اعتبر الشاعر المغربي مصطفى ملح الكتابة الإبداعية شرط وجود، وليست ترفا أو لعبة لغوية، وأرجع فعل الكتابة إلى الاستعداد الفطري والموهبة والطموح، وتخزين المشاعر القوية قصد التعبير عنها فنيا، مشددا على أنه لا ينبغي أن تكون الكتابة نشاطا ينجز تحت الطلب، لأن ذلك يحد من الإبداع ويقتل المعنى الحقيقي للكتابة المتمثل في المغايرة والخلق والإدهاش. وأكد مصطفى ملح في حوار أجرته معه “بيان اليوم” أن الشاعر هو من يكشف عن الظل والمخبوء والمرموز والمنكسر والمتلاشي.. وهو إلى جانب ذلك يستند إلى لغة المجاز والرمز والحذف والمحو، أما الروائي فهو خالق عوالم تحركها شخوص داخل أمكنة خاصة ومؤطرة بأزمنة خاصة كذلك. وأشار ملح إلى أن دواوين “أمواج في اليابسة” و”سماء لا تسع السرب” و”لا أوبخ أحدا” شكلت التحول الأكبر في تجربته الإبداعية، لأنها بكل بساطة انحازت إلى البسيط واليومي وابتعدت عن الأصباغ البلاغية التقليدية التي تثقل كاهل القصيدة. وأوضح أن الثقافة في انهيار، وبنيانها آيل للانكسار، والمبدع داخل هذه الشروط المجحفة، لن يكون إلا مناضلا يحمل بندقية حب ليطلق الرصاص الرومانسي على الغابة، ملفتا إلى أن الساحة الثقافية المغربية لا تعرف نقادا بل حقادا يقاربون نصوص أصدقائهم، وبذلك فالنقد مريض، ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك، لأنه مؤشر حقيقي على فساد المشهد الثقافي وتفشي قيم البؤس داخله، وفيما يلي نص الحوار. حدثنا عن الإرهاصات الأولى في عالم الكتابة وهل الكتابة معاناة؟ الكتابة شرط وجود قبل كل شيء، بمعنى أنها ليست ترفا أو لعبة لغوية أو تزجية وقت، ولكنها رهينة بوجود عدة عناصر أساسية، يمكن اختزالها فيما يلي: أولا: الموهبة أو ما يمكن تسميته بالاستعداد الفطري للكتابة والطموح إلى التوغل في أرخبيلاتها. ثانيا: المعرفة، ويتعلق الأمر هنا بالقراءة وتمثل الموروث الشعري وتشكيل رؤية بلاغية وفنية وفكرية، تكون ثمرة لذلك التمثل والتفاعل. ثالثا: المكابدة والمراس وتخزين المشاعر القوية قصد التعبير عنها فنيا، ولعل أهم تلك المشاعر هي التي تمثل مشتركا وجوديا إنسانيا بين جميع الناس، مثل الحب والموت والخوف والغربة.. أنا لست استثناء، بمعنى أنني قرأت بشغف، وتفاعلت مع المقروء الشعري والسردي، وشعرت منذ البداية بأن بي شغفا لأكتب، ساعيا إلى تفجير جبال الجليد التي تتراكم داخلي مثل اللعنات. ومن ثم انخرطت في الكتابة، مكتشفا أسرارها بالتدريج، مدججا ببعض الأسلحة المعرفية التي من شأنها أن تسعف الشاعر لينجز معماره الشعري. قبل أن تكتب هل تفكر في الجوائز الأدبية التي بدأت تؤرق بال الكتاب والمغاربة العرب؟ الكتابة الإبداعية لا ينبغي أن تكون نشاطا ينجز تحت الطلب، هي الحرية والفوضى الخلاقة والرغبة في التحليق قصد نفض الغبار الوجودي الذي يلطخ الجسد والروح معا. الكتابة تحت الطلب كبح لجماح الخيال، وتسييج للقدرات الذاتية المتفجرة، واغتيال لمعنى الانطلاق. لم أفكر يوما في أن أكتب نصا على مقاس المعايير التي تقترحها لجان القراءة، لأن هذا يحد من الإبداع ويقتل المعنى الحقيقي للكتابة المتمثل في المغايرة والخلق والإدهاش. كل قصيدة هي مشروع ورؤية وإبحار، فإذا وافق إبحاري الشعري معايير جائزة ما فلا بأس بذلك، شريطة ألا أتخلى عن رؤيتي الجمالية واقتراحاتي الشعرية. حدثنا عن ديوانك الشعري ” بين الكاف والنون” الذي كتبت نصوصه خلال الدراسة الجامعية؟ بين الكاف والنون هو إصداري الشعري ما قبل الأخير، لأنني أصدرت قبل أسبوعين مجموعة شعرية تحت عنوان “ليلة في مازكان”. “بين الكاف والنون” نصوص شعرية كتبت في 1989م خلال مرحلة الدراسة الجامعية. هي نصوص تشتغل على النص الديني وتسائله ساعية إلى خلق تعالقات نصية معه. ومن بين تلك النصوص: (طبعة منقحة من إصحاحات موسى المغربي)، (عيسى ابن النخلة)،) قرابين).. وغيرها، ويظهر جليا من خلال هذه العناوين حضور النص الديني، ليس كعنصر تجميلي تكميلي وإنما كمكون أساس يندغم مع بنية الكتاب. أين يجد الكاتب مصطفى ملح ذاته، هل في الشعر أم الرواية أم القصة ؟ أنا متعدد في الوحدة وواحد في التعدد، أقصد أنني شاعر، لا أشبه نفسي قاصا أو روائيا، لأن الشاعر يختزل ويكثف ويضيء ويعتم كذلك ويكشف عن الظل والمخبوء والمرموز والمنكسر والمتلاشي.. وهو إلى جانب ذلك يستند إلى لغة المجاز والرمز والحذف والمحو، أما الروائي فهو خالق عوالم تحركها شخوص داخل أمكنة خاصة ومؤطرة بأزمنة خاصة كذلك، والروائي نتيجة ذلك له متسع ومساحة ليقول أكثر. شخصيا أتعدد، محترما خصوصية كل جنس، لذلك فقصيدتي لا تشبه قصتي، وبالتالي أستطيع أن أفصل بين تقنيات ومهارات كل جنس أدبي، مستفيدا من الطاقات النفسية التي يتيحها كل نوع أدبي. وخلاصة القول، لا أفضل نوعا على آخر وإنما أعطي لكل واحد ما يستحق من جهد وتفاعل. الشعر هو الشعر كما يقول هايدغر، فماذا يقول مصطفى ملح بهذا الخصوص؟ لقد قيل كلام كثير عن الشعر. هو اللغة العليا، وهو سيد الكلام، على حسب رأي مالارميه وياكوبسون وغيرهما،غير أنني أرى أن الشعر عصي عن التصنيف والتعريف، وكل تعريف له هو إقبار لهويته وذاته، لأن المقولة القديمة التي تفيد بأن الشعر هو الكلام الموزون المقفى لم تعد صالحة لعصر مضطرب وعصي عن الفهم. ولكن تجربتي في الكتابة وإصداري لتسع مجموعات شعرية يمنحني الفرصة لأقول ما يلي: الشعر هو إبداع مختلف وراق، دعامته لغة منزاحة ومشاعر قوية ورؤى تذهب في اتجاه المستقبل، وهو منطقة وسطى بين لغة استعارية عالية الترميز باذخة التعقيد وبين لغة تمتح عنصرها الأساس من اليومي والبسيط والمعتاد. إنها الرهان الصعب، كتابة نصوص ليس غامضة كل الغموض، وليست واضحة كل الوضوح. بمعنى كتابة الشعر، أقصد كتابة الحياة. في حياة كل كاتب قصة لم تكتب، فما هي قصتك التي لم تر النور؟ كل قصيدة تحمل قصة ما، مضمرة، وقصتي هي أن تنتصر قيم الجمال على قيم القبح، أن يعيش الكائن في وسط يحترم آدميته، ألا تغتال المزهريات وألا يعلو الغبار والصدأ المشاعر، لا أختلف كثيرا عن باقي الشعراء الذين يحلمون بيوتوبيا ممكنة، المدينة الفاضلة ممكن تحققها إذا توفرت شروط ذلك، فيعيش الناس بسلام وبدون تفجير ديناميت ولا إرهاب ولا تعد على حق الآخر في الوجود. قصتي هي حلمي بأن أستيقظ يوما فأستنشق أوكسجين المحبة، ولا أجد البغضاء والكراهية والعنصرية والظلم. أعرف أنها قصة محلوم بها في اللاوعي، وتحققها صعب، غير أنني مقتنع كل الاقتناع بأنها غير مستحيلة، وسوف أظل أحلم بهذه المدينة الفاضلة، حلما شعريا، حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة. كيف ترى الحركة الثقافية في المغرب مقارنة بالبلدان العربية؟ الحركة الثقافية في تدهور فظيع، الكل يبذل قصارى جهده لاغتيال قيم الثقافة، الإعلام والمجتمعات المدنية والمؤسسات الرسمية، نلاحظ مؤخرا رغبة معتوهة غير مفهومة في التغني بقيم الرداءة والعبث، وتصرف ملايين الدولارات على ذلك، مع العلم أنها تقتطع من الضرائب التي تدفعها الشعوب المقهورة، الأمر لا يختلف من دولة لأخرى، لأن العقلية القبلية التقليدية التي تهيمن على قطاع الثقافة هي نفسها السائدة في جميع الأقطار العربية. أخلص إلى أن الثقافة في انهيار، وبنيانها آيل للانكسار، والمبدع داخل هذه الشروط المجحفة لن يكون إلا مناضلا يحمل بندقية حب ليطلق الرصاص الرومانسي على الغابة، أنا أيضا أحارب لأنقذ الغابة من الخفافيش والحشرات الضارة أملا في أن تمتلئ الهضبة بالأزهار والأشعار، نحن نحارب من أجل كلمة حرة نظيفة لم تلطخها أوساخ المستنقعات الأيديولوجية. * ما هو الإصدار الأدبي الذي شكل تحولا إيجابيا في حياتك؟ كتبت مجموعة من الكتب زاعما أن كل كتاب يحدث تحولا ما، زارعا سنبلة ضوء في العتمة، غير أنني أعتقد أن ثلاثة دواوين شعرية هي التي شكلت التحول الأكبر وذلك لأنها: أولا: ابتعدت عن المواضيع الكبيرة المجترة وانحازت إلى البسيط واليومي. ثانيا: ابتعدت كذلك عن الأصباغ البلاغية التقليدية التي تثقل كاهل القصيدة، باحثا عن لغة تشبه زرقة البحر وبياض الصبح وأحلام الفجر المزروعة في عيون العصافير. وهذه الكتب هي: (أمواج في اليابسة) الصادر سنة 2014 و(سماء لا تسع السرب) الذي صدر سنة 2016 و(لا أوبخ أحدا) الصادر سنة 2018 في هذه الثلاثية الشعرية تشكلت قطيعة واضحة مع نصوصي القديمة، وبالتالي يمكن اعتبارها قد خلقت تحولا كبيرا في تجربتي الشعرية. لكم العديد من الإصدارات في مجال أدب الطفل، ماذا عن هذه التجربة؟ لقد مارست التعليم وتفاعلت مع المتعلمين بالدنو من عوالمهم الصغيرة المفعمة بالحياة. وهكذا كتبت (عصافير الطفولة) وهي نصوص شعرية للناشئة، وقد فازت بجائزة النعمان الأدبية بلبنان سنة 2009. بعد ذلك أصدرت مجموعة قصص بعنوان (ما لم تقله شهرزاد) الصادر عن وزارة الثقافة، كما صدرت لي قصص بعنوان (دموع الحورية) سنة 2018 وفي سنة 2019 أصدرت مجموعتي القصصية للفتيان بعنوان (أعشاب تنمو في القلب). ولي روايتان للفتيان تحت الطبع وهما (الطفل الذي هزم الغول) و(ترويض الوحش)، إضافة إلى قصص أخرى موجهة للأطفال. عموما، وجدت سعادة عارمة وأنا أتوغل عميقا في عالم الطفل، لكن تجدر الإشارة إلى أن طفل اليوم مختلف عن طفل الأمس، وأكثر ذكاء، وبالتالي ينبغي أن نتفهم رغباته وطريقة تفكيره ونمط إحساسه ونحن نتوجه إليه بالكتابة، شعرا أو سردا. هل يجد الكاتب المغربي دعما من الجهات الوصية على قطاع الثقافة؟ الذين يدعمون هم الراقصات من الدرجة الثالثة.. والمشعوذون والعرافون والمتسولون.. وحملة الأوهام الرخيصة.. والساسة الذين يبيعون الضمير في أسواق النخاسة علانية ولا خوف من رقيب.. السحرة في السرك والطبالون في المهرجانات والموتى في الأرصفة. نحن الشعراء لا أحد يدعمنا، لأن لا أحد يحبنا لماذا؟ لأننا بكل بساطة نحب الحمام والريحان والأغاني وشروق الشمس.. بينما المسؤولون يكرهون كل بياض، ويموتون عشقا في كل عتمة. نحن الشعراء، لا أحد معنا، ومقابل ذلك، نحن مع الجميع. ماذا عن المواكبة النقدية للإبداع المغربي؟ لا نملك نقادا، بل حقادا يقاربون نصوص أصدقائهم وصديقاتهم ومن يدفع أكثر، ثمة فساد مستشري في الساحة الثقافية ولا بد من تخليقها، وإلا فإن القيامة قائمة ولا نجد ساعتئذ أي شفتين تقرآن نصا ولا قلبا يخفق ببيت شعر. الآن، في الأقسام الإعدادية والثانوية لا أحد يعرف اسم شاعر أو روائي.. حتى معظم رجال التعليم لا يختلفون كثيرا عن متعلميهم، وهم في الوقت ذاته يستظهرون عن ظهر قلب أسماء لاعبي الكرة والمهرجين الكوميديين والراقصات والمغنين الفاشلين. النقد مريض، ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك، لأنه مؤشر حقيقي على فساد المشهد الثقافي وتفشي قيم البؤس داخله. رسالتك؟ * رسالتي؟ أنا أكثر حزنا من صالح الذي هجرته ثمود، ليست لي رسالة، ولا صحيفة، ولا قوم أتلو عليهم مزاميري الشعرية، هكذا صرت أفكر: أكتب وحسب، لا أطمح إلى تغيير منظومة القيم، لأن أمر تغييرها مستحيل ومن يدعي غير ذلك فهو كاذب. اكتشفت أخيرا أنني عابر سبيل حكم علي بالوجود في المكان والزمان غير المناسبين، لذلك أكتب وحسب، أكتب وأمضي، ولا أنتظر جزاء ولا شكورا. أنا عابر سبيل، ولا أحمل رسالة.