رغم تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن جميع الوقائع والمؤشرات تؤكد أننا نقترب حتما من نهاية مرحلة مظلمة، بدأت بوصول الخميني إلى طهران قبل أكثر من 40 عاما، وأطلقت شياطين استغلال الدين في السياسة في أرجاء المنطقة، التي امتدت تداعياتها المدمّرة إلى معظم أنحاء العالم. اليوم أغلقت جميع الأبواب وسقطت جميع عوامل بقاء النظام القائم في إيران، على الأقل بشكله الحالي، إلا إذا تمكّن من تغيير جلده وكل السياسات، التي يقوم عليها وخاصة التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهو أمر مستبعد وقد يؤدي إلى انهياره في موعد أقرب من حتى الإصرار والتمسك بصيغته الحالية. الأنظمة الشمولية لا تملك مرونة التأقلم مع التحولات الجديدة، وتغيير موقع أيّ حجر في جدارها العتيق يؤدي إلى انهياره حتما، ولذا فإننا أمام نهاية حتمية لذلك النظام، لأن رفع العقوبات الأميركية عنه أمر مستحيل دون تغييرات شاملة لا يمكن له تنفيذها. عالم اليوم يختلف عمّا كان عليه في ثمانينات القرن الماضي أو حتى 5 سنوات. والنظام الإيراني أصبح اليوم آخر شذوذ كبير يصطدم مع الحد الأدنى من معايير المجتمع الدولي للالتزامات، التي يجب على الدول مراعاتها في التعامل مع الدول الأخرى. على مدى أربعة عقود كانت هناك مجالات واسعة أمام النظام الإيراني للمناورة والمراوغة والتمدد واللعب على التناقضات في الصراعات الدولية والمحلية لنشر أذرعه الخبيثة، وصناعة الجماعات المسلحة والميليشيات والعصابات الإجرامية في الكثير من دول العالم. لم يكن طوال تلك الفترة، بالإمكان تحقيق أي إجماع عالمي على ضرورة تغيير سلوك النظام الإيراني المزعزع لاستقرار الكثير من دول المنطقة وإيقاف تسلل أصابعه إلى معظم أنحاء العالم، في ظل وجود العشرات من الأنظمة الشمولية التي تتعارض وتتقاطع بشأنها مواقف القوى العالمية الكبرى. العالم تغيّر كثيرا في السنوات الأخيرة، ولم تعد هناك سوى شوكة واحدة في خاصرة الحد الأدنى من نظام دولي تكون فيه حدود لسادة الدول. لم يعد هناك سوى نموذج صارخ واحد هو النظام الإيراني، الذي يقوم عموده الفقري على أنه معنيّ، ليس فقط بجميع دول الشرق الأوسط والدول الإسلامية بل بجميع هذا الكوكب. دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يعترف بالوطن، لا الإيراني ولا أي وطن آخر، والولي الفقيه فيه هو وكيل الله في الأرض، كل الأرض. الشذوذ الإيراني يختلف عن جميع نقاط التوتر الأخرى في العالم من كوريا الشمالية إلى ميانمار وفنزويلا، لأن تلك القضايا لها إحداثيات معقّدة وهي موضوعة على الطاولة وعلى مسار تفكيكها. أما قضايا العراقولبنان واليمن والقضية الفلسطينية فجميع حلولها تمر عبر نهاية نظام إيران، أو سياساته الحالية على الأقل. انفجار الشارع الإيراني يمكن أن يحدث في أي لحظة رغم قسوة الحرس الثوري والأجهزة القمعية الأخرى، التي أصبحت في وضع انتحاري، لأن مصير النظام كل النظام هو وحدة واحدة لم يعد بالإمكان تجزئتها، ولا حتى بين متشددين ومعتدلين. اندلاع احتجاجات الإيرانيين مسالة وقت ليس أكثر، وقد سبق أن تفجرت مرارا في العامين الأخيرين، وهي لا يمكن أن تتأخر طويلا برأي المحللين في ظل الوضع الفريد لانسداد جميع أبواب الخلاص من قسوة العقوبات. وها هي شرارات الثورة العارمة في لبنانوالعراق تقترب من إشعال فتيل الانفجار الإيراني، وخاصة ما يحدث في العراق، لأن الانتفاضة يقودها سكان الوسط والجنوب ذي الأغلبية الشيعية، والتي تسعى لإسقاط حكم الطبقة السياسية الطائفية التابعة لإيران. عوامل انغلاق جميع الأبواب بوجه النظام الإيراني كثيرة ومترابطة، لكن شرارتها الكبرى جاءت من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات لا يمكن مقارنتها بأي عقوبات سابقة. باعتراف المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس حسن روحاني فإن هذه العقوبات لا يمكن التعايش معها إطلاقا، لأنها خنقت جميع الشرايين المالية والاقتصادية، وهي أقسى في طبيعة الحياة اليوم من تأثيرها لو كانت قد فرضت في أي عهد سابق. بدأ العد التنازلي في ظل استحالة خروج النظام الإيراني من حفرته العميقة. حتى لو رحل ترامب فلن يتمكّن أي رئيس مُقبل من رفع العقوبات بعد أن تم ربطها من قبل معظم الدول الكبرى، وخاصة الدول الأوروبية بسلوك طهران المزعزع لاستقرار الكثير من دول المنطقة. إذا افترضنا أن النظام الإيراني سوف يصحو غدا ويوافق على إيقاف تدخلاته الخارجية، فإنه سيجد نفسه على منحدر طويل من التنازلات دون أن يرى سوى سراب في نهاية نفق طويل جدا. قسوة العقوبات الحالية لا تمنح السلطات الإيرانية أي مجال للسير في طريق تنازلات طويلة دون أن تتصدع وتنهار جدرانه المتهالكة. خروج الخميني من كهوف التاريخ الظلمة بهوية طائفية إقصائية لا تعترف بالحدود وسيادة الأوطان وقوانينها، كان من أكبر نكسات التاريخ الحديث وربما أكبرها على الإطلاق. بل يمكن القول إن وصول "الولي الفقيه" إلى سدة الحكم في دولة كبيرة مثل إيران، لا وجود له حتى في كهوف التاريخ، لأن ذلك العنوان الوظيفي، الذي يجعله وكيل الله في جميع أنحاء الأرض، يفوق كل عناوين أدوار الخلفاء والسلاطين والملوك والقياصرة. الدمار الذي سببه ذلك النظام لم يقف عند المنطقة العربية، التي احتلت صدارة أهدافه، ولا حتى الدول التي فيها أغلبيات أو أقليات مسلمة مثل جنوب آسيا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا ودول آسيا الوسطى، بل امتد إلى معظم بقاع العالم، التي طالتها التفجيرات الإرهابية وموجات الهجرة الناتجة عن دمار الكثير من البلدان بسبب أجندات نظام طهران. زلزال وصول الخميني إلى حكم إيران لا يمكن مقارنته بجميع الثورات والنكسات والحروب التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط لأنه مزق النسيج الاجتماعي وأشعل قنبلة الإسلام السياسي والنعرات الطائفية والدينية، التي ما كان لها أن تنفجر بهذا النطاق الشامل لولا اختطاف الجماعات الإسلامية الطائفية للثورة الإيرانية في عام 1979. قبل ذلك التاريخ كان الإسلام السياسي موجودا في هامش ضئيل ومنبوذ ولا يملك أي فرصة لهدم نسيج المجتمع ومؤسسات الدولة، لكن زلزال وصول الخميني أشعل فتيله في جميع أنحاء العالم الإسلامي. ينبغي أن نشير إلى أن القضية ليست قضية "إسلام سياسي" تحديدا، بل هي قضية استغلال الدين في تدمير أركان الدول وهدم قيم العدالة والحرية والمواطنة المتساوية. واستخدام أي دين بتك الطريقة أدى ويؤدي على مر التاريخ إلى ذات النتائج. طوال إقامتي في أوروبا منذ عام 1991 كانت وسيلتي الوحيدة لشرح ما يحدث في الشرق الأوسط لأصدقائي الأوروبيين هي القول؛ تخيلوا لو أن نظاما كاثوليكيا متطرفا خرج من كهوف القرون الوسطى ليتولّى الحكم في إيطاليا مثلا، وينتهج سياسات دينية طائفية متطرفة ويتدخل في شؤون جميع الدول الأوروبية الأخرى لتصدير ثورته المتطرف إليها؟ وكان ذلك السؤال يؤدّي على الدوام إلى إيقاظ مخيّلتهم على حجم الصراعات الطائفية والحروب والمد الديني المتطرف، التي يمكن أن تنجم عن ذلك في جميع أنحاء أوروبا. اليوم أغلق الباب على النظام الإيراني الحالي وأصبح من المستحيل فتحه مرة أخرى، ولذلك فإننا اليوم أمام بداية نهاية مرحلة مظلمة بدأت قبل 40 عاما. سلام سرحان