لم يظل الجنون في الهامش دائما، وإنما صار موضوعا لمفكرين وفلاسفة بداية من أواخر القرن التاسع عشر، ف “مشيل فوكو” الفيلسوف الفرنسي، قد أفرد له كتابا، حيث قام فيه بحفر تاريخي وثقافي وسياسي وديني لظاهرة الجنون في العصر الكلاسيكي إن الجنون قد صار موضوعا للأدب، ومن هنا نشير إلى عنوان المجموعة القصصية الموسومة ب “غرفة المجانين”، للقاص المغربي حسن كشاف، والتي سنحاول أن نقف عندها وقفة نقدية. وبهذا، يكون أول عتبة تواجهنا هي العنوان باعتباره تعريضا للمجموعة كاملة. فالعنوان، ومنذ الوهلة الأولى، يطلعنا على حصر للجنون في مكان محدد، أي في غرفة لها جدران، ما يجعلنا نذهب إلى أننا أمام غرفة في مصحة عقلية للمجانين. ويعزى زعمنا هذا إلى كون الكاتب يبدأ أول قصصه بقصة “سكان الجدران”، والتي تعد افتتاحية تأكيدية للعنوان، إلى جانب قصة “غرفة المجانين” التي سنقف عندها وقفة أساسية لكونها محورية في المجموعة. ومن خلال قراءتنا للقصص، يمكن القول إنها مستوحاة من قضايا الواقع وهمومه ومشاكله، وذلك لكون الكاتب قد اختار مواضيع عرفت انتشارا في المجتمعات العربية عامة، والمجتمع المغربي على وجه الخصوص. ويتجلى ذلك في: – المستوى السياسي: والذي يحضر في قصة “البناية الشيطان” حيث تكشف لنا عن وعود السياسيين الزائفة، وفساد مبادئهم وأخلاقهم التي ذابت في حرب الجري وراء الكراسي. كما أن هنالك إشاراتٍ واضحةً، تطلعنا على أن الفئة السياسية المقصودة هي حزب العدالة والتنمية، إذ “وقف الجميع مندهشين: أليس هذا هو السيد بن كي…؟ أليس نفس الرجل الذي انتخبناه؟”، كما تؤكد ذلك قصة “العم الراضي” حيث ورد على لسان هذه الشخصية: “آه كم أمقت هؤلاء السياسيين الذين يتقاطرون على دوارنا كلما اقتربت الحملة الانتخابية”. – المستوى الاجتماعي: ويعتبر هذا المستوى مهيمنا على معظم القصص، ففي قصة “الحافلة رقم 143” نجد تجسيدا للوضعية الهشة التي بات يحتلها التعليم في المغرب، فضلا عن الأوضاع الاجتماعية المزرية لنسائه ورجاله؛ لأن وضعية الشخصية في هذه القصة تطلعنا على أن وظيفتها هي؛ التعليم. فكل رأسمال المعلم هو: “بطاقة للأعمال الاجتماعية” و”أخرى للمصرف تستعمل مرة واحدة في الشهر”. كما أن ثمة حضورا لظاهرة الشعوذة التي انتشرت في المجتمع المغربي في السنين الأخيرة، فهي لم تعد وقفا على عامة الناس الذين لا حظ لهم من الوعي، بل صار حتى أنصاف المثقفين، من سياسيين برلمانيين وغيرهم، يترددون على بيوت المشعوذين، وهذا ما نستشفه واضحا من قصة “القط مسعود”. – المستوى الثقافي والفكري: حيث تصور لنا قصة “الفنجان الأخير” واقع الفكر والثقافة في المغرب، فالسارد يخبرنا أنه تصفح الجريدة، بعدما اتخذ زاوية في المقهى، فلم يجد سوى أحدث المقالات التي عرفت انتشارا بتفاهتها ولا جدواها، ومن ثم فإننا أمام زمان يبجل التفاهة ويحارب الفكر والثقافة. كما أن السارد في هذه القصة، قد أطلعنا على قراءته خبر موت شخصية لها باعٌ طويلٌ في الثقافة قبل أن يتم الاحتفاء بها وتكريمها، ما يجعلنا نذهب إلى أنه يبين أن الكُتَّابَ لا يُعترفُ بهم إلا بعد موتهم، فهذا دليل على مكانة الثقافة والإبداع في المغرب، وقد صدق “نيتشه” لما قال: “إن هنالك أشخاصا يولدون بعد موتهم”. عناصر القصة: من خلال تتبعنا للقصص، يمكننا القول إنها قد احترمت كل خصوصيات وعناصر السرد القصصي، والتي جرى بها التقليد في تقنيات جنس القصة، ومن ثم سنبدأ حديثنا ب: الشخوص: إن متأمل شخصيات المجموعة سيجد أنها تنقسم إلى قسمين: فالقسم الأول تمثله شخصيات من عامة الناس الذين يعيشون مشاكلَ اجتماعيةً؛ كالفقر، والبطالة، وانعدام التطبيب، وقلة الوعي، وبشكل عام، نقول إنها تعاني سوءَ العيش وانعدامَ ظروفه الملائمة. كما أن هنالك شخصيات لها مستوى معين من الوعي: البرلمانيون، الطلبة (كمال، عفاف ونوفل…)، (السارد في قصة “الحافلة رقم 143″…) أما القسمُ الثانيُّ منَ الشخصيات، والذي تضمه حكاية “غرفة المجانين”، فإنه يستحضر رموزا بارزة في المجتمعات الأوربية؛ إذ أنها تمثل مشاربَ فكريةً وفنيةً مختلفة: ف “نيتشه” يمثل الفلسفة، و”ريتشارد فاغنر” يرمز إلى الموسيقى الألمانية في فترة تاريخية محددة، و”إرنست أورتلب” يمثل الشعر، و”موبسان” القصة القصيرة. لكننا نتساءل، ونحن نقرأ القصة، عن السبب الذي جعل السارد يطلب صورتَيْ “نيتشه” و”موبسان”، وكذلك سبب الجمع بين هذه الشخصية في مشهد سردي واحد. فالقارئ للقصة، سيستحضر أن نيتشه قد أصيب بالجنون ما بين 1889 و 1900، وموبسان قد أصيب به سنة 1891، ومن ثم فإن ما جعل الكاتب يستحضر هاتين الشخصيتين هو كونهما معا تشتركان في الجنون، باعتباره تيمةَ القصة، ومحورها الأساس. في حين أن ما يجمع بين “فاغنر” و”أورتلب” هو كونهما صديقي “نيتشه”، فمما عرف عن هذا الأخير أنه قد قدم نقدا لاذعا لأصدقائه، الواحد تلو الآخر، كما أنه كلما كتب كتابا فقد أحدهم. وهذا ما ورد في القصة على لسان موبسان: “إذا صارعه مجددا ففي ذلك خير، لعل ذلك يحرك فيه قريحة تأليف كتاب جديد”، “إلا خصومات “نيتشه” و”فاغنر” فهي خصومات المتحابين”. ومن هنا نصل إلى أن القصة تعرب لنا عن معرفة الكاتب الدقيقة بحياة هؤلاء الأشخاص، كما أنه استطاع أن ينقل لنا جانبا من معارك نيتشه مع أصدقائه في أسلوب فني متماسك. الزمان والمكان: يبدو جليا أن السارد يسرد لنا أحداثا قد وقعت في زمن الماضي، وهذا ما يدل عليه الزمن النحوي؛ لأن أغلب الأفعال أتت بصيغة الماضي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هنالك زمان فلكي حاضر في المجموعة، كالليل والنهار وكل هذا يجعل الأحداث متموقعة داخل زمنها ومتسلسلة. أما المكان فإنه تنوع بين خاص وعام: فالعام هو المغرب، والخاص يتجلى في مدن مغربية متنوعة، لكل مدينة حضور بارز ودور فعال في قصة من القصص، وهذه الأماكن هي: القرية، وجدة، مارتيل، الدارالبيضاء، الغرفة، الحافلة…، وبالتالي نقول إن الأحداث تم تأطيرها داخل أزمنة وأمكنة متنوعة. تسلسل الأحداث: هنالك تسلسل منطقي لأحداث المجموعة القصصية، حتى وإن كانت مختلفة باختلاف المواضيع وتعدد المقامات السردية، إلا أن الكاتب، من خلال كائنه الورقي، قد لجأ بقارئه الضمني إلى التدرج في سرد الأحداث وبلوغ النهاية، ما يدفع بالقارئ إلى الانغماس في السرد رفقة السارد، فضلا عن الدفع به إلى إيجاد نهاية للقصص. فما لفت انتباهنا في هذه النصوص القصصية هو عنصر التشويق، حيث يدفع القارئ إلى تتبع مسارات السرد، والتكهن للنهاية من خلال تأويلات متعددة. تكسير أفق انتظار القارئ: هنالك قصص تكسر أفق انتظار القارئ، ومن بينها قصة “البناية الشيطان” حيث يقدم القارئ تنبؤا معينا لوظيفة البناية، كما جميع السكان، ليفاجأ بكونها سجنا، وهنا يتكسر أفق انتظاره. طبيعة النهاية في القصص: يقدم الكاتبُ نهايةً لأغلب قصصه، إلا أننا نجد نهايةً ضمنيةً في قصة “حمام”، ففي هذه القصة يذهب السارد بالمسرود لهُ إلى محاولة اكتشاف السارق، كما حافظ الملابس، وشخصية “با الكبير” والشرطة، والسارد نفسه، ليفاجئه السارد بنهاية ضمنية، وهي قوله: ” … وموت حافظ الأغراض، جراء لسعة عقرب اندست في أغراض أحدهم”. وبالتالي فإن الذي كان يسرق أغراض المترددين على الحمام هو حافظ الملابس، وإلا كيف ستلسعه العقربُ المندسةُ في أغراض أحدهم دون أن يحاول تفتيشَها لحاجة في نفسه. كما أن قصة “رقية” تقدم للقارئ نهايةً مفتوحةً على تأويلات عدة، فما دامت المرأة التي أغدقتِ العطاءَ والسخاءَ على رقية، لا تريد الابن لمؤانسة ابنها، فإنها قد أرادتهُ لغاية أخرى قد تكون بترا لأحد أعضائه: كِلية أو قلبا أو…؛ لأن المرأة ذهبت لتجري عملية في فرنسا. وقد يذهب القارئُ الضمنيُّ إلى كون المرأة تتاجر في الأطفال الصغار، وهكذا يجد نفسه في متاهة من التأويلات والتخمينات. الحوار: لقد لجأ الكاتب إلى الحوار حتى يمررَ قيمَه ومبادئَه وتوجهاتِهِ السياسيةَ والاجتماعيةَ والثقافيةَ للقارئ، فقصة “قوارب لا ترسو”، تنقل لنا مرضا خلّف جروحا، ولا يزال، في نفوس الشباب والشيوخ؛ لأن الصراع بين هذين الجيلين كان وسيظل مستمرا ما دام الإنسان على وجه البسيطة، وفي القصة، ينقل الكاتب وجهة نظره في التاريخ، والاستعمار: فالتاريخ مزور، كتبه الأقوياء، والمستعمر لا زال حاضرا في أبناء جلدته، ووجهة النظر هذه قد يشاركه فيها كل شباب البلدان العربية المستعمرة فكريا وثقافيا. التناص: يمكننا الحديث عن وجود تناص في قصة “قوارب لا ترسو”، ويعزى ذلك إلى كون لفظة الحمقى قد وردت هنا، ما يدفع القارئ إلى استحضار سفينة الحمقى التي ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث يتم، حسب ميشيل فوكو، استبعادُ المجانين وإرسالُهم إلى أماكنَ قصيةٍ محملين في سفينة بدون ربان تجول البحار الأوربية، ودون أن يقر لها قرار. كما أن هنالك اقتباسا يحضر في قصة “غرفة المجانين”، إذ ورد على لسان موبسان: “إن هنالك من الحقائق ما يساوي الناس عدا..”، وهذا ما نقل عن موبسان. كذلك نجد عبارة “الذي يأتي ولا يأتي”، ما يجعلنا نستحضر الشاعر الحداثي عبد الوهاب البياتي، فضلا عن حضور هرم القصة الروسي الطبيب تشيخوف، إذ أنه يحضر في قصة “سكان الجدران” وقصة “كمال والكمان”، مما يدل على أن الكاتبَ متحَ من معينٍ متعددٍ ومتنوعٍ في مجال الأدب والفلسفة. طبيعة السرد في المجموعة: يهيمن على القصص سرد الشخص الأول؛ لأن السارد يتحدث بضمير المتكلم “أنا”، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نجد حضورا، وإن كان يقل عن الأول، لسرد الشخص الثالث: السارد يروي لنا قصص شخوصه (قصة بط مرتيل، رقية، الفنجان الأخير…). وحسب تقسيم جيرار جنيت، نقول إن هنالك سرد المحكي الداخلي؛ لأن السارد في أغلب القصص يكون مشاركا باعتباره شخصية البطل (سكان الجدران، الحافلة رقم 143، الفنجان الأخير، حمام)، أما سرد المحكي الخارجي، فإنه يحضر في حوار الشخصيات، وسرد السارد لقصصها، فضلا عن الوصف الدقيق لها، سواء أكان داخليا نفسيا أم خارجيا فيزيولوجيا: (البناية الشيطان، العم الراضي، القط مسعود، عفاف…). نعثر كذلك، على السرد المركب، حيث السارد أثناء سرده لقصته “خدعة” قد شرع في سرد قصة المرأة رفقة اللصين والتاجر، وهنا نجد أن ثمةَ سردا داخل سرد؛ أي أن السرد الإطار أو الرئيس هو السارد في القصة، أما السرد الثانوي الموجود داخل السرد الأول، فيتجلى في سرد قصة المرأة رفقة الحجر الملفوف بالقماش، كما أن هنالك سردا تناوبيا يظهر في بعض القصص، ونخصُّ بالذكر قصة “حمام” حيث عاد السارد إلى طفولته ثم استرسل في سرده بشكل تصاعدي نحو النهاية. – تعدد الساردين: نمثل له بكون السارد في قصة الفنجان الأخير، يسرد بحثه عن الثقافة في الجريدة، وفجأة يدخل سارد آخر يظهر في: “صوت لم أقدر على تحديد مصدره يفصح: “عن أي ثقافة تتحدث، ثقافة المجاملات، ونشر الحماقات، وتشجيع كل مائع مبتذل؟”. – تعدد الأصوات: هنالك أصوات متعددة للشخصيات داخل القصص، تختلف نبراتها، ولهجاتها، ولغتها، باختلاف مكانتها الفكرية والاجتماعية. – ثمة إيماءات تداولية تعرب لنا عن وعي السارد بالمسرود لهم، فضلا عن درجة توجيهه إليهم، ونمثل لذلك ب : ” أراهن أنكم لا تعرفون…” و” لا أخفيكم علما أني لا أحب الحمامات عموما…”. – كما أننا نجد أن هنالك وثوبا مفاجئا في مسار السرد في قصة “كمال والكمان”، بحيث إن السرد، في البداية، كان سرد الشخص الثالث: “ما إن يلجئ كمال نعجاته العشر إلى الزريبة عند الغروب…” (ص77)، ثم فجأة ينتقل إلى سرد الشخص الأول: “وعندما يراني مستمرا في الصمت…” (ص77). وهكذا يختل السرد في هذه النقطة من هذه القصة. على سبيل الختم: عموما، يمكن القول إن “غرفة المجانين” نصوص قصصية تنم عن إبداع القاص حسن كشاف، فضلا عن اطلاعه على عناصر القصة القصيرة، ومواكبته لما يجدُّ في هذا المجال. كما استطاع أن يلتقط لنا مواضيع هامشية واقعية، مسقطا عليها الضوء الإبداعي، مقدما لنا قصصا نموذجية متضمنة لمعارف قيّمة، ولقيم ومبادئَ مكينة، ومعانيَ زاخرةٍ وافرة، كل ذلك، يجعل القارئَ مشاركا الكاتبَ في مجموعته، ومحملا بِعُدة معرفية، وثقافية، فضلا عن الإمتاع، وكذا اللغة البسيطة الواضحة التي تجعل القصص موجهةً إلى قراء متعددين ومختلفين، ثقافيا وفكريا واجتماعيا، بحيث إن كل واحد منهم سيجد ضالته فيها. وبهذا تكون المجموعة إسهاما إبداعيا في إغناء المكتبة العربية في جنس القصة.