يدخلنا العرض المسرحي “التابوت” للمخرج المغربي عبد الجبار خمران، في سيرة حياة الفنان، في سياق حياته العادية، بكل ما يضطرب فيها، لذلك توازت، أو تداخلت حياته كفنان وإنسان معا؛ كون الفنان هو أولا وأخيرا إنسان اجتماعي عاش حياته وسط محيطه، ومن ثم ما لبثنا أن دخلنا في أنفسنا ومن نعرف عن قرب. ولعل أهم ما تناوله هنا حياته وحياة أمه، كحال أي سيرة أدبية، والتي بدت مع الفرجة محركا للمشاهدين للتذكر والتأمل لما هو شخصي وعام ووطني، وقد فطن المخرج لتلك المحركات من أول حركة للتابوت على سطح الخشبة، ليبدأ من النهاية، كتقييم للرحلة، بدءا من مشاعر الزهد التي تلائم “الموت”، ومرورا بالأحداث، وقد ساعد مضمون العرض وطرق التعبير التمثيلي متعددة المشاعر ما بين الجد والعبث، ما بين بعض المرح وكثير من النزق. تابوت..يتحرك، وأربع أجساد، ثلاثة رجال وسيدة، يضعون المعاطف التقليدية، الخشبة، لتبدأ الفصول، رجوعا إلى الوراء، ثم للعودة أخيرا، لما يمكن اختصاره من موت وحياة. منذ بدء الحياة، ظهر تأمل الإنسان بها حتى وإن انشغل بتأمين حاجاته. وما الأدب والفن، إلا تجليين لهذا التأمل، أكان ذلك بالتعبير عن الحياة، كوصفها ووصف أحداثها، أو التعمق بها لتكوين موقف فكري وشعوري. وقصة الأدب والفن، هي قصة رؤية الدنيا والحياة والإنسان، الذي كان أكثر شيء جدلا. مستوى الحياة، حياة إنسان.. سيرته..عاشها.. تأملها، عاش مشاعرها وأفكارها، صراعها، ككل فرد فينا. وهو إنسان كاتب وفنان أيضا. مستوى النص: تعبير صاحب القصة الأستاذ الراحل محمد تيمد عن حياته من خلال سيرته “أقواس أيامي”، والتي عبّر من خلاله عن سيرة حياة إنسان عادي من الطفولة حتى الشيخوخة، وهي سيرة كاتب وفنان أيضا، لذلك حفل النص بمكونات أدبية وفنية من جنس حياته كمبدع عاش كمسرحيّ بشكل خاص. مستوى الفرجة: تحويل الكلمات إلى عرض مسرحي، من خلال رؤية إخراجية فهمت عميقا المستويين، حياة الفنان محمد تيمد، ونصه عنها، بكل ما فيها من تأمل فكري وفني ونفسي واجتماعي وسياسي ووجودي، وما ارتبط بها من عناصر بيئته، والعناصر الفنية التي ارتبطت بحياته والفن. لذلك، اعتمدت الرؤية الإخراجية على النص المتعدد الطبقات المشهدية البصرية والسمعية والحركية، فلم يكن المخرج عبد الجبار خمران وفيا للنص فقط، بل كان خبيرا باستجلائه، وخلق فرجة صادقة منه وعنه وفيه، لذلك ازعم أن الإعداد لنص العرض كان إبداعيا. بيت قصيد الإخراج هنا أنه اختار المحاكاة الإبداعية، لكنها ليست المحاكاة الأرسطية في أنواعها الثلاث، بل هي محاكاة المقاربة الفكرية الجمالية، التي تعتمد على روح النص، مستحضرة معه عمق الحياة، من خلال ردود أفعال غير نمطية، تظهر اشتباك صاحب السيرة بالحياة العادية من جهة والفن من جهة أخرى، كما تظهر حالة التأمل النزق الناقد والنقدي والعبثي أيضا، في إطار من التصالح والالتزام تجاههما: الحياة والفن، الحياة من خلال الأهل والأصحاب، والفن فيهما كدور وحياة. يبدأ بالنفس، ليغوص فيها، وفينا، ولا ينتهي حتى بعد الانتهاء المفرض- الموت، لتعيد البداية من جديد، على شكل رحلة في مركبة تحاكي مركبات العصر، يصبحون جميعا ركابا تمضي بهم بسحن نتأملها، ما مبين الحياد ومشاعر مختلطة، ربما تحاكي أصلا مثل هذه المشاعر التي في نهاية رحلة. “التابوت” يصير صندوق حكايات نظن أنه لن ينضب، بسحرية المغرب، وفاس بشكل خاص، وب “أقواس أيامي” لمحمد تيمد، إلى سحرية المشهد الأخير الذي راح يلخص الحكاية.. حكاية محمد تيمد وحكاياتنا نحن أيضا.. ليطول تأثير هذا العرض؛ لعل ذلك يعود إلى تفسير خلود الروائع، بما فينا وما فيها. فحين نزعم أن الرؤية الإخراجية كانت عميقة، في مواءمة عناصر الأدب والتشكيل والرقص والغناء والتمثيل، التي بدت منسجمة ومتكاملة ومثيرة ذهنيا وجماليا، فلنا الحق خصوصا في نقل العادي إلى الطقسي، فالوجودي فكرا وشعورا. أما تنوع السرد والركح، والدخول والخروج في المشاهد، فقد جعل كل منها لبنة من الحكاية، كمختارات عبرت بأمانة عن النص الأصلي. لقد عبرت اللوحات-المشاهد، من خلال الفلاش باك، “استدعاء الماضي” عن مراحل الحياة، بما يلائم مجرى الأحداث وما اكتشفه الطفل والفتى والشاب والكهل. وما ارتبط بها من بيئة فاس الاجتماعية. فكانت مشاهد طفولة، تلتها مشاهد تجارب الشباب من حب، ومشاكل الحياة، مع الإضاءة على حياة العائلة والوطن أيام المظاهرات الوطنية. اعتمد في أول كل مشهد على السرد، سرد باللغة الفصيحة، معا(الأربع شخصيات) أو كل على حدة أو أحد يبدأ ويكمل آخر، ثم ليتحول للهجة العامية في تمثيل الأحداث. مشهد فوق التابوت.. دق كإيقاع، ثم سرد عن المقبرة بشعور عبث، رقص فوق التابوت كقارب ملجأ، تعبير حركي رثاء، ثم استئناف السرد كأنهم واحد، عن البيت، ضمنها المخرج لوحة راقصة، فيها تشكيل القماش الأبيض. يظهر التعلم التقليدي في المدرسة، ثم لهو الشباب، والغناء، وقد وفق العرض في اختيار الطاولة في مشاهد الشباب، كجامعة للمرح، والندية، وأن كل الأمور فوق الطاولة. مشاهد الحمام بالليمون، باستخدامات إبداعية لجسد “التابوت”، ثم وصفا للمظاهرات، ليخصص أكبر وقت لأيام المسرح الذي كان حياة الفنان محمد تيمد، وفيه تمازج التمثيل بالغناء والرقص. وصولا لأطفاله. ظل المخرج يبني مشاهده- مشهديات النص، كخيّاط ماهر معدا ومخرجا، في وصف يثير التأمل، للحياة والموت، حتى شعر أنه اطمأن لتوصيل الفكرة، من خلال تكثيف بصري-تمثيلي راقص وغنائي، بتكامل ما بين عالم الطاولة الطفولي والشباب وعالم التابوت برمزيته، للاختتام بها. الطاولة برمزية الاجتماع والسرور واللهو، والتابوت برمزية النهاية، يتآلفان معا، يصيران مركبة، تسافر..على وقع أغاني التراث. لم تكن إذن الشخصيات مهلهلة أو مسطحة أو أسيرة أزماتها كما يمكن أن يظن، وربما يكون ذلك صحيحا، لكن ما يكتشفه المتأمل هنا، أنها شخصيات تآلفت معا لإيصال فكرة فلسفية عن الحياة، بشيء من السخرية والانتظار والنقد الحاد الذي عبر عنه نزق الشخصيات. لذلك خدم التمثيل الإبداعي الواعي المضمون والإخراج معا، لقد شاهدنا مهارات تمثيل عالية ومعبرة عن الانفعالات مصداقية عالية: الفنانون هم رجاء خرماز، توفيق ازديو وعبد الفتاح الديوري، وزكريا حدوشي. كل ما مرّ لم يكن أن يتم بدون عنصر التمثيل كرافعة عالية للعرض. تكامل التمثيل بالرقص بالغناء، مع وعي في التعامل مع الثياب (الملابس تساعد في الدخول للشخصيات، والثوب إحالة إلى الماضي أو إلى القصة) والقماش، والديكور. ديكور وسينوجرافيا إبداعية، بحيث أن اختيار عنصري (الطاولة-التابوت)، لخص بتكثيف العوالم الذهنية الانفعالية بصريا، ساعدت بذلك الإضاءة، كما في رسم بقعة بيضاوية زرقاء على الخشبة. هل هناك أعمق من هذه الفرجة؟ التابوت .. صندوق، رمز، زهد..تقييم.. دلالات نفسية اجتماعية وطنية..في ثوب وجودي، ناقد ونقدي، وجامع ما بين تصوير الحياة النفسية، بصراحة وجرأة، كأن الكاتب هنا والمخرج، إنما أرادا الحديث عن جوهر النفس، التي في التعمق فيها يمكننا فهم أفعالنا وردود الأفعال. المسرحية لفرقة دوز تمسرح- مراكش، دراماتورجيا وإخراج عبد الجبار خمران، كوريغرافيا توفيق ازديو، موسيقى زكريا حدوشي، سينوغرافيا (يوسف العرقوبي)، .(طارق الربح)ملابس