منذ غزو واحتلال العراق، والصراعات السياسية فيه مفتوحة بين قوات الاحتلال والقوى المتعاونة معها من جهة والشعب العراقي والقوى التي أعلنت مناهضتها للاحتلال ومقاومته من جهة أخرى. والعراق ليس بلدا هامشيا في المشهد السياسي الدولي ولا الخارطة الجيوسياسية الإقليمية. وإذا كانت ظروفه قبل الغزو قد هيأته لما حل به الآن فان المخططات التي أعلنت أو سربت من الإدارات الأمريكية والغربية عموما كشفت أن المصائر السياسية في العراق تتضمن الكثير من التشابك والتعقيد والصراعات المفتوحة والمكشوفة. وهكذا تأتي إخبارها قبل الاحتلال، سلطة دكتاتورية وحصار شامل، وبعد الاحتلال، مشاريع استعمارية معمدة بتخريب عام عبر كل وسائل التدمير والتضليل والخداع، عبرت عنها فرق موت وأعمال دموية، وسفراء يعبرون عن أنفسهم كمندوبين ساميين من عهد استعماري بائد، يقررون العملية السياسية ومفرداتها وحتى مسمياتها. لم تعد الديمقراطية كمفردة ذات معنى بعد كل التشويه الذي تمارسه الإدارات الأمريكية والأوروبية المحتلة للعراق وأفغانستان وما تتعرض له هذه المفردة من انتهاكات صارخة وإساءات معلنة وموثقة. وقصة اتهامات المسؤولين الأمريكان والبريطانيين والألمان لتزوير وسياسات الرئيس الأفغاني حميد كرزاي في أفغانستان واستمرارهم في تنصيبه والعلاقات معه فضيحة كبرى لهم ولما تبقى من دلالات للمفردة الجميلة التي احتكرتها أوروبا زمانا طويلا. وتنسحب هذه الحالة على فرض الانتخابات في البلدين عنوة لإخراجها من معناها وتشويهها كوسيلة من وسائل التعبير الديمقراطي والحل السياسي للأوضاع المتأزمة في البلدين المحتلين حاليا ونموذجا للآفاق التي تدعيها إدارات الاحتلال والهيمنة الدولية. وهذا ما حصل ويجري في العراق اليوم. انتخابات وتهديدات بمشاريع متشابكة وخطيرة لمصير ومستقبل العراق، جيوسياسيا ودورا في التغيرات الحاصلة في المنطقة والخارطة السياسية الإقليمية. فكيف يفسر ما ترتب على ما سمي بالانتخابات ونتائجها ومن رسمها ووضعها في هذه الصيغ والأرقام المشتبه بها ورموزها والتغطي عليها بستار المفردات التي شوهت ولم تعد لها معنى في التطبيقات العملية في العراق أو أفغانستان؟!. وقد يكون استمرار ما يدعى بالفراغ السياسي وصناعة مصدات له وتوجهات بزيادة سياسات الاستعمار القديمة الجديدة في استثارة الفتنة، التفرقة الطائفية والإثنية، وتوجيه الأنظار خارج العراق أو السماح لتدخل منه، لزيادة تعميق الهوة، ومن ثم إعلان فشل القائمين بالعملية السياسية وإيجاد الصيغ المعروفة تاريخيا لكل المستعمرين في العالم. ولم تكن الإدارات الأمريكية خارجة عن هذا الإطار في نهايات العقد الأول من القرن الجديد من تاريخ البشرية. الانتخابات وما بعدها صفحات من تاريخ دموي جديدة في العراق. فالمعروف ان الانتخابات وما تفرزه من نتائج تعطي حلولا سياسية واستقرارا امنيا وبناء متواصلا للخطط والمؤسسات الناظمة للدولة بينما الواقع العراقي يجري بالعكس من ذلك، وهو الذي يشير إلى الدور الخطير الذي تمارسه عمليا إدارات الاحتلال والمتعاونون معها. فالتصريحات والتهديدات الخطيرة بمشاريع التقسيم للعراق، شعبا وبلدا، وبمخططات الحروب الأهلية والداخلية على الأسس التي بنيت عليها المؤسسات القائمة وما سمي بالدستور لها تكشف كلها الارتهانات العمياء للمتفردين بالمشهد السياسي الرسمي وبغياب وتضليل الأغلبية الصامتة والرافضة للاحتلال والاختلال الجاري حاليا والمستمر ببقاء الاحتلال اسما وواقعا على الأرض واستشارة ووجودا ونفوذا سياسيا وعسكريا إلى أماد غير معلومة الآن. ما يجري في العراق بعد الانتخابات على مختلف الأصعدة، سياسيا وأمنيا بشكل خاص، يفضح قدرات القائمين بالأصعدة هذه، ويعطي صورة واضحة لدور إدارة الاحتلال عمليا في رسم خريطة الطريق للعراق والعراقيين، حاليا ومستقبلا، ما دام الإصرار على التنافس غير السياسي وما يسمونه بالديمقراطي وتصعيد الإرهاب الدموي الوحشي المنفلت والمحترف والموجه بقوة من الإطراف المتنافسة والمتصارعة فيما بينها ومشاركتها الفعلية في المشهد السياسي الحالي والصراعات المكشوفة والمفتوحة فيه، ما دام ذلك مستمرا ومتواصلا وبإصرار اعمي يفضح الارتباطات والرهانات التي لم تعد سرية أو مخفية، وهي كلها تصب في النهاية في استمرار الصراعات والاحتلال وسياساته المعروفة. بعد أيام دامية، ولاسيما يوم 10/5/2010 الذي شمل الإرهاب فيه مدنا عديدة من شمال ووسط وجنوب العراق، صرح المتحدث باسم قوات الاحتلال الأميركي الرائد ستيفان لانزا إن الهجمات «تظهر أن التهديد لا يزال موجوداً وعلينا أن نقلق منه، كما انه لا يزال قادراً على شن هجمات». وصرح «نائب الرئيس» عادل عبد المهدي إن الهجمات تظهر ضرورة المضي قدماً في إقرار نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة. ودعا، في بيان، جميع التكتلات السياسية إلى العمل بجد من أجل مصلحة البلاد والتحرك بصورة مسؤولة خلال «هذه الفترة الحساسة» (لماذا هذه الفترة؟)، مشدداً على ضرورة أن تتضمّن الحكومة الجديدة جميع الفصائل السياسية. وخرجت صحيفة الغارديان (يوم 11/5/2010) بعنوان يقول: إياد علاوي، الفائز في الانتخابات، يحذر من حرب طائفية في العراق، وما بعده. وقال علاوي، في مقابلة نشرتها الصحيفة، انه، منذ الانتخابات العامة التي أجريت في السابع من مارس الماضي، والتي فازت بها قائمته ب 91 مقعدا، وهو العدد الأكبر بين القوائم، «أهملت التنظيمات السياسية في العراق مبدأ حكومة الوحدة الوطنية، وهم بهذا يتجهون نحو حرب أهلية بدفع وتشجيع من إيران». كما حذر علاوي في مقابلته مع الصحيفة من انه «إذا لم تضمن أمريكا وحلفاؤها بقاء واستمرار الديمقراطية الوليدة في العراق، فانه من الممكن أن يتجدد الصراع في العراق، وقد يتسع ليشمل المنطقة بأسرها». وأوضح علاوي أن «العراق الآن في مركز المنطقة، وهو مليء بالمشاكل التي تغلي، والتي يمكن لها أن تأخذ هذا المنحى أو ذاك، واعتقد أن المجتمع الدولي خذلنا». هذه التصريحات الرسمية تكشف ما بين سطورها عن طبيعة الصراعات الحالية والقادمة وهي كلها تدور في فلك الاحتلال وغنائمه الوهمية على حساب الشعب والبلاد والمنطقة عموما. وتعلن بوضوح خيبة المشروع الأمريكي للاحتلال، وتطالب وقائعها بأهمية العمل الوطني المناهض للاحتلال وعمليته السياسية وضرورة نهوض حركته التحررية المستمدة من صفحات نضال الشعب العراقي.