أصدرت مطبعة دار المناهل رواية موسومة بعنوان “حتى يسدل الستار” للشاعرة والروائية عتيقة بنزيدان والرواية من القطع الكبير ب 198 صفحة وبخمسة وثلاثين فصلا تتراوح بين القصر والطول. عنوان مستفز ويدعو إلى انتظارية ما، مستغرقة في الزمن المطلق ف”حتى” طرف يدل على عدة معان. وقد تأتي بمعنى الانتهاء للغاية الزمنية (سلام هي حتى مطلع الفجر) سورة القدر الآية: 5. ويأتي المضارع بعدها منصوبا (حتى يسدل) و”حتى” لغة أرهقت “سيبويه” بحثا، حتى فاضت روحه وبقي في نفسه شيء منها. “الستار” ما يستر به، أسدل الستار، أخفى ولم يظهر، أسدل الستار أي تم إخفاء القضية أو التستر عليها، والستار في الحقل المسرحي القطعة من الثوب يرفع لحظة عرض المسرحية. إن العنوان إثارة لقضية إنسانية في غاية الأهمية، ارتبطت بواقع المرأة لقرون خلت من الزمن، حيث كانت المرأة تسلم ولاسيما حديثات السن اللواتي تعرضن لمحن السرقة والاختطاف، كأبشع تجارة عرفتها البشرية. تخص الكاتبة الإهداء إلى شخصين عزيزين: أب روحي وأم. الأب تصفه ب”ملاك” غير مجرى حياتي فوجدت به ذاتي. أبي الروحي رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان. ثم إلى: من أسعدني محياها وأحياني (دفء) حضنها أمي ياسمينة الفؤاد. لم تتم الإشارة إلى مصدر الصورة الفتوغرافية التي يشكل منها الغلاف خطابه الرامز، وتجسد عمقا تداخليا متشابكا لأقواس غير متناهية في الامتداد، وامرأة تعبر بخطو لا ترى منها إلى أظهر متسربلة ب”حايك” تقليدي يسترها من قنة الرأس إلى أخمس القدمين، متوغلة في مسرب أرضية بيضاء وبتدرج متلاحق. تصدر المتن الروائي كإحدى العتبات، قصيدة تحمل نفس عنوان الرواية: “حتى يسدل الستار”، بمثابة ميثاق سردي مع المتلقي. المعمار في بناء الرواية ينزع بأن يكون دائريا، بين لحظتين زمنيتين فارقتين، ماضي بآلامه وجراحاته، ولحظة الحاضر المشرئبة نحو المستقبل. امرأة في سقف التسعين من العمر، تحكي حكيا استرجاعيا يحن لمهاوي الحلم والطفولة الأول، ومحتد قبيلة أمازيغية عريقة، المادة الأشد للرواية هي الذاكرة السيرذاتية أو الغيرية، تراكم تجارب وخبرات إنسانية، وبها تفيض به الذات من انفعالات وأحاسيس حب وكره وتوتر وحنين نوستالجي لمساقط الصبا على مد طويل، التذكر الواعي الموجه للبرنامج السردي الناهض على الواقع المحكي الشفاهي والمنقول والمتحول إلى مستوى منظم مكتوب، تضيف عليه الذات الكاتبة متخيلها وإشباعاتها الجمالية. ويمكن تحديد حلقة الرواية الدائرية في المفتتح: “ليلة واحدة كانت كافية، بل حلم واحد، شيء راودني في المنام عندما كنت في سن الخامسة، هذا الحلم خلق في أعماقي مذاقا مرا وفزعا عميقا وخوفا من الغد. أنا اليوم في التسعين من عمري، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا المذاق المر والجوع والخوف مازال يسكنني للآن، حتى أنهم أصبح جزءا مني في الرواية”. نقرأ: “هبة بيدها الصغيرة البيضاء تلامس خدي، قبل أن تضعها على قلبي. القدر كشف سحره، هبة غسلت قلبي من كل غضب ومن كل كره، بفضل ابنتي أنا أسامح، نعم أسامح الرجل الذي سرق طفولتي” ص: 198. كيف نتصور حياة صغيرة ذات الخمس سنوات، وقد استشهد الوالد وهو يقاوم ويدافع عن بلده ضد مستعمر دخيل غاشم. وعم فظ غليظ القلب، يضرب أمها، ويقتل أختها ويبسط يده على ممتلكات العائلة عنوة ويتصرف فيها كما يشاء؟ وكابوس يسمم حياتها ويجعلها جحيما لا يطاق. ومختطف جسور نصب عليها وعلى صديقتيها “ايتري” و”إيسلي” ويسوقهن جميعا للمجهول؟ والرجل الذي عدته أبا راعيا عز الدين عالم وفقيه القرويين، إذ هو ذئب مفترس – والإنسان ذئب للإنسان- يدفعه سعاره الجنسي لمحاولة اغتصابها مما خلف في نفسها جراحا لا تبلى. كيف نمت عقدتها تجاه الرجل وسلطة الذكورة وزرعت وبثت الخوف والهلع في نفسيتها الهشة، في صورة عم قاس ومختطف أجلف لا يعرف غير المال وسيد مغتصب طامع في فض أنوثتها. وكيف جاء ملاك الخلاص مولاي إدريس الذي لين قلبها وهز حبها وكيانها وصالحها مع الرجل وجعلها مقبلة بشغف على الحياة رغم المرارة والمعاناة؟ الذات الشاردة في الرواية، امرأة عرفت في حياتها أطوارا ثلاثة. طوريزة البنت الصغيرة الغرة، تفقد والدها وصدر أمها حنوا وبراءة طفولتها تعسفا، تشق الطريق الوعر بأقدام عارية، تحاول الانفلات، لكن هيهات: “كنت لا أملك سوى فكرة واحدة هي الجري، الجري ضد الريح، الجري ضد الزمن. الهروب من قدري، الهروب من الحتمية، عويل الذئب يخترق قلبي، جسدي، ورأسي، لكنني مع ذلك كنت أركض” ص: 27 ضعفها وهشاشتها تجعلها لا تقوى على شيء، ترسخ في وعيها ولا وعيها قهر الدونية، والسلط الذكورية المستبدة والتي تقبض على أنفاسها وذاتها المضطربة بيد من حديد. فأين موسم سيدي الشافي والتسرية بفرجة راقصات الأطلس الأمازيغيات الجميلات بحليهن البراقة وزينتهن الجذابة ولباسهن الخلب؟ أين ألعبان الثعبان، ومتعة ملاحقة التبوريدة والتنزه في رحاب حقول الطبيعة البهيجة مع صديقتيها الأثيرتين “ايتري” و”ايسلي”، إلى أن يندس في حياتهن البريئة ذلك النصاب، الذي نصب على الفتيات الساذجات وهو يعدهن بتسليمهن حملانا صغيرة، فيطول الطريق بهن حتى يتمكن منهن حيث لا عودة. العصابات المشكلة من قطاع الطرق والسراق الخاطفين، كانوا يتربصون بالنساء ولاسيما القاصرات، ليتم استغلالهن وتبضعهن في أسواق النخاسة، إبان مرحلة مظلمة في تاريخ مغرب الأمس. لما يزال المجتمع لم يبرأ من ترسباتها بعد، ترويها بألم ومرارة. طور جوهرة: تحتضن أسرة فاسية كبيرة في رياضها “يزة”، التي سوف تكنى “جوهرة” وفي هذا البيت ستعرف مسارا جديدا، فلالة فاطنة تعاملها بمنتهى اللطف وحنو الأمومة، بيد أن أمها لالة هاني، تسقيها كأس التبرم والجفاء، وتمكر بها بغاية أن يسممها ثعبان “النصرية” أو العلية. في حين تجد في “غيثة” صديقة حميمة رصيفة، تدرج في البيت العامر وقد أمست منه وإليه. ناشئة على عاداته وتقاليده التليدة، مجتمع قاس متشبث بأعراف وتقاليد وطقوس في ليالي رمضانية روحانية وبخاصة ليلة القدر المائزة بمكانتها العلوية وقدسيتها وفرحة البنات بصيامهن البكر وجلسة الحناء الجذابة مع مسعودة النقاشة، أو حضور مباهج الأعراس التي لا تنتهي إلا بعد مضي سبعة أيام، وأنس الذهاب إلى الحمام صحبة موكب العروسة، إلى أن يأتي حدث فارق يكسر هذا الإيقاع الناعم من حياة جوهرة، وتتلقى تلك الصفعة القاصمة التي تغير مجرى حياتها. ومولاي عز الدين العلامة الفهامة، سيد البيت العزيز المقام والأب الروحي، يراود جوهرة عن نفسها في يوم السكون وهي تقبل على أخذ سخرة لسيدها، فترتاع وتتحرج ويسقط في يدها، فتهرع إلى لالة فاطنة باكية وقد أغنت الدموع عن البوح والشكوى الجريحة. الكل يروم استباحة جسدها المثمر بأعراس الأنوثة من العطار الجائل إلى السيد الذي تقيم تحت سقف بيته: “.. كان جواب جدتها (أم هانئ) صفعة جديدة”. “وأمام هذا العنف المتزايد، تنفست بعمق وأغلقتُ عيني وتخيلتُ نفسي في مكان آخر، بطريقة تجعل عقلي يغادر جسدي، هذا الجسد الذي يرغبون في تعريته لأنهم دفعوا ثمنه. هذا الجسد لم يعد يهمني، لأنه لم يعد ملكي، يمكنني أن أنفصل عنه، لكنهم لن يتمكنوا من استعباد عقلي وروحي” ص: 51 وبتسريع زمني يصل إلى خمسة عشر سنة، تصل الصور “اسم نجمة” بعد “يزة” و”جوهرة”. “أنا مذنبة نعم، لأنني كبرت وأصبحت جميلة، هذه ثمرة الوقت والاهتمام الذي أعطته لي لالة” ص: 125 في رياض “لالة شريفة” تحتمل تربية جوهرة التي سوف يطلق عليها اسم “نجمة”، الرياض لا يتواجد فيه إلا النساء وبعض الحمالين المخصيين، فتولت أمر “نجمة” “دادا زهرة” ليت التحول العميق في حياة الساردة وهي تلتقي صدفة ب”ملاك” المتمثل في مولاي إدريس أخو لالة شريفة وقد بُهرت بوجوده الآسر: “.. كنت أمام ملاك بوجه رائع وهادئ، ملاك خرج من العدم، بقيت متسمرة دون أن أنطق بكلمة. قلبي مذعور، بينما اجتاحت حرارة دافئة كامل جسدي” ص: 145 تحول عميق في الأحاسيس والمشاعر ورجل يعبر ويغير حياتها رأسا على عقب، بكيمياء الحب والقرب وأسرار مفاتن القلب. “..من الواضح أنك نجمته التي أضاءت ليلته في مساء حزين، لهذا من الآن فصاعدا اسمك سيكون نجمة وليس جوهرة، ولكن نجمة كما يتمناها أخي مولاي إدريس” ص: 152 صالحها مولاي إدريس مع نفسها ومع الحياة، وفك عقدتها المستحكمة تجاه الرجال الذين مروا في حياتها وأساؤوا إليها بتصرفاتهم الرعناء. وسعدت به زوجا وحبيبا وخلا وفيا، ولم يعد حبها مضمرا بل صريحا وجهيرا، “.. بالأمس كنت أحبه في صمت، أما اليوم فأحبه صراحة بصوت عال، ليسمع الجميع، وغدا سأحبه كثيرا وأكثر وحتى بعد موتي” ص: 165 كان لا بد من أن تتخلص الساردة من أثقال الماضي بواسطة الحكي والرواية، حيث السرد يصبح مخلصا ومطهرا كشأن شهرزاد التي تحكي لتستمر حياة وتنقذ حيوات. “.. علمت أن أفضل طريقة، كي لا أنسى ماضي، هي الحديث عنه، لماذا لا أقص حياتي لمولاي إدريس كحكاية، كما كانت تفعل شهرزاد قبل؟ وهكذا أضرب عصفورين بحجر واحد، وأثبت لياليه وأتجنب الملل..”. اقترح مولاي إدريس سفرا ترفيهيا إلى تنجداد عند صديق طفولة، أعد له ولنجمة إقامة هناك بغاية تغيير الجو والابتعاد عن الرتابة، وهناك حدثت مفاجأة غير منتظرة، ونجمة تسمع صوتا يناديها باسمها الحقيقي الذي يرجعها إلى أصولها “يزة”، ويجدد صلتها بصديقتيها اللتين تعرضت معهما لمحن وأهوال الاختطاف : “ايتري” و”إيسلي”. ومن خلال هذا اللقاء تكتشف بعض أسرار الملاك مولاي إدريس الذي سعى إلى تخليص وتحرير الفتاتين من آثار العبودية، كما ساعد أم الصغيرة على إرجاع أملاكها وحقوقها، وسعي أم “يزة” الثكلى وهي تقتفي آثار ابنتها المفقودة، حتى أدركها الموت والأجل المحتوم، قبل أن تسعد بفرحة اللقاء مع ابنتها المختطفة، وتآمرت النساء المفجوعات في فلذات أكبادهن في الانتقام من الجاني الذي دبر عملية الخطف، فقررن حذفه بالحجارة، لكن الأم “يطو” فكرت في شر انتقام وبلاء بأن يوضع المجرم في جلد بقرة حديثة السلخ، ويوجه جسمه لعين الشمس الحارقة ويذوق عذاب الموت بالتقسيط. “..طلبت أمك أن يُربط الخاطف إلى الشجرة الكبيرة المطلة على الشاهد الوحيد على الماضي البعيد، وحتى تخرج جذورها المتجذرة عميقا أمهات متن بحسرتهن بأن العدالة طُبقت” ص: 185 سعى مولاي إدريس إلى تعليم وتأهيل نجمة علما ومعرفة، وانتخب لها ثلة من الأساتذة ووضع لها برنامجا تدريسيا يوميا، لكي تتسلح بالمعرفة والإدراك، فالعلم خير وسيلة لتحسين وإصلاح الأوضاع. فإن كانت الأقدار قد جادت على نجمة بالحب والرجل المحلوم به، لكن الطبيعة غاضت وحرمتها من نعمة الأمومة، التي تعطشت إليها كثيرا فتبنت: “هبة كانت تحتاج الحب، وكنت مستعدة أن أمنحها إياه. هبة كانت في حاجة للحنان وكنت أنا في حاجة إلى أن أعطيه” ص: 197 على سبيل الختم: الذات الساردة تهيمن على مجرى السرد، ويدخل صوت مولاي إدريس ليتناوب على السرد، وحبذا وفقا لديمقراطية الأصوات، لو كان هناك سُراد كثر وبخاصة “إيثري” و”إيسلي”، حتى تُختصب وجهات النظر وتثري وتغتني من زوايا وحيوات متعددة. المتن الروائي: “حتى يسدل الستار” يحفل بالبعد الوثائقي والإنثروبولوجيا وعلى وجه التخصيص مدينة فاس الزاخرة بالموروث والطقوس الاجتماعية والحضارية والخرافية، في سلة واحدة وعلى غاية قصوى من الأهمية. رواية “حتى يسدل الستار” رواية أطروحة تدافع عن وضع بيع نخاسي منبوذ، وتنافح بغاية أن تسترد المرأة حريتها غير منقوصة من العقليات الذكورية السائدة، والرواية “الأطروحة” على حد تعبير سوزان سلمان لها خاصيتان هما: الوضوح الإشهاري، والسلطة التي تمارسها على المتلقي، وتماشيا مع ذلك جاءت الرواية مدافعة عن حرية المرأة ومناصرة لقضاياها العادلة، والانتصار على كل وحوش الماضي الرهيب. الراوي “مع” لا يكون عادة عالما بكل شيء، لكن الذات الساردة – هنا- في النص تشوش أفق انتظار المتلقي، على سبيل المثال نقرأ في الصفحة 48: “.. أدركت بأن بيني وبين هذه السيدة العظيمة سيكون هناك خليط من المشاعر. لكن أية مشاعر؟ الزمن سيخبرنا”. يعد الحكي والسرد ضربا من المقاومة وإعلان وجود، حتى ينزل الستار على مثل هذه الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية، والتي لما تزال قابعة في الذاكرة أو تتسلل إلى حاضرنا بأشكال مختلفة وملتوية والهدف واحد، المتاجرة في “الكرامة الإنسانية”. يعد السرد والكتابة ضربا من المقاومة حتى ينزل الستار – حقا- على مثل هذه القضايا الشائكة التي تنوء بها ذاكرة عانت -إلى جانب أخريات- من جائحة الاختطاف. والرواية – على حد تعبير ميلان كونديرا- تمنحنا فرصة للهروب الخيالي وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضا. لا غرو أن المكتبة العربية عامة والمغربية خاصة ستحتفي وتغتني بهذا المنجز الهام الذي خطته المبدعة عتيقة بنزيدان بدراية واقتدار. ولعل بسمة “هبة” الصغيرة المتبناة، تعانق الآفاق الرحبة للحياة بأمل حالم بالمستقبل. والمرء محكوم بصناعة الأمل حتى تتجدد الحياة.