حزن وغضب في الحسيمة... غضب وأسى وحرقة في كل أرجاء البلاد... بائع السمك الثلاثيني محسن فكري فارق الحياة مفروما داخل حاوية نقل الأزبال، في صورة طافحة بالبشاعة والمأساوية لم تكن لها سابقة من قبل... المأساة تناقلت صورها وأخبارها عبر مواقع الإنترنيت وصفحات التواصل الاجتماعي، وعممت تفاصيلها الصحف والتلفزيونات لتتجاوز حدود المغرب وتصل إلى دول متعددة عبر العالم... الكثيرون خرجوا للشوارع والساحات للاحتجاج ولإبداء الغضب.. الكثيرون بمختلف مدننا وقرانا ذرفوا الدموع أمام بشاعة ما شاهدوه من صور قادمة من الحسيمة، والكثيرون لم يتمالكوا أنفسهم ودموعهم عندما صرح والد محسن للقناة الثانية:"بقا فيا ولدي". الجانب القانوني والقضائي في هذه القضية يجب أن يأخذ اليوم اتجاهه الطبيعي إلى النهاية، وأن يفضي التحقيق الجدي والنزيه في أقرب وقت إلى تحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات ضد كل من ثبتت مسؤوليته فيما جرى. أيضا من يطمع الركوب اليوم على المأساة لحسابات سياسوية بئيسة أو لغايات مزاجية بلا نظر أو حس مسؤولية، يجب وقفه عند حده، وأن يلتف الكل حول ضرورة تطبيق القانون بكل الصرامة المطلوبة ومعاقبة جميع المتورطين في هذه المأساة، وحول اعتبار ما حدث يؤلمنا ويوجعنا كلنا، ويثير فينا الحنق والغضب. لكن بغض النظر عما سلف، فإن البشاعة والمأساة كما حدثت في الحسيمة تفرض فعلا تنامي الغضب وارتفاع حدة الصراخ للمطالبة بوقف هذه"السيبة"، وهذا الاستهتار بالمسؤولية وبأرواح البشر وبسمعة وصورة هذا البلد المسكين وكرامة أهله الطيبين. محسن فكري مات ووري جثمانه الثرى، وهذه حقيقة وفعلا ملموسا وقع، وليست رواية متخيلة. وفي هذا الحادث المأساوي هناك فاعل تسبب في وقوع ما وقع، ولهذا لا بد أن يأخذ جزاءه ويطبق القانون في حقه. وفي تحديد المسؤوليات لا يجب الاكتفاء بالبحث عن كبش فداء، وإنما لا بد من الوصول إلى المنفذ الفعلي المباشر لجريمة القتل، وايضاً إلى من أعطى الأمر بذلك وإلى من تسبب في الوصول إلى هذه النهاية الدموية الإجرامية. نعرف أن استنفارا أمنيا وقضائيا كبيرا تشهده الحسيمة، ونعرف أن هناك تعليمات ملكية واضحة تحث على التحقيق بنزاهة في القضية، ونعرف أن وفدا وزاريا زار أسرة الهالك وقدم لها تعازي جلالة الملك، مبلغا لوالد محسن حرص جلالته على متابعة الملف ومآله والتحقيق فيه. وهذه الإجراءات كلها يجب أن تدفع بعض المزايدين اليوم إلى السكوت والامتناع عن تصريحات التيه و "تخراج العينين"والمزايدات اللامسؤولة. وعلاوة على ما سبق، لا بد اليوم أن نتمعن خلفية ما حدث، ذلك أن بائع السمك محسن فكري هو، قبل كل شيء، مثل مئات أو آلاف الشباب والكهول والشيوخ والنساء، كان بصدد البحث عن قوت يومه، وعن لقمة عيش، وهذا يحيل على كل هؤلاء الفقراء الذين"طحنهم" الزمن بقساوته، ويغامرون كل يوم بالذهاب إلى البحر والميناء، أو إلى"الموقف" أو إلى أرصفة وساحات"الفراشة" في مناطق أخرى، لجلب قوت فلذات كبدهم وذويهم، واللهث خلفه ومن أجله، وتحمل المعاناة مع أعوان السلطة والسماسرة وسواهم... في حالتنا الراهنة بالحسيمة، فالجميع يعرف ما يجري في محيط الميناء وداخله وعلى صعيد منظومة الصيد وتجارة السمك هناك، والكل يروي قصصا عن الرشاوى وعن إخراج السمك بطرق غير قانونية لبيعها في المدينة أو في مدن أخرى، وذلك حتى عندما يكون صيد بعض الأنواع ممنوعا أو متوقفا فهي تكون معروضة للبيع... المنظومة التدبيرية المحلية للقطاع هي التي يجب أن تكون اليوم موضوع تحقيق وبحث ومساءلة وتطهير. أما عندما نعرف أن السعي إلى إتلاف السمك المصادر كان في الشارع العام وأمام أنظار أصحابه من الباعة وضدا على احتجاجهم، وأيضا بواسطة حاوية لجمع وتدوير الأزبال، فهنا لا يمكن إلا أن نرى العمى والتسلط وانغلاق أدمغة بعض المسؤولين المحليين، وغياب أي عاقل يمكن أن ينبه هؤلاء إلى أنهم ببساطة..."لا يفكرون". التعامل اليوم مع تبعات مأساة محسن فكري يجب إذن أن يكتسب عنوانا واضحا ومركزيا بأن زمن هذه الممارسات المعتوهة والخرقاء انتهى في مغرب اليوم، ويجب أن ينتهي التحقيق في أسرع وقت ويتم إخبار الرأي العام الوطني بالإجراءات القانونية والإدارية التي اتخذت في حق المتورطين، وأن يجري الاهتمام كذلك بمحنة أسرة الهالك ومساندتها لتجاوز هذه المأساة وحجم الرزي الذي أصابهم. لكن بنفس القوة ليس من المسؤولية في شيء افتعال تأويلات إسقاطيه رعناء أو اختلاق منصات ومنابر كلامية وهمية لممارسة"التشيار"بشعارات تائهة. لنقرأ كلنا درس مأساة الحسيمة، ولتكن أعيننا مفتوحة حتى تكون القراءة سليمة ويمتلك الفهم نجاعته، وأن تنتصر بلادنا للمستقبل. يجب أن يربح شعبنا معركة البلاد ضد الفقر والعوز والحاجة، وأن يحس الفقراء بكرامة العيش داخل وطنهم، وهذا ما سيؤدي إلى تقوية وتمتين الثقة الشعبية والمجتمعية في الدولة وفي البلاد، وفي ...المستقبل. يجب أن يلمس شعبنا قوة القضاء والقانون بأن تتحقق العدالة في حق من يتورط في مثل مأساة الحسيمة، وهذا هو ما سيعزز الأمل والتفاؤل بالغد. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته