يبقى هذا السؤال المتداول في وقتنا الحالي، بحيث أصبحت نسبة كبيرة من القراء تلجأ لعالم الإلكترونيات من أجل التثقيف أو جلب المعلومة، وذلك لسرعة الحصول عليها، متغاضين على أن تلك المعلومة احتمالية صحتها قد تكون قليلة، ويرجع ذلك إلى سهولة نثر المعلومة في الإنترنيت، فمن الممكن لأي شخص في العالم أن ينشئ موقعا أو صفحة ينشر بها ما يشاء، مما دفع هذا البعض إلى التساؤل حول إمكانية الاستغناء عن الكتاب في المستقبل بسبب طغيان المعرفة الإلكترونية. وفي جولة قامت بها “بيان اليوم ” بمدينة الدارالبيضاء، للقيام باستطلاع حول هذا الموضوع، كانت البداية بحي الأحباس باعتباره قطبا دينيا وثقافيا على مستوى الدار لبيضاء خاصة والمغرب عامة، وذلك بفضل وجود وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومكتبات تابعة لكبرى دور النشر المغربية والعربية. ففي حديث مع مسؤول بمركز التراث الثقافي المغربي للطباعة والنشر والتوزيع بحي اللأحباس، عبر عن استيائه من تراجع قيمة الكتاب الورقي، بحيث قال لم يعد هنالك حب للكتاب، فغالبية من يسأل عن الكتاب الورقي، يكون مضطر عليه، وفي حالة إيجاده ينازعك عن ثمنه، كم من يشتري خردة ما، لا يعلمون أن قيمته و هبته ليست في ثمنه بل في حذافيره و ما يجول بين أوراقه و أضاف أن نسبة قليلة من القراء من تسأل عن الكتاب الورقي و غالبيتهم من المتقاعدين المثقفين ، ووضح على أن الكتاب الورقي يجلب و بكثرة السياح المشارقة سوريين ، عراقيين ،و لبنانيين و تأسف على ذلك باعتبار أن هذه البلدان تعيش في حالة حرب و مع ذلك لا زالوا يهتمون بتنوير عقولهم و تثقيفهم عن طريق الكتاب . كما وضح أحد الكتيبين أن من اخترع الانترنيت أو الإلكترونيات بشكل عام، فهو لم يصل إلى ذلك سوى بالكتاب الورقي فلماذا هذا التهميش؟ لأن هذا التراجع في قراءة الكتب الورقية سيسبب بانقراضها، وعلى حد قوله فإن الكتاب يمرض و لا يموت و من ابتعد عن الكتاب الورقي تجوز فيه الصدقة. وفي مكان آخر بمدينة الدارالبيضاء، وبالضبط في المدينة القديمة، بؤرة الكتب أو ما يطلق عليها “البحيرة”، أكد لنا مجموعة من الكتبيين على تراجع قراءة الكتاب الورقي، وكشفوا على أن الأغلبية من الناس التي تزورهم فغرضها بيع الكتب وليس شرائها ، وأوضحوا على أن الكتاب في حالة بيعه ينقص بأضعاف على ثمنه الأصلي، ومع ذلك يفضلون بيعه على الاحتفاظ به أو إعطائه لأحد آخر يحتاجه أو يستفيد منه، مما يبين اندثار قيمة الكتاب الورقي. وغير بعيد عن هذه الأماكن وبالضبط بعين الذئاب، توجد مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، باعتبارها واحدة من أغنى المكتبات على مستوى دول شمال إفريقيا والشرق، و في حديث مع أحد الموظفين بهذه المؤسسة، أكد على أن طيلة فترة اشتغالها، استقبلت المكتبة أزيد من 100 ألف منخرط من مختلف الجنسيات، وعلى رأسهم الطلبة والباحثون في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية و الدراسات الإسلامية، وأعرب على أن المنخرطين يتقلصون سنة بعد سنة و ذلك في ظل الثورة الرقمية التي يشهدها العالم في هذا القرن، وبسبب ذلك كشف أن المكتبة لم تكتف بالحصول على الكتب و الوثائق المطبوعة على الورق بل واكبت التطور المعاصر لصيغ نشر و إشاعة النصوص و المعلومات فأخذت بتشكيل مكتبة رقمية عن طريق الاشتراك في قواعد و بيانات يتم الوصول إليها عن طريق الإنترنيت أو عن طريق الأقراص المدمجة. وأوضح أحد المنخرطين بالمؤسسة (38 سنة)، أنه يعشق الكتاب الورقي بسبب رائحته التي تحببه في القراءة ، ولكنه لا يستطيع شرائه لأن ثمنه أصبح جد مكلف ، لذلك انخرط في هذه المؤسسة بحيث قال “أقرأ الكتاب الذي أرغب به و في حالة لم يكفيني الوقت أقوم بطبع الأوراق التي أريدها بثمن جد رمزي و أذهب إلى منزلي و أكمل قراءتي” و تابع أنه في حالة لم يجد الكتاب الذي يرغب به فإنه يلجأ لأحد المواقع الإلكترونية و يحمله في هاتفه و يقوم بقراءته . وفي سياق آخر عبر أحد القراء (60 سنة) أن فعل القراءة هو الأهم، وهو ما يجدر بنا أن ننتبه إليه ونهتم به، لأنه الوسيلة الوحيدة في استراتيجيات بناء الإنسان الناطق، الصانع و المفكر، وأوضح على أن القراءة تمكن من انتقال المعارف والأفكار، وترحل عبر العالم من مكان إلى آخر، من بلاد إلى أخرى، دون الاعتراف بالحدود الطبقية أو العرقية أو الدينية أو الوطنية. وأعرب على أن هذا الفعل الفريد في تاريخ البشرية بعد الفعل المبدع الخلاق باكتشاف اللغة، هو اليوم في وضع مقلق وفي تراجع من حيث الكم و النوع ، و تابع على أنه بالرغم من تطور التكنولوجيات المبهرة و كثافة تسللها إلى كل مسالك الحياة الإنسانية الظاهرة منها و الخفية ، و ما يسمح به ذلك من مرور سهل للكتابات و الدراسات و البحوث و التقارير و الروايات و القصص و المسرحيات … من المفارقات التاريخية أن واقعة اختراع المطبعة في سنة 1430 على يد جوهان غوتنبرغ الألماني ، بين على أنها قد ساعدت المجتمعات الإنسانية على تحقيق ثورة سوسيو ثقافية عارمة استفادت منها كل الشعوب و الأمم بدرجات متفاوتة ، و هو ما سيعرف بثورة المعرفة و الإتصال منذ ذاك التاريخ حتى يومنا هذا . وأوضح على أن الكتاب الورقي المطبوع يعد آلية معرفية وعلمية على محاصرة الجهل وتوسيع دائرات التفقه والتعلم، فسارت المجتمعات الجديدة، تعيش حالة من تكسير ذلك الطوق الذي كبل البشرية لقرون طويلة، طوق حصر وحصار المعرفة والقراءة في دوائر نخبوية في الغالب متحكمة و اوتوقراطية، وأضاف على أنها وضعية يمكن أن نسميها بدمقرطة كونية للحق في حصول المعرفة عبر فعل القراءة للكتاب الذي طبعه على الورق أمرا ممكنا … لكننا اليوم نشاهد العكس . وعبر على أن ممارسة العشق مع الكتاب الورقي ومصاحبته لم تعد تحتل مكانة الهاجس الرئيسي لدى الأفراد و الجماعات ، حتى و لو أن شروط الحصول على الكتاب و بمختلف أصنافه قد أصبحت أكثر من متاحة و بألف طريقة.. وتساءل على أن هذا الزمن “التقني الحاد” قد فشل في جعل القراءة الاختيار البشري الأول ؟ أو لصالح اختيار آخر يسميه السوسيولوجيون اليوم “مجتمع الصورة” أو اختيار مجتمع “الفرجة”؟ وقد قال: ( في تقديري الشخصي إن زمن القراءة في الكتاب الورقي يذكرني بكل هذه الإشكالات والمفارقات، ويذكرني بثورة المطابع وتاريخها النضالي المعرفي، على الرغم من أنني أمارس قراءتي على جميع الوسائل التي تتيح لي الفرصة السريعة للالتقاء بالمعرفة بجميع أصنافها، وبكل أصناف الاجتهاد الإنساني …) هكذا يتبين أن الكتاب بتحول من شكله الورقي إلى شكله الإلكتروني، حقق انتشارا واسعا بين القراء التقليديين منهم والجيل الجديد، مما جعل قيمة الكتاب الورقي يفقد مكانته الاعتبارية.