حينما: وجود الظرفية دلالة على وجود فترة تخدير أو إن شئنا قلنا فترة راحة لا نحس فيها بوخز أو ظلم أو غير ذلك، إنها حالة اللاوعي اللذيذة التي نظل نشعر فيها بأننا أبناء أسرنا ووطننا وجيراننا وهلما جرا، حيث هناك الكثير من “الحينات” إن صح التعبير، فترة لا أحد يتقبل صراخنا نوعا ما. فهناك ثدي نعود إليه في الجوع وهناك سرير نقصده للنوم وحنان متدفق من كل حدب وصوب وقُبَل وغيرها، نَخَال العالم حينها جميلا وأننا أطلقنا صرخة الولادة عبثا وأن تخوفنا لم يكن في محله. حينها لم نكن نعي أن سعادتنا بنيت فوق أنقاض وجروح. (إنها ظرفية جاءت كناية عن الماضي.) يتنكر: المنطق حاصل في ذهنك حضوره في ذهن سقراط قبل استشهاده، الحاضر هنا يبدأ بالنكران، هنا ندرك عزلتنا ووحدتنا، وندرك انتهاء الأحايين التي خلفناها على وجه الخطأ “حينات”، الانتقال في الزمن مخضب بالوعي الغائب في زمن المضي والصبا، هذا الزمن الذي يظهر رفعه في آخره، صحيح دون علل .. لذة الوعي بالألم أشهى من لذة الشهد بالجهل، ولعلني لست مضطرا لاستحضار بيت عنترة، إدراكك لتنكر الوطن فردي ليس فيه حاجة للآخر. حاضر يقيس اللحظات بكتل الألم، يوازي المعرفة بالجرأة والحفر والبحث، لم تعد عبدا يتقى العطايا بل سرت حرا يدرك اللعبة. (وهذه ظرفية الحاضر.) الوطن: الحنين له ينبع من كوننا جزءا منه، ليس انتماء يقف عند العرقية والمذهبية أو غيرها.. إنه انتماء من حيث المادة والتكوين، فمع إحساسنا أن الوطن لهم والوطنية لنا، فكوننا آدميين طينيين، كان كافيا لحضور الوطن، ويحضر بدافع الانتماء لكن قبل حضور فعل النكران، يجعله وطنا يحتاج إلى أن يصبح له فينا حق وليس مجرد أم حنون تترقب مبيت أبنائها بين أحضانها. (وهذه ظرفية تجمع الماضي بالحاضر.) لبنيه: (الجار والمجرور ) لا يهم من عمل في الآخر فتبادل الشد والجر بين الوطن والمواطن له النتيجة نفسها، ثمة حرب تدور رحاها بين الجلد والعظم، فكل انتصار يعد هزيمة لا محالة. (وهذا مستقبل متوقع لأبناء المستقبل.) بين دفتي الكتاب: اللغة: تأخذ اللغة في كتابات الكاتب محمد الورداشي نمطين اثنين، نمط حكائي تشعر فيه بالوقائع تستخدم الألفاظ لتعبر عن ذاتها، وهذه هي صورة السرد في بنيته الأولى، حيث لا تدخل للسارد في الأحداث حتى ولو كان جزءا منها، اللهم ما تقتضيه الكتابة السردية من خصائص، (تقديم تأخير، استشراف / استباق بلغة الأدب)، في جين يبقى تنامي الأحداث عاديا بطيئا حينا وسريعا آخر. ونمط خطابي وفيه تحس أن الأحداث على أهميتها ليست سوى عنصر ثانوي، وهناك مقاصد ثاوية تحتها هي المراد والمقصود، إنها ثورية إرادية قوية لا يمكن أن تحضر إلا في الكتابات “الثورية” التي ينفرد فيها صوت الكاتب عن تقاليد السرد النمطية، فنية الكاتب المبنية من وراء الأحداث هي المهمة وليس الأحداث ذاتها. إن الخطاب لدى الكاتب ذو بعدين، الأول يهدف إلى مخاطبة الحس والعاطفة واستمالة العنصر المحايد في البشرية عاطفة كان أو شعورا، والبعد الثاني بعد التدبر والوعي الذي لم يجد الكاتب من يشاركه فيه، وبالتالي يظل يسعى بنقراته بين الفينة والأخرى ليقتسم تجربته داخل سطور كل حكاية. منظور السارد: يمكن تصور وضع السارد في هذا الكتاب “كعنصر محرك”، فوقتما تحس أن الحكاية أخذت وضعا رتيبا عاديا، تفاجئك مقاصد الكاتب لتبعث روح الحماس من جديد، فالكاتب يزاوج بين الرؤية من الخلف والرؤية مع المصاحبة، فمعرفته ومشاركته في الأحداث أكبر من أن تساوي معرفة الشخصيات. الشخصية: تحضر الشخصية في العمل ككائن نصي، فالشخصية أو الشخوص ليست بشرية قطعا، فليست إنسانا وليست ورقا وإنما هي حصيلة علاقات ووشائج بين البشري واللغوي. إن الشخصية بالمعنى الدلالي تعيش بين عالمين، فهي تارة راغبة وتارة مكرهة، تعيش زمنها وزمن غيرها، لا خلاص لها سواء في بعدها الذاتي أو الورقي. إنها شخصية عادية في بعدها الأخلاقي كاذبة مخادعة سارقة تمارس الفاحشة حتى، وفي الآن ذاته لا إرادة لها في كل اختياراتها، (قصة الغوغاء الصفحة 29 تمثل نموذجا للتحليل الذي نريده هنا)، فعندما تحس بأن الشخصية فارغة بهذا المعنى يأتي دور السارد الذي يتسلح بالخطاب ويتنكر للحكي من أجل أن يصبح للنكرة في نظر العامة معنى. فهجرة الأربعة كانت من أجل تغيير الوضع وبحثا عن أفق ينتهي مغلقا بدلالة الحكي لا الخطاب. وسيتضح هذا عند توقفنا مع وظائف السارد. الوصف: يلتقي الوصف والتشخيص في هذا العمل بشكل سلمي لا دخل فيه للسارد حكيا أو خطابا، يقترن بالأمكنة والشخوص، وله دور في نقل الانفعالات والحالات النفسية والجسدية، وصف تتسمر اللغة أمامه قولا وفعلا ورؤية. وظائف السارد: كل خطاب هدفه تقويض الأيديولوجية وزعزعتها لا يخلو من أيديولوجية مغايرة أو لنقل مناهضة، وهنا تنبعث شرارة الوظيفة الأكثر انسجاما مع عمل ثوري وصريح منذ العنوان إلى الغلاف إلى الألوان.. كلها علامات تصرخ عكس الأيديولوجية (علم السر) التي تستخدم أسلحة ضمنية، فالسارد هنا، وإن كان يخفي الموقع الحقيقي الذي يمثله هو كذات، إلا أن كتاباته تنساق وبصوت مجاهر وراء الفضح والكشف والتعرية. ولعل الوظيفة التواصلية في العمل كانت توجيهية من حيث جناتها وأسّها، فمضمون الخطاب الموجه للقارئ يحتاج طبعا إلى تأمل آخر خارج ذات السارد، وإلا بقي توجيهيا محضا. في الحقيقة استطاع السارد أن يخلق جسرا مع القارئ الذي يكتب له، وإن كنت شخصيا أشكك رغم قراءتي هذه للعمل في رؤيته للنور؟ كلمة لا بد منها: أمتعني كتابك بقدر ما انتابني الفضول حول فضولك النقدي الممارس على لوحة الواقع، فقد تساءلت غير ما مرة كما تساءلت وكان الفارق الزمني بين تساؤلي وبحثي عن الإجابة اندثار عدة أفكار ورؤى قد كشفت عنها في عملك هذا. بقلم: احمد الشيخاوي