف عنقها في حميمية دافئة.. لم ينم منذ وقت طويل، يضع رأسه على المخدة فقط ويغمض عينيه، تنتابه الكوابيس فيستيقظ، يذهب باحثا عن أبنائه الأربعة، يعُدهم، يتفقدهم، يتأمل نومهم قليلا ثم يعود لجهته من السرير، يضع رأسه على المخدة ولا ينام لكنه لا يشعر بيد زوجته، تعيد فوقه الغطاء. أحيانا تتوقف السيارات، بدلا عنها تتحركُ حشود أشخاص غاضبين. يأتي صاحب الصوت الكبير والأوسمة ويوبخه لأنه رفع عصاه وضرب يدا كانت تحلم وأحيانا يوبخه لأنه نسي رفع العصا في وجه فتى يشبه ابنه الذي لا يريد أن يصبح شرطيا فيظل واقفا في ركن الشارع مع شلة من أصحاب السجائر الرخيصة وكلام الغزل لجميلات عابرات. يشعر بالصداع لأنه يصدق أن تلك الحشود تحدث ضجيجا وتلوثا أكثر من حشد السيارات المعتاد ومن الحافلات التي تطلق دخانها الأسود بأريحية رجل ينفث دخان سيجارته. يشعر بالصداع فتجحظ عيناه وترتبك كلماته ولا يداعب شعر ابنته الصغيرة ولا يلقي التحية على زوجته عندما تفتح له الباب مستقبلة أو مودعة. عندما تكثر حشود الأشخاص الغاضبين يتملكه الضجر، تطول ذراعه خمسين سنتمترا لأن العصا تصبح امتدادا لها. يملأه الضجيج وصخب الشعارات.. يتحول إلى قطعة خشبية في خدمة صاحب الصوت الكبير:»أضرب» فيضرب بيده الطويلة وساقيه ووجهه وعينيه.. وتنام روحه طويلا ريثما تبلله ابتسامة أطفاله. لم يضرب أحدا من قبل. كان يُضرب من والدته الغاضبة من شح والده ويُضرب من والده الغاضب من شح رئيسه في العمل ويُضرب من ابن الجيران الأكبر سنا ومن معلم المدرسة وأحيانا من المدير لأنه لم يكن جميلا، لم يكن له حذاء طويل، ولم يلف حول عنقه شالا صوفيا دافئا. لا يحب التجمعات فهي تسبب له قلقا إضافيا، لا يصلي في المسجد كي لا تلامس ساقه ساقا تسجد بجواره، لا يغوص في أجواء السوق الشعبي لكي لا يملأه صراخ الباعة. لكنه كان يخرج صغيرا في حشد الأطفال الغاضبين. قالت النسوة إنه مازال ابن الله وكان بريئا مثل عصفور صغير عاري من الريش. كن يمنحنه قطعة خبز جاف وأحيانا قطعة سكر وكان يجري ويصرخ: «جينا نسعاو الله.. الشتا انشاء الله» لم يكن المطر يأت بالضرورة، لكنه كان يصدق أن «الشتا» ستجلب له إضافة إلى الخبز الجاف وقطعة السكر أحيانا، حذاءً وربما ثوبا جديدا وكان يصدق أنه ابن الله الصغير لأنه بلا ريش وكان أحيانا يشعر بالجوع فكان يردد رفقة أصحابه الصغار الصادقين، مستغيثين برب السحاب والأرض: الشتا تا تا تا تا...