عندما تتحول التجربة إلى كتابة،وتتخذ من القصة القصيرة شكلا تعبيريا، نكون إزاء مهمة جمالية تعبيرية عسيرة، لا تفتح مفاتنها إلا لمن نفذ إلى أعماق الفن كفن، وأن تتأسس على حالة من التشظي الإنساني أمام الموت كلغز، تصبح كتابة الجمال كتراجيديا تحديا إبداعيا، سر نجاحه هو كونه ضجيج وجودي نابع من حياة علي القاسمي، فإذا كان نيتشه قد جر في الفلسفة الكفن معلنا موت الإله إيذانا بميلاد الفكر الحر، فإن علي القاسمي ظل يجر الكفن في قصص المجموعة ككفن ليعلن موت الحياة،الحياة كانتكاسة شخصية، حضارية، وطنية فكرية، أدبية. تنطلق الكتابة هنا من محاكمة الموت كرمز وكحقيقة، لهذا الذي لا محالة مدركنا برداء المجهول، ولهذه الرداءة التي نسميها حياة: «صمت. ركزت عيني المغرورقتين بالدمع عليه بأجمعه، لا على عينيه فقط. ولا على ملامح وجهه فحسب، وإنما على كيانه كله. اخترق بنظراتي العارمة جلده الشاحب، وعظامه المهشمة، وقفصه الصدري المضعضع. أنفذ إلى صميم قلبه، اشترك مع دقاته الباهتة في معزوفة جنائزية، أتسرب إلى دمائها لمنسابة ببطء مميت أركز أكثر فأكثر». إنها الكتابة في أقاصي التأمل، فهل تستطيع القصة القصيرة أن تحتوي هذا العمق الفلسفي المشكك، المسائل، العبثي، المواسي، العاشق، للحياة والرافض لها في نفس الآن؟» يا لسخرية القدر! لقد اقتحم مدينتنا مسخ الجفاف ممتطيا صهوة الربيع، اليوم انقطع الماء من محطة المياه تحلية مياه البحر بصفة نهائية. وهكذا يتضافر جفاف صنابيرنا مع جفاف أرواحنا». هل تستطيع القصة أن تمسك اللغز وتفجر معناه، حتى ينزاح قليلا عن دائرة الغموض المظلمة، نلمسه، لأنه موجود، الكل يهابه، نصادفه، نعاينه، قد نعيشه، وقد ننجو منه، وأحيانا يترك خدوشا عميقة في أرواحنا، ويفر كمجرم فوق كل عدالة، أو كعدالة مطلقة» وقلت في نفسي: مادمت أحب هذا الرجل فلا بد أن أفعل شيئا لنجدته. يجب أن أتحرك الآن قبل أن يبتروا أطرافه ويقطعوا أوصاله ويقضوا عليه. ولكن بدلا من أن أتقدم إلى الأمام وجدتني مرتجفا اجر رجلي الكسيحتين إلى الوراء مبتعدا. أنا الآخر أقترف جريمة موصوفة، جريمة الامتناع عن تقديم مساعدة إلى إنسان يتعرض للخطر». هذا الموت المتنقل كيف للقصة أن تحضنه، وتلفظه بشساعته وعمق معناه، هل نجحت أوان الرحيل في الإمساك به، وإرغامه على الإفصاح، هل بصمته بخصوصية ما، ورسمته بطريقة تجعل من الكاتب/الموقف الكامن في العمل الفني، موقفا مدهشا، ورائعا، ارتقى باوان الرحيل إلى مستوى كتابة أدبية نحتت مكانتها بين الكتاب الكبار، ذلك ما نسعى إلى استجلائه من خلال قصص المجموعة. إذا كانت المجموعة القصصية هي انسياق وراء بناء رؤيوي موحد من حيث التيمة الأساس، بها يقوم السرد منها ينطلق وإليها يعود، وهي هنا ليست سوى تيمة الموت، اتخذت مع الكاتب العربي علي القاسمي عمقا تعبيريا، تداخلت فيه أشكال التقنية مع الموقف كتأمل، كرفض، كحضارة، كوطن، كهوية، كسيرة.. تداخلا نسج به الكاتب فرادته الإبداعية كقاص جعل من أوان الرحيل كتابة قصصية ضربت خيامها في الذات لتقول العالم، الذات ليس ككيان منعزل يتآكل بفعل الروتين، وإنما الذات في تفاعلها مع الزمن كذاكرة، والعالم كمعطى متحول.» مرت شهور على هذا الوضع. وذات صباح تأخر خالد في النهوض من فراشه، فقد أكملت إعداد الفطور ولم يلتحق بي كعادته. فوضعت الصينية على الطاولة في الشرفة وذهبت إلى غرفتي. كان في فراشه ساكنا. لم أسمع تنفسه. اقتربت منه، وضعت يدي على معصمي. كان باردا بصورة مريعة. لابد أنه فارق الحياة على إثر أزمة قلبية داهمته في اليل... وقد غادر هذه الدنيا دون أن يزعج أحدا». إن هذا التفاعل الفني مع التجربة يتم بحبكة رمزية عالية تنم عن كاتب خبر تقنيات السرد، ومسالك الدلالة: «التقت نظراتنا مرة أخرى. لم أر منها غير عينيها هذه المرة. استرعى انتباهي احمرار شديد أخذ يكسوهما ويخفي تلك النظرة المنكسرة الحنون. وبدلا منها لاحت لي نظرة قاسية مريبة. انزلقت عيناي إلى بقية وجهها، فأدهشني وأفزعني في آن منظر أنياب حادة يكشر عنها الفكان. وقبل أن أستجمع شتات فكري المشدوه، أحسست بمخالب حادة تنغرز في صدري وبطني وبأنياب شرهة تمتد إلى وجهي». لا غرابة إذن أن تبدأ المجموعة بذيباجة أقرب إلى مرثية لمعلمة أدبية شعرية، كل منا لا يستضيفها دون استئذان الحياء إنه المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي: «تذكرت غربة البياتي، وتذكرت غربة الشيخ محيي الدين بن عربي الذي لم تطالب الأندلس باستعادة رفاته، وتذكرت غربة العراقيين في بلادهم، وتذكرت غربتي، وبدون أن أدري ترقرت دمعة في عيني، وعندها استدرت خارجا من المقبرة صامتا واجما وأخي يتبعني من غير أن يتكلم». يعتبر نص ما يشبه المقدمة، ما يشبه القصة بمثابة إعلان مبادئ المجموعة، فالبعد السيري من خلال ضمير المتكلم، المسيطر على هذا النص سيطبع المجموعة ككل، كذلك الأمكنة الحقيقية، والأزمنة الحقيقية، وتكثيف المعنى في جمل قصيرة بجذور موغلة في الواقعية، لا كتسجيل، وإنما كطرقات قوية على باب الغامض، المجهول، على المباغت دون رحمة.» قلت: «سنذهب إلى ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي، لأتلو الفاتحة على روحه»، ثم تلك الدفقة الشعورية المنسابة كحزن حائر، مستكشف، مُسائل، متخن بالحنين، سيظل النواة التي تطوف حولها كل قصص المجموعة، تختلف الأمكنة، الوجوه، الأحداث، ويبقى الحزن الملغز هو نفسه، مطوعا للشكل، وقائدا للدلالة، إنه الكاتب/الموقف علي القاسمي في أقاصيه. في «النهاية» تتحقق حالة تصالح مع الموت، واستقصاء لوجوده، واستجلاء لحضوره، خارج المعنى المتداول الذي يحدده كانمحاء، وانتماء للعدم، إنه هنا لعبة مع الذات التي أبدت تعايشا مع أشياء الموت الخصوصية (تراب القبر، حفار القبور، تابوت، الكفن، المرتلين، الجثمان، الجنازة، صور الأموات، شركة دفن الموتى...) غير أن هذه اللعبة وإن أفادت سطحا السخرية والمفارقة، فإنها تكشف هذا الموت الذي نحياه باستمرار موت الحياة كخواء وجودي عديم المعنى. «أشعر أنني مازلت على قيد الألم»، «لا جديد تحت الشمس ولا فوق الأرض»، « لا جديد في حياتي أبدا إن كنت تسمي وجودي حياة»،» وساخة هذا العالم الذي نعيش فيه وقذارته... تغشاني سكرات النعاس». لم يتجرأ علي القاسمي يوما أن يسأل البياتي عن الأبيات التي تنبأ فيها بمكان موته، كما لم يتجرأ أحد على سؤال مالارميه، ولكن حضور بندقية صيد في «النهاية»: « قررت أن يرافق موتي صخب لا يقل عن الصخب الذي صاحب ولادتي، ودوي لا ينقص عن الدوي الذي عقب مجيئي إلى هذا العالم، دوي مثل دوي طلقة بندقية صيد مثلا، فالموت في تقديري، ليس بأهون من الولادة، والنهاية ليست أدنى شانا من البداية». إن حكاية همنغواي مع بندقية الصيد، وحكاية همنغواي مع علي القاسمي، ثم ذلك الهوس الهمنغوايي بالرجال الموسومين بالموت، وتفقد أثر الموت التي تآكل عمود وجودها، تماما مثل ذلك التفجير الغني في المجموعة لحالات الاحتضار، وتعرجات الموت في الجسد التي توهجت كثيرا في «القادم المجهول»، ألسنا أمام بوح سردي أملته رغبة ركوب المجهول؟!