مثلت وفاة الزعيم الوطني والسياسي عبد الرحمان اليوسفي خسارة حقيقية لبلادنا، وللحركة الديمقراطية، وشعور الأسى والرزي الذي عبرت عنه فئات مختلفة من شعبنا يجسد هول الفقدان. لا شك أن الموت هو لحظة إنسانية تتصاعد أمامها المشاعر والعواطف، وفِي الغالب تسقط الاختلافات، ويتوحد الناس في الدعاء للميت بالرحمة، وينتهي باقي الكلام، ولكن في رحيل المناضلين الكبار تقف سيرتهم أمام كل الأنظار تعمم دروسها على الجميع، ويستعصي القفز عليها أو عدم التمعن في دلالاتها. من المؤكد أن تقييم تجربة الفقيد عبد الرحمان اليوسفي، وأيضا منجزه الحكومي، وكامل مسيرته النضالية الوطنية والديمقراطية، ومواقفه، كل هذا سيبقى متاحا للمؤرخين والسياسيين والمحللين، بحسب مواقعهم وتوجهاتهم ورؤاهم، ولكن ما لا يمكن الاختلاف بشأنه هو أن سيرة الرجل تمنحنا كلنا اليوم كثير دروس لا بد من تأملها وحفظها والاستفادة منها. أول هذه الدروس، أن بلادنا فقدت في اليوسفي رمزية سياسية ونضالية أخرى، وأمثال هؤلاء القادة الكبار يستحقون صيانة تراثهم النضالي وتعريف الأجيال الحالية والمقبلة به. أما الدرس الثاني، فيتعلق بالفرق الشاسع بين فاعل سياسي وآخر، وليس كل المنتسبين لحقلنا الحزبي والسياسي أو المندسين داخله يمكن أن ينالوا حب الناس، ومقعد الخلود في الذاكرة الشعبية. ويؤكد الدرس الثالث أن الجماهيرية لا تصنعها فقط انتخابات تشوبها كثير اختلالات، أو لحظة فوز مؤقتة وعابرة، وإنما تتأتى أساسا من مصداقية المناضلات والمناضلين وقوة شخصيتهم، ومما يمتلكونه من كفاءة سياسية وحرص وطني وبعد نظر، وهنا الفرق بين حزب وحزب، وبين سياسي ومن شبه له أنه كذلك. يمكن لمجايلي الراحل عبد الرحمان اليوسفي ومن اشتركوا معه مراحل مساره النضالي الطويل، أن يستعرضوا صفاته وطبيعة شخصيته، ولكن الصفة البارزة التي لا يمكن لأي أحد إغفال القبض عليها، تبقى هي المصداقية. اليوسفي حتى لما كان في المنفى بعيدا عن وطنه وشعبه، نجح أن يربط بين خطابه السياسي المعارض وقناعته بثوابت بلده، ولم يتساهل مع شرط احترام الوطن ومؤسساته، ولم يكن من هواة ازدواجية الخطاب أو الوقوع في الكلام السهل والمزايد في المحافل الدولية. اليوسفي أيضا، وعلى غرار قادة آخرين من جيله، مثل المغرب انشغاله المركزي والوحيد طيلة مسيرته النضالية، ولم يغير قناعته حتى أمام قساوة السجن والتعذيب والإبعاد. وهو كذلك، كما عدد من رواد حركتنا الوطنية والديمقراطية، عاش عفيفا ونظيف اليد، وليس كالطارئين اليوم وتجار الانتخابات الذين لا ينشغلون سوى بالمنافع الريعية الذاتية ومراكمة الثروات لأشخاصهم وذويهم. لمثل هذه الصفات احتفظ المغاربة بأسماء وسير مناضلي الحركة الوطنية من أمثال عبد الرحمان اليوسفي وزعماء سياسيين آخرين. عندما نقلب اليوم صفحات تاريخنا الحديث، تبرز أمامنا جرأة هؤلاء القادة، ذلك أنهم كانوا لا يترددون في التعبير عن مواقفهم وأفكارهم في مختلف الظروف، ولكن بأسلوبهم، وكانوا يستطيعون إيجاد اللغة والسياق المناسبين للإعلان عن رؤاهم والتصريح بها، وهو ما بات ضعيفا في زمننا هذا. ومن جهة ثانية، عبد الرحمان اليوسفي، وشخصيات جيله، انخرطوا في العمل السياسي والنضالي منذ سنوات فتوتهم الأولى، واستمروا في إنضاج تجاربهم عبر الممارسة الميدانية والتنظيمية، ومن خلال التكوين والاطلاع والدراسة، وأيضا الانفتاح على جغرافيات سياسية وفكرية متنوعة، وهذا يلهم كذلك شبابنا اليوم ويحثهم على قراءة هذه السير والتعلم منها، وخصوصا الصبر النضالي لهؤلاء الزعماء وقدرة التحمل من أجل الفكرة والمبدأ، ولم يكونوا منشغلين بتسلق درجات المناصب أو نيل المنافع الذاتية. بقي أن نشير أيضا إلى صفتين إثنتين تحيلنا عليهما سيرة عبد الرحمان اليوسفي وزعماء آخرين من تاريخنا السياسي الحديث، وهي التصاق هؤلاء الرواد بالصحافة والكتابة، إما من خلال إصدار الصحف أو إدارتها أو تحرير افتتاحياتها، أو أيضا من خلال القراءة المنتظمة والتفاعل مع الصحفيين، وبالتالي إدراك أهمية وسلطة الصحافة والكتابة والوعي بها. ثم هناك الصفة الثانية، وتتجسد في عفة اللسان لديهم، ذلك أن معجم الخطاب فيما بينهم أو عبر تصريحاتهم ومواقفهم المعلنة لم يكن بمثل التدني الذي نلاحظه اليوم عند بعض الصغار، وحتى في أعقد الظروف وأشدها توترا لم يعمد هؤلاء الكبار إلى تبادل الشتائم والسباب. فعلا، يبقى، في حالة اليوسفي وباقي الكبار الذين رحلوا، أن إكرام الميت هو قراءة مساره السياسي والنضالي، وتأمل صفحات حياته ومنجزه وسلوكه وأسلوبه، والسعي إلى نشر السيرة والاستفادة منها والتعريف بها. محتات الرقاص