الفاجعة التي شهدتها طنجة تبرز المعنى الحقيقي للفساد، وتجعل له عنوانا موجعا وقاسيا هو فقدان أرواح مواطنات ومواطنين بسطاء يسعون نحو قوتهم اليومي. هو الفساد إذن عندما ينجم عنه موت مغاربة ويقود فقراء نحو حتفهم بهذه البشاعة. المعمل لم يكن سريا أبدًا، وصاحب المعمل أيضا لم يكن كذلك، والذين يعملون به، ولكن الأمر يتعلق بمرآب تحت أرضي يوجد أسفل فيلا بحي يعيش فيه سكان، والذين يعملون هنا يلجون المكان صباح مساء، ويشاهدهم الجميع، وأيضا البضاعة والمنتوج يخرجان من هنا ويجري تحميلهم ونقلهم للبيع… أين هي السرية المفترى عليها إذن؟ هذه الوحدة الصناعية أو الإنتاجية كانت مقامة بشكل غير قانوني، ولا تشملها أي مراقبة، وهو حال آلاف المحلات مثلها في طنجة وفِي مدن أخرى، حيث إن شركات كبرى تتعامل مع هذه المحلات وتمنح طلبيات لأربابها، بغاية تفادي تشغيل يد عاملة بشكل قانوني والوفاء بالالتزامات المترتبة عن ذلك، وهؤلاء «المناولون» يشغلون نساء فقيرات، وطفلات، وأحيانا من الجنسين معا، ويحشرونهم في أقبية أو «كاراجات»، ويمارسون في حقهم عديد تجاوزات وانتهاكات. كل هذا يعرفه الجميع، وتنتشر بشأنه الأخبار والحكايات والوقائع، ووحدها السلطة الحكومية المكلفة بالسهر على حفظ الصحة والسلامة داخل أماكن العمل لا ترى هذا، وأجهزة التفتيش لديها والتي تعود إليها مسؤولية مراقبة ذلك ميدانيا، لا تقوم بأدوارها، وتغمض عينيها عن كل هذه الخروقات. وسواء في طنجة أو في باقي المناطق، هناك أعوان السلطة وأجهزتها يحصون الأنفاس عندما يريدون، ويحيطون بما يجري في دوائرهم، لكنهم لا يرون مثل هذه البشاعة المنتشرة بين أرجلهم. إن المسؤولية واضحة إذن، وتقع على عاتق السلطات التي تمنح الرخص أو التي لا تبالي بتوفرها، والتي تتولى التدبير العام للمدن، وأيضا تلك التي يجب أن تراقب أماكن العمل والمحلات التجارية وظروف الشغل والنظافة والصحة والسلامة بداخلها، كما أن المسؤولية تقع على الاختيارات التدبيرية التي تترك القطاع غير المهيكل والعشوائي يتمدد ويكبر، وينتج لنا العشوائية والهشاشة و…. مثل هذه المآسي. لسنا هنا في مقام امتطاء ظهر مأساة بشعة وممارسة المزايدة ضد أحد، ولكن نؤكد أن بلادنا لا تستحق كل هذه الفجاعية، ونؤكد أن تحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لشعبنا يعتبر أولوية كبرى، وأن فرض تطبيق القانون وسط الحقل التجاري والاقتصادي، والارتقاء بالقطاعات العشوائية وغير المهيكلة لتنخرط في التنظيم المقاولاتي الواضح، وتتقيد بكل مقتضيات القانون، كل هذا بات اليوم ضرورة ملحة، في سياق صياغة نموذج تنموي يقوم على التطلع إلى المستقبل ويحرص على تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية. من جهة أخرى، ما معنى أن يتم استغلال مرآب تحت أرضي في محل معد للسكن لممارسة نشاط تجاري أو صناعي ولا أحد يبالي بذلك؟ وما معنى كذلك في مدينة مثل طنجة وقوع مثل هذه المآسي فور ما تشهد المدينة بعض التساقطات المطرية؟ هنا تطرح مسؤولية السلطات الموكول لها تدبير قضايا الشأن الحضري والعمومي بالمدينة ومنح الرخص المختلفة بشأن ذلك، كما تطرح حاجة المدينة والمنطقة، بحكم موقعها الجغرافي وطبيعتها التضاريسية، إلى مخطط استراتيجي لمواجهة مخاطر التساقطات المطرية والفيضانات، وهذا أيضا يحيل على مسؤولية السلطات الترابية والجهات المطلوب منها التخطيط التوقعي والاستباقي. وترتيبا على ما سبق، ليس مطلوبا اليوم إيجاد كبش فداء ثم طي الصفحة، أو تعليق ما حدث على القضاء والقدر، ولكن الأمر يجب أن ينبهنا إلى الاختلالات المشار إليها أعلاه، وأساسا إلى ما يمكن أن ينجم عن تفشي الفساد والتطبيع معه، وغياب تطبيق القانون بصرامة. الرحمة لضحايا فاجعة طنجة، والصبر لأسرهم وأقاربهم وذويهم، والوقت لاستخراج الدروس والإصرار على تطبيق القانون، والسعي لتحسين ظروف عيش شعبنا وفئاته الفقيرة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ليس الأوان لتصفية أي حساب أو إيجاد أكباش فداء أو لتكرار مزايدات الكلام. ما حدث يعتبر مأساة حقيقية، ورد الفعل يجب أن يكون شجاعا ويذهب نحو السبب الحقيقي، ويستحضر حقوق الناس وأوضاعهم ومستقبل بلادنا. كفى من التدني وغض الطرف عن خرق القانون. محتات الرقاص