كان قد أهدى لها وردة حمراء،ذات مساء، فاحتفظت بها للذكرى، وهاهي اليوم بعد أن رحل طيفه، وغادرتها ابتسامته، تبادر بمسح الغبار العالق على تويجات الوردة،غبار يحمل معه ألف ذكرى وذكرى، وهي تمسك بالوردة، تذكرت ذلك اليوم الاستثنائي الذي جمعهما ببعض، حيث جلست كالعادة على مقعد خشبي بإحدى الحدائق العمومية، تتأمل زخرفة الطبيعة، تشاهد كيف تحتضن الورود قبلات النّدى في شغف طفولي، وكيف تفرد الأشجار أغصانها لاحتضان أسراب عصافير تائهة، وقعت عيناها على ملاك مرسوم، رأته شاخصا بمعطفه الأسود قبالتها، حاملا في يده وردة حمراء، لم تنزع عنه نظراتها، حاولت أن تلفت انتباهه، غير أنه كان شارد الذهن، لا يعلم بوجودها حتّى. قرّرت أن تبادر هي، فرفعت جسدها من على المقعد،واتجهت صوبه بخطوات واثقة؛كان واقفا يتأمل الطريق الرئيسي،وكأنه على موعد ما. دنت منه وقالت باستحياء أنثوي: - سيدي، أتسمح لي بأن أسألك؟ أجابها وعيناه لا تفارقان الطريق الرئيسي: - نعم،تفضلي. اهتز قلبها لصوته، واعترتها رعشة قوية، هزت كيانها، فانسابت مع دفء صوته لحظة، كانت تود أن تقول له إن صوته يعني لها الشئ الكثير، وأن رائحة عطره تلك لا تفارق أنفها، كانت ترغب في أن تخبره أنّ طيفه، هو ضيف يومي في أحلامها، وأنّها كم من مرّة كانت تراقبه عن بعد،وتنتظر فقط أن ينتبه هو إلى وجودها، لكنها عدلت عن ذلك،واكتفت بسِِؤال جاف: - كم تكون الساعة الآن؟ أزاح كُمّ معطفه عن معصم يده،وعيناه شاخصتان في الطريق الرئيسي، نظر إلى ساعته اليدوية بسرعة، معيدا عينيه إلى الطريق،وأجابها: - إنها الواحدة ونصف لم تعر إجابته أدنى اهتمام، وراحت عيناها تلتهمان ملامح وجهه في نهم، تطارد تعابير وجهه،بحثا عن خيط ما يقودها إليه، تراه من ينتظر؟ كانت تبحث عن إجابة شافية في عينيه، لكنها لم تعثر إلاّ على مزيد من الغموض، كان يلتبس مقلتيه. لا حظت علامات الضجر بادية على محيّاه،فسألته: - يبدو أنك تنتظر أحدهم. التفت إليها، مستغربا جرأتها تلك: - نعم، أنتظر أحدهم. كانت تتمنى لو أنه يسألها نفس السؤال،لكانت أجابته أنّها تنتظره منذ زمن، وأنه ذاك الشخص المُنتظر... وهاهي ذي الآن بجواره... لا يهمّها إن كان لا يكترث لوجودها،يكفيها فحسب أن تكون بقربه،أن تحدّق في عينيه مباشرة دون خوف... أن يبادلها الحوار حتّى ولو كان جافّا...المهم أن تستلذّ صوته الدافئ. حاولت أن تكسّر ذلك الصمت،الذي غمر ساحتهما. - الجوّ حار اليوم،أليس كذلك؟ - بلى في حقيقة الأمر،هي لا يهمّها الجو،تودّ فقط أن تعرف لمن تلك الوردة التي بيده. - كم هي أنيقة تلك الوردة الحمراء،غير أنّني أُشفق عليها من شدّة حرارة الجوّ. نظر إلى الوردة باستعطاف، ثمّ التفت إلى الطريق الرئيسي، فوجده خاليا،أعاد النظر إلى الوردة التي شرفت على الذبول من طول الانتظار، كما ذبل صبره من قبل، بعد كل هذا الانتظار،اهتز الهاتف النقال من بين أنامله. وصلته رسالة قصيرة، قرأها بتمعّن، أدرك أنّها لن تأتي.أحبط كثيرا، وأصيب بخيبة أمل. نظر إلى الفتاة التي بجواره، تلاقت نظراتهما الفاحصة. ابتسم لها بألم، ثمّ مدّ لها الوردة الحمراء وغادر، أمسكتها بلهفة ممزوجة بنكهة الدهشة والغرابة، احتضنتها في شوق، مع أنّها تعلم مسبقا أنّها كانت لأخرى، نظرت إلى الطريق الرئيسي، لم تجد له أثرا،كانت قد ابتلعته الطريق.