اخترت مرة ثانية أن أقرأ للكاتب مصطفى لغتيري، هذا الاختيار لا يأتي يتيما على غرار المرة السالفة، ولكنها قراءة تفرض ذاتها كما تفرض ضرورة التأني عند الإطلاع، وكذا أخذ مساحة عن الحرف برهة للتأمل وممارسة شيء من التفكير حول الشخصيات والمضامين وإشكالات النص التي تتوارى وراء جمالية السرد وقوة الكلمة… ثم الاستسلام لاستفزاز السرد الذي نرد عليه برد التعليق والقراءة. بعدها اخترت القراءة مجددا للكاتب، ذلك لأنني لمست فيه أنه مؤمن أن بنات أفكاره -التي صقلها عبارات ثائرة على الواقع ومستفزة لوضعيات راسخة- ليس ملكه وحده، وإنما أيضا هي ملك للقارئ، هذا إن لم نقل أنه يلمح إلى كونها ملك للقارئ وحده، الشيء الذي جعل من منتجاته الأدبية موضوعة في حقول عامة وشاسعة للإطلاع، والذي لن يكلفنا إلا كبسة زر لنخوض معها عوالم فريدة ومتموجة بالسؤال والحيرة..وحتى المتعة !. نبدأ بحجم الرواية..تتجلى لنا صغيرة تغري بقراءة سريعة وعابرة، هي ذات الملاحظة التي سجلتها حول عمله ” ضجيج الرغبة”، لكن قلت مهلا!.. فالعمل الذي سبق لي أن اطلعت عليه لم يكن بتلك السهولة التي تصورتها، وبالتالي فهذا العمل أيضا لن يخرج عن مشاكسة وعناد سابقه، وكذلك كان !..فالصفحات الأولى لهذه الرواية جعلت من مجموعة الأسئلة تحضرني ماكرة كأنها تبحث عن رد معين، ونحن إذ لا نملك ذلك الحق الذي بمقتضاه نفتش عن نوايا الكاتب الحقيقية، ولا نستطيع أن نطلب منه ذلك التوضيح الصريح الذي سيشفي الغليل ويزيل عتمة الحيرة التي تحوم حو الذهان، فأنا شخصيا لا أستبعد أن يرد الأستاذ لغتيري عن هذا الطلب بسؤال مضاد: ماذا فهمت أنت ؟ وحينما تسرد له المبررات والتداعيات قد لا ينفك يعقب مبتسما: نعم!..هو كذلك. وهو رد متوقع لأي قراءة مهما اختلفت عن أختها، -إذا كان الأمر كذلك- فدعونا إذا نرتوي من هذه المساحة الممنوحة لنا من لدن الكتاب لنتجرأ قليلا – وبكثير من الخجل- على مضمار ميدان له أهله وخاصته، لكن حبا في القراءة أحببنا أن نقتفي بعضا من آثارهم لنتساءل مع ذ. لغتيري: لماذا هذا الحجم الصغير لموضوع كبير؟. من يعرف غزارة إنتاج الرجل سيجد أنه ليس صعبا عليه أن يتعمق في السرد والإطناب في التحليل الإبداعي، لكن يبدو لي أنه يطلب منا شيئا آخر..شيئا محددا لغاية محددة، فنحن كقراء لهذه الأعمال نجد في الغالب أجوبة أقرب إلى الإقناع في التفاصيل الدقيقة والمتعددة للسرد الروائي، فالروايات الكبيرة غالبا ما تساعد على العثور على أجوبة مرغوبة في التفاصيل المتشعبة، لكن في رواية ” إمرأة تخشى الحب” سنجد أن الكاتب يظهر لنا في أولى السطور ليعلن أن هناك سبلا أخرى لمقاربة المضمون، فهل يطلب منا ذ. لغتيري أن نستعين بمراجع علمية أخرى موازاة مع القراءة الأدبية الصرف لروايته موضوع المناقشة؟. الوقوف على تساءل البداية، الحضور القوي لكلمات معينة في الرواية من قبيل: نفسي/ تحليل/ صراع..وتأكيد الكاتب –على لسان بطلته- على تبرؤه من الخيالية والمثالية في الموضوع، إذ اعتبر أن الحكاية شيء آخر غير المخيال الإبداعي، وكأنه يريد منا أن نلتمس تلك الواقعية في النص مستحضرين أدوات التمحيص العلمية بدلا من النقد الأدبي، فمضمون العمل شيء مختلف، لا يشبه العادات القصصية والسردية التي ” أعتبره نوعا من البالغات التي يروق للناس الحديث عنها… في المسلسلات والأفلام والقصص” (ص 5)… من هذه المقتطفات قد نقف بفهمنا الخاص -الذي لا يلزم أحدا سوانا- على مسألة أضحت محور اهتمام العالم الحديث وهو الجانب النفسي للإنسان، فقد تم تجاوز كل الفرضيات القائمة على معاناة الفرد بناء على أسباب عضوية محضة، ليتم اكتشاف أن الجانب النفسي أضحى عاملا مهما في التكوين العام الشخص، سيما إذا ما تحدثنا عن مسألة “الصراع” فيه باعتباره يمثل حالة نفسية يشعر من خلالها الفرد بالقلق والضيق إذ يجد نفسه بين خيارين من المفروض أن يتخذ فيهما قرارا معينا. فأين يبرز الصراع بشقه النفسي في رواية امرأة تخشى الحب لكاتبها ذ. مصطفى لغتيري؟ هو تساءل لن نجد صعوبة كبيرة لسبر أغواره إذا ما وقفنا على إشارة الكاتب لرمز مدرسة التحليل النفسي “سيغموند فرويد” وتكرار كلمة نفس/ نفسية وحضور كلمة “تحليل” أيضا، هي إشارات تتطلب كما أسفلنا الإشارة إليه إلى ضرورة الاستعانة بمراجع أخرى لتحقيق هذا التقارب المنشود في السطور المختصرة للرواية التي تحميل الكثير من الحمولة التي يستعصي على بعض الصفحات الإلمام والإحاطة بها، كما أنه يصعب كذلك الإطلاع على كل المراجع، غير أن ذلك لا يعفي من الإطلاع على بعضها استئناسا على الأقل. الصراع النفسي حتمية يعيشها الإنسان تفضي إلى المرض بلا شك كما ذهب إلى ذلك فرويد، لكن الأخير يؤكد أيضا على أنه يحفز على الإبداع من خلال ما أسماه ب”التسامي”، وهذه المسلمة في نظرنا قد تتخذ بعدا آخر إذا ما تعلق الأمر بالمرأة، فالحديث عن الصراع النفسي للمرأة في نظري المتواضع يتمثل في صراع مضاعف، صراع تقاسمه مع الرجل لاقتسامهما ذات الظروف وذات البيئة، وصراع تنفرد به لوحدها بناء على الموروث الثقافي الذي تعانيه في نطاق يعرف ردة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فلا خلاف أنه كلما ساءت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة إلا وساءت –في الغالب الأعم_ وضعية المرأة فيها. ومن هذا المنطلق ونحن نفكر في الانفجار الذي يولده هذا الصراع، سنتساءل عن رد فعل هذه المرأة في بيئة عربية شرقية متدينة إزاء هذا الوضع، هل هو الإستسلام والخضوع أم هو التمرد على وضع قائم..على مستوى الفكر والتمثل والممارسة معا؟ إن مطلع روايتنا يكشف عن هذا التمرد الذي تمارسه البطلة بداية على مستوى تمثلها الفكري عن وضعها كامرأة وما تشكله من تصور في الذهنية الذكورية، هو إفصاح ربما لن نستسيغه بعقلنا الذكوري المهيمن الذي يرى من “آلية” المرأة وتشييئها كجسد خلق لإسعاد الرجل وحده، فلعل الحكم بنشوز عقلية أنثوية متمردة على الثبات والجمود الجاثم على صدرها لعقود طويلة، إذا كانت السكينة النفسية تنبثق من القناع بالواقع والتعايش معه، فإن الصراع يبرز أكيد حين تحريك هذا السكون وإعلان الرفض لوضع قائم، والرفض دوما يحيلنا إلى الصراع والفوضى.. وبطلتنا تبدأ هذا الصراع برفضها لذلك التصور السائد عن المرأة بكونها ” مجرد آلة جنسية لتفريغ كبتهم لا يمنحونها أي تقدير مهما ضحت وتنازلت” (ص7)، هي ثورة جريئة تنم عن صراع داخلي بين ما هو قائم وما هو من المفروض أن يقوم، وكأن البطلة تعلن ذلك التحرر من الاستلاب الذي يطال إنسانيتها، وهو ما يصطلح عليه الفقه النفسي بالاستيلاب النفسي بما يعنيه من اختزال المرأة في جسدها باعتبارها وعاء للمتعة، وبالتالي إغفال بقية أبعاد حياتها (مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، ص 214). الشيء الذي ينتج عنه ذلك التصنيف الذي يحيلنا على الترسيم القائم على كون المرأة تشكل هامشا والرجل مركزا، وبين الهامش والمركز خيوط من المد والجزر، من الغواية والشهوة، فالمرأة في التقليد العربي شر لابد منه لأنها موقع اللذة (حسن إغلان، الجنس والسياسة، ص 104)، فالبطلة من هذا التصور تكسر رتابة هذا الحكم الجزافي، وتعلن أن صراعها الداخلي يرفض هذا النوع من الخضوع والخنوع، لتؤكد على وجود المرأة باعتبارها قيمة وكيان انساني. وعلى غرار كل عمل إبداعي، فالإنتصار الافتتاحي يقتل التشويق، ولعل هذا ما أدركه كاتبنا حينما تفنن في إنهاء هذا الاحتفالية التي لمسناها على مستوى التمثل الفكري للبطلة على قيم عقيمة سائدة، وذلك بعد أن ترك بطلتنا تعيش حياتها دون دعم خارجي، تعيشها كأنثى متأثرة بطبيعتها وبيئتها، ليكشف لنا عن الطبيعة البشرية على سجيتها وفق نموذجها الأنثوي العربي، ف”ماريا” بعد رفضها المبدئي لهذا النوع من التصور السائد، تعود لتنغمس في صراعها الأزلي في الحياة على غرار بنات حواء، تستحضر تجربتها الفاشلة والقاسية التي عاشتها إبان زواجها الذي تنازلت لأجله بالكثير لكنها لم تنل منها شيئا يذكر غير المعاناة، هذا النقص والحرمان الذي يعانيه الفرد لاشك أنه سيدفعه إلى البحث عن شيء يعوضه، والنقص العاطفي الذي عرفته وتعرفه البطلة قد وجدت بدلا عنه، والمتمثل في تعويض الأمومة البيولوجية التي تمنتها أن تكون من رحمها، وحينما فقدتها بحثت عنها في الرحم الذي خرجت منه، فوجدته في إخوتها الذين تعاملهم معاملة الأم لأبنائها، فهل وجدت بطلتنا ضالتها في هذا التعويض الجميل أم أن أزمة الصراع النفسي لا تزال قائمة وفقا لما تمليه الطبيعة البشرية للمرأة؟ إن شعور المرء بذاته يقسمه علماء النفس إلى مراتب ثلاث: تصور الفرد لذاته بما هي عليه، وتصوره لها بما يراه الناس، ثم تصوره لهذه الذات بما يجب أن تكون عليه بناء على قدراتها مؤهلاتها، هذا النوع الثالث الذي يشار إليه من خلال هذا العلم بالذات المثالية (مصطفى فهي، التكيف النفسي،ص 14-15)، نجده لدى بطلتنا التي ترى في نفسها وذاتها قدرات وطاقة داخلية تجعلها تتمثل ذاتها في موقع غير موقع الواقع الذي هي فيه، تعبر عن ذلك بقولها: ” أستحق أكثر من ذلك” ( ص 12)، لكن لماذا أردفت هذا الحكم الذاتي بعبارة: “لا بأس”؟..هو أكيد محاولة شخصية للتقليل من حدة الصراع الذي تعرف في دواخلها، فهو وسيلة لتحقيق التكيف النفسي المسعف على الاستمرار في رداهات الحياة بأقل الخسائر والصدمات… وربما كاتبنا مصر على النبش في مضمرات هذا الصراع حتى تستمر الأحداث في الانسياب، لقد فطن الكاتب إلى لعبة “التسامي” التي تبناها فرويد كحافز للإبداع، واستغله هنا حافزا لمزيد من الحكي حسما لصراع قائما بشكل من الأشكال. ما أن تهدأ روعة البطلة في محطة من محطات حياتها، حتى نجد كاتبنا مصطفى لغتيري يضعها بين تيارين يشعلان فتيل هذا الصراع النفسي المرهف لديها، فأن يضعها بين رحمة نقيضين: الشعور واللاشعور أو الوعي واللاوعي، يجعلها تمارس بفطرتها سيزيفية هذا الصراع الذي تشوقنا إلى معرفة نهايته، هنا تحضر السطور الأخيرة من الفصل الأول ( ص 13 و 14) الذي يجعل البطلة في حيرة من نفسها بين الميل إلى الوحدة والبقاء فيها (الاختيار الواقعي/ العقلاني/ الواعي)، أو الاستجابة لغواية الارتباط وتحقيق الحلم العاطفي المفقود والمنشود في آن واحد ( الخيار الخيالي/ اللاعقلاني/ اللاواعي)، هو صراع بين الهو والأنا والأنا الأعلى على حد تصنيف فرويد نفسه، والذي نستنتج من خلاله أن “ماريا” إنما تخضع لسلطة الأنا الأعلى الذي يبرز فيه الخوف والشعور بالذنب، والذي كان سببه تجربة ماضية فاشلة، ونتيجته التخمين من النظرة السلبية “للمجتمع تجاه المرأة المطلقة” (ص 23) كأنها لا تحب أن تكون لها هذه الصفة بصورة مزدوجة إذا ما فكرت في الارتباط مجددا، وهو ارتباط قد ينتهي بالمعاناة نفسها إلى حدود كبيرة. ونحن في خضم هذا الانشغال بوضعية “ماريا” بين تعاطف أو تأييد أو رفض وتشفي، يأخذنا مصطفى لغتيري لنعيش معه أحداث مسرحية كأننا تلقينا منه دعوة رسمية لاكتشافها والتمتع بأحداثها، ولا أشك شخصيا أن ذ. لغتيري إنما حضر هذه المسرحية بنفسه وتابع أطوارها بكل تفاصيلها، ولأنها تجرية جديدة في المجال المسرحي يهتم بالفن التجريبي، فقد أبى إلا أن يدخلنا معه إلى مقاعد القاعة لنتابع الأحداث ونتعرف على هذا الفن المسرحي الذي بدأ يشق طريقه نحو العلن والنجاح، هي فرصة أيضا لنأخذ استراحة ولو بسيطة من توابع الصراع النفسي، هذا الصراع الذي تشتد وطأته متى كان موضوعه المرأة نفسها…فهل تركنا فعلا الكاتب نعيش هذه التجربة بعيدا عن أي مؤثرات أخرى؟ وأنت تقرأ لمصطفى لغتيري، لا تنتظر مثل هذه التقطعات التي تسعفنا في التقاط بعضا من أنفاسنا، فالصفحات معدودة، والحمولة ثقيلة، والوقت لا يسعف كثيرا، فإما أن تجاريه في نفسه المتواصل، أو أن تختار الإنسحاب من ساحة مكتظة بالفضول والغموض، فلا نجد إلا أن نختار المواصلة علنا نحل خيوط حبكة متقنة الصنع، حبكة شبيهة بهذه المناسبة التي حضرتها البطلة وهي تحمل معها إفرازات الصراع الذي عاشته لتوها مع الأحداث والزمان والمكان قبل أن تحضر لتنفس عن ضيقها قليلا، لكن يبدو أن الكاتب أبى إلا أن يجعلنا وإياها في استمرار غير منقطع لهذه التجاذبات المشوقة، ففي المسرحة ونحن نتبع رفقة الكاتب وبطلته أحداثها ننتقل بين القراءات والتأويلات: جدلية الحضور بين المرأة والرجل وصراع المواقع بينهما/ الغواية/ الحب/ البحث عن الحقيقة/ الحيرة/ التحليل النفسي…ونكتشف في نهاية المطاف أن المسرحية تم ربطها بحلم “ماريا”، أو لنقل ربطها بجانب اللاوعي/ اللاشعور لديها، وكأننا مدفوعون للتفتيش عن مكنونات هذا المضمر في لاوعي المرأة التي مرت من تجربة قاسية، وذلك للوقوف على التضاد بين ما هو مفكر فيه (نبذ الآخر الرجولي)، واللامفكر فيه (الميل الفطري الغريزي لهذا لآخر)، هو صراع يجر لديها من جديد ثنائية التعقل واللاتعقل، فالتعقل عند بطلتنا هو عدم مسايرة النفس ورغباتها (التعلق، الحب،..)، وبالتالي فالتعقل هو قمع هذه المتطالبات والنداءات التي جبل علها الإنسان، لكن هل هناك وسيلة ما لممارسة هذا القمع؟ وهل سننجح فعلا في هذا الخيار الحاسم؟ إن ممارسة القمع أو خيار الابتعاد قد نبحث عنه في عوامل خارجية أكثر مما سنبحث عنها في ذواتنا، ربما لاقتناعنا بهذا الضعف الذي ينتابنا ونحن في مواجهة الميولات الفطرية للإنسان، والتي تكون ذات طبيعة خاصة ومتميزة متى كانت متعلقة بالجانب الوجداني للمرأة، والرواية تستلهم تجربة حياتية بسيطة لهذا العامل الخارجي الذي تستنجد به البطلة للخروج من قوقعتها التي أوهنها فيها هذا الصراع النفسي بين الواقع والمأمول، بين المضمر والمعلن، ليشكل حضور الأخ وزوجه إلى بيتها هذا العامل المرغوب، فهل نجح هذا العامل في تجاوز البطلة لأزمتها الداخلية؟ من يعرف مشاكسة ذ.لغتيري الإبداعية سيدرك أنه لا مجال لأنصاف الحلول، أو الحلول السريعة، فقد أودع هذا العامل الخارجي باعتباره مفتاح الخلاص لأزمة سيدتنا النفسية، بذرة الإشكال نفسه، كيف لا و”ماريا” حين خروجها مع زوجة الأخ للتبضع وهي تتنقل بين الأماكن والناس لم يثر انتباهها إلا لوحة جلوس الجنسين بإحدى المقاهي، ألا توجد في الفضاء العام ثنائية رجل وامرأة؟ طبعا الجواب سيكون بالإيجاب..لكن نمط التواجد الذي جسده رواد المقهى (رجل وامرأة) وما يوحي إليه من انسجام وتكامل وإشباع عاطفي قد جعلها تحس بذلك الميل والحاجة إلى وجود رجل في حياتها، يكشف لنا الكاتب عن هذا الإفصاح الداخلي للبطلة التي لا ترغب أن يكتشفه أحد، لكن صرامة كاتبنا كانت أشد من إشفاقه على مثل هذا الوضع – لغايتة سنكتشفها طبعا في ختام الرواية-، إذ تعترف “ماريا”: ” لقد مرت مدة طويلة لم أنعم فيها بأي لمسة حانية أو حضن دافئ…حضن رجل” (ص 48)..وجود الرجل نعمة؟ ! !…ما هذا التغيير المفاجئ في تمثلات السيدة؟ شرودنا مع هذا المد والجزر الغريب، وإن كان أمرا طبيعا كنتيجة للصراع النفسي، سيجد متنفسا في آلية وضعها الكاتب في طريقنا، فكاتبنا يشهر أمام هذا الذهول والشرود سلاح العلم، ويدعونا لنشارك البطلة مشاهدة تلفازها نتفرج سويا في برنامج وثائقي يشرح العلاقة الوثيقة بين المناطق الحساسة في الدماغ بالعلاقات الحميمية، لنستنتج أن الأشخاص العاطفيين الذين يقعون في شراك الحب يكون لديهم استعداد فطري وفيزيولوجي لذلك، وحينما نربط ذلك بشخصية البطلة نجد هذا الجانب الفطري، باعتبارها أنثى حاضرا، بقوة، ثم يستعين الكاتب بالجانب الفيزيولوجي لها حينما يستحضر لنا صورة الجسد بجرأة لا تعنيها الإثارة وإنما لتقديم هذا التفسير الذي يطرحه البرنامج العلمي، هنا نجد أن ذ. لغتيري يدرك فعلا ما يريد، ويزكي ما ذهبنا إليه إلى كونه يسعى إلى معالجة مسألة علمية بلمسة أدبية. والبرنامج الذي نشاهده بمعية البطلة لا ينفك بدوره يحلل بنية الصراع النفسي الذي قد تعرفه إمرأة لها نفس وضعية البطلة أو في حالة قريبة منها بشكل من الأشكال، فقد حضرت صورة الطليق كرجل يمثل حالة ميؤوس منها، صورة المخرج (ذ شفيق) كرجل مثال مرغوب!، هذا التضاد في حاجة إلى حسم وفصل طبعا، هنا يتدخل الكاتب كالعادة حينما يسرد لنا خيار البطلة لحسم هذا الصراع الطاغي في ذهنها، إذ يُعَدُّ تحديد موعد للخروج مع مخرج المسرحية، التي حضرناها جميعا، حسما لخيارها بين التعقل واللا تعقل، أي أنها تستجيب لنداءاتها اللاواعية ضدا في خياراتها الواعية، ويتضح لنا ذلك بوضوح في رغبتها في مغادرة الأخ وزوجه حتى تتفرغ لنفسها قصد إعدادها للموعد المنتظر، أي أنها تختار التخلص من العامل الخارجي والاستغناء عنه، وبالتالي الإستغناء عن حالة التعقل والعودة إلى حالة اللا تعقل ( الاستجابة لمغريات النفس العاشقة)، بمعنى الانتصار للاوعي على حساب الوعي وفقا لمدرسة التحليل النفسي. وإذ نحن نتنفس الصعداء لهذا المخرج “الطبيعي” الذي انتصرت فيه الطبيعة البشرية الأنثوية، ونهم بالتالي بإغلاق دفتي الرواية، غير أن القليل من صفحاتها القليلة المتبقية يشجعنا على إتمامها تزكية لهذه النتيجة المرضية/ الطبيعية التي خلص إليها الكاتب، وجعلنا نحرك رؤوسنا دلالة الإيجاب والموافقة على عصارة تحليله، نجده يخلخلنا مجددا بمنعطف لم يكن في الحسبان بتاتا، فالصراع لم يحسم بعد، لا إلى الميل الفطري وحسب، وإنما باستحضار مسألتين في غاية الأهمية: عقد الذنب والإكتشاف !. أحيانا تجعلنا ممارسة حقوقنا وحياتنا نسقط في قاع التخمين والمقارنة: هل بهذه الممارسة أذنبنا في حق غيرنا؟ البطلة تحيلنا إلى شيء يوحي بالجواب، فتراكمات تجربتها الأسرية والزوجية معا، جعلت منها تؤمن برسالة من نوع خاص تجعل منها بداية وغاية حياتها، تصدع ماريا: ” أشعرني هذا اللقاء بالأستاذ شفيق وكأنني خُنت إخوتي” (ص77) !، هي حالة مدهشة نخشى أن توقعنا فيما أسماه البعض بالاستلاب العقائدي (حجازي، م.س)، الشيء الذي جعل بطلتنا تعود إلى براثين صراعها الوجداني، هذا الصراع الذي يدفع دوما إلى البحث عن البديل، في هذه المرحلة تحضرنا شخصية أخرى مؤثرة، كاتبة المسرحية ذة. رقية، وهي شخصية غير عادية، مترجلة، تكره كونها إمرأة، تعلن موقفا صارما مستفزا من الرجل: ” اللعنة على الرجال” (ص 83)، وكأنه تكريس لاتجاهات نسوية راديكالية/ بطريركية في أبهى تجلياتها ( أنطوني غدنز، علم الاجتماع، ص 195 وما يليها). هذا الصد العلني للجنس الذكوري جعل منها إمرأة شاذة ، تصف ماريا ابتسامتها في اللقاء الذي جمعهما البيت بأنها ماكرة تدعوها ” إلى ميولاتها الشاذة” (ص86). هذا المشهد يعري لنا نوعا جديدا من الصراع، وهو صراع خطير يمس في الكيان الوجود الطبيعي السليم للفرد، فهو اكتشاف فاصل… فالبطلة ها هنا تجد نفسها بين ميولين: الميل إلى إغواء ذة. رقية، والتفكير في الأستاذ شفيق، وهي حالة عصية يرفضها عقلها ويتعلق بها وجدانها، تعلن البطلة: إنه ” صراع مرير يمور في داخلي وأنا ألوى بين الحالين معا” (ص 88-89)، فالشخصيتين دلالة لهذا الصراع في حياة ماريا، وفي حياة المرأة بصفة عامة، ف ” شفيق خطر متحرك، بينما رقية خطر هامد”! (ص 94). نصل في ختام هذا القراءة المتواضعة إلى مسألة في غاية الأهمية، هي أن ذ. الغتيري لم يكتب بتلك السهول التي توقعناها في الصفحات القليلة، وقد تمكن من أن يضعنا أمام دلالة عميقة تجسد الصراع النفسي لدى المرأة بين الخطرين: المتحرك والهامد، وضرورة الميل لأحدهما قد جسدهما في حلم الصراع بين ثعبانين (وللثعابين دلالة في الحلم طبعا)، ثعبان يمثل رقية والأخر يمثل شفيق، وانتصار أحدهما لم يكشف لنا الجانب المنتصر في الشخصية الأنثوية، بل تركه الكاتب مفتوحا على كل الاحتمالات بناء على الظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمرأة. وإن كان لابد لهذا الصراع من نتيجة ملموسة واقعيا، فمن وجهة نظري، فالأستاذ مصطفى لغتيري انتصر لمبدأ التسامي الذي قال به منظر مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد، آخذا بذالك مسافة كافية من الحياد بين الخيارين حتى لا يفصل بحكم قاطع في مسألة نسبية، وإذا كان التسامي حسب فرويد هو الجانب اللاواعي والمكبوت الذي يدفع الشخص إلى الإبداع، فإن البطلة كما اختار لها الكاتب، قد استجابت لهذا الخيار، ففرت من حب البشر، اكتفت بحب الكتابة، فأبدعت أولى قصائدها الشعرية: “امرأة تخشى الحب”!.