كشفت انتفاضات الشعوب العربية وثوراتها وتحركاتها في تونس ومصر والعراق واليمن والبحرين وليبيا والأردن وغيرها من البلدان العربية رياء حكومات الغرب ونفاقها وادعاءاتها حول حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والعدالة وحكم القانون، وفضحت خطابها السياسي ودجلها الأخلاقي. وأضافت بالملموس والوقائع لما كان معروفا عنها وصريحا وصارخا منها. ورغم كل الوضوح في هذا الأمر مازال بعض الحكام العرب والتابعين لهم من الموظفين في مؤسساتهم الإعلامية خصوصا في بلدان الغرب أو في العالم العربي يتبنون تزيين خطاب الغرب الانتهازي والنفاق في مشاريع الهجوم على العرب والمسلمين والتغاضي عن مواقف تلك الحكومات أمام الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والسجون السرية والعلنية والقمع والاضطهاد الذي مارسته وتمارسه الأنظمة المرتبطة بها خارج حدوها الغربية. وبعض السياسيين وكتبة الإعلام الناطق بالعربية يدعون حكومات الغرب مستغلين ما حصل ومارسته تلك الحكومات وحليفاتها العربية إلى ترويج الاستعمار الجديد و»التدخل الإنساني». وهو أمر يشكل خطرا حقيقيا على الشعوب العربية ويعيد الاستعمار من الشباك بعد طرده من الباب بتضحيات جسام. ومثلما يرغب الغرب عموما إلى استعادة هذه الأحلام بأشكال جديدة ومسميات مختلفة ونشاطات تفصح عن نفسها وتقابلها وقائع فعلية، وكانت من بينها قرارات الفيتو الأمريكية في مجلس الأمن الدولي وتصريحات أمين عام منظمة الأممالمتحدة. كما ان ما ساعد الشعوب على الانتفاض والاحتجاج والثورة هو نفسه الذي يعري الحكومات وسياساتها وخطابها، واقصد وسائل الإعلام الحديثة، من الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، الفيديو والفيسبوك والتويتر، عبر شبكة الانترنت والاتصالات الأخرى، وفرضت التطورات السريعة على اغلب الوسائل الاتصالية التي لم يعرف عنها يوما أنها مع تلك التطورات أو التحركات الشعبية، الانتقال اللوني والشكلي للتسابق في الانضمام إلى الشارع العربي وكسبه، وهي لا تختلف في حقيقتها عن تلك السياسات الغربية وخططها. فواكبت برغبة منها أو بانحناء أمام الموجات المتصاعدة، تصريحات المسؤولين الغربيين وتعليقاتهم على ما جرى في تلك البلدان العربية وتلون المواقف والآراء حولها مثبتة أقوال المسؤولين الغربيين، لاسيما الأمريكان، من الرئيس باراك اوباما إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون والناطقين باسمهما، وكاشفة من خلال كل ذلك، مدى الخداع في ادعاءات اهتمام وحرص الغرب عموما بكل الشعارات التي يعلنها إزاء حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية والعدالة وحكم القانون. وهي الصيغ التي رفعتها الإدارة الأمريكية في فترات سابقة كمشاريع للتغيير الديمقراطي في هذه البلدان، لاسيما بعد تحطم جدار برلين وانهيار دول المعسكر الاشتراكي وتفتت الاتحاد السوفيتي، ولكن الحقيقة والوقائع تشير إلى دعم الغرب عموما للحكومات الدكتاتورية والتنسيق معها في السجون والتعذيب للمعتقلين الذين كانوا بعهدتها الرسمية، في سجون غوانتانامو وغيرها، وحمايتها من المطالب الإصلاحية والتحديثية طالما ارتضت الصمت على الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني وأسهمت في دعم حروبه على الشعوب العربية في لبنان وفلسطين المحتلة وغيرها من البلدان، وكذلك غزوات الغرب على العالمين العربي والإسلامي، واحتلال العراق وأفغانستان والحروب المستمرة على باكستان وإيران وغيرها. وحتى اعترافات بعض المسؤولين الغربيين بخطأ سياساتهم تأتي لترويج سياسات أخرى لا تقل خطورة عن سوابقها في الاستهانة بالإنسان العربي والمسلم أساسا. والتناقض في الخطاب الرسمي الغربي لا يعني ان سياسات الغرب قد تغيرت بعيدا عن المصالح التي هي دائما الأساس فيها، فلا صداقة بين الحكومات الغربية والشعوب العربية أو حتى الحكومات العربية، حيث تظل المصالح الغربية هي هي، النفط والقواعد الإستراتيجية العسكرية والاستيطانية في المنطقة. بينما لا تفرض المصالح العربية مقابلها، أو حتى التعامل معها بما يحقق للطرفين التبادل والتعاون المشترك. خطابات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في بعض العواصم العربية أثناء جولته الأخيرة فيها لترويج صناعات الأسلحة البريطانية واعترافه بخطأ سياسات الغرب في دعم الطغاة مثال صارخ على العلاقات بين الدول العربية ومستعمريها من الامبرياليات الغربية التي تصرف الغرب فيها بحريته ضد الشعوب ومستقبلها.. مشيرا إلى إن الانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط تظهر أن الغرب كان على خطأ حين دعم أنظمة ديكتاتورية وغير ديمقراطية. ومنتقدا نظرة الغرب التقليدية للشعوب العربية وشارحا طبيعة السياسة الخارجية وتقديمها المصالح الاقتصادية الذاتية على الترويج للقيم الديمقراطية الغربية. ومؤيدا الإصلاح في العالم العربي مع احتفاظه بالأهداف والمصالح الغربية منه. رد الكاتب سيمون جنكينز في صحيفة الغارديان (2011/2/22) على هذه التصريحات بمقال تحت عنوان «إما أن تدفع بريطانيا من أجل الديمقراطية أو الأسلحة، لكن ليس الاثنين سوية»، مذكرا إن جولة تسويق الأسلحة التي قام بها ديفيد كاميرون قد ورطته في نفاق تقليدي حول انتهاج سياسة التدخل لنشر الليبرالية، «فلندع العرب يرتبون أمور بيتهم بأنفسهم». ووضح رأيه «إن الحكومة البريطانية - كسابقتها - تزعم أنها تتبع سياسة «التدخل لنشر الليبرالية» في مسعى لإسقاط الأنظمة غير الديمقراطية حول العالم وخاصة في العالم الإسلامي. هذه الحكومة كسابقتها أيضا - تزود الأنظمة غير الديمقراطية بكميات هائلة من الأسلحة لإحباط السبل الوحيدة المتاحة لإسقاط هذه النظم، وهي الهبات الشعبية. وأشار الكاتب إلى مشاركة 50 شركة بريطانية لتصنيع السلاح في المعرض الليبي للأسلحة العام الماضي، وتساءل عن المشاركة البريطانية في معارض الأسلحة في دول الخليج والأرباح السنوية التي تحصل عليها من بيع الأسلحة. وكيف أن تلك الأسلحة تظهر بوضوح في قتل المتظاهرين، مع إصرار بريطانيا على النص في عقود بيع الأسلحة على عدم استخدامها فيما ينتهك حقوق الإنسان، «فماذا كانت وزارة الخارجية تعتقد أن القذافي سيفعل ببنادق القنص والقنابل المسيلة للدموع؟» ثم استطرد في الطريقة التي يتعامل بها الغرب مع الثورات التي تهب في العالم العربي، في نصه أن تعبيرات مثل «ما نريد أن نراه» أو «ما لا يجوز ان يفعلوه» تتردد على لسان كل رجل دولة في واشنطن ولندن. ونبّه إلى أن اليقين الوحيد حول الأحداث التي تجتاح العالم العربي هي أنها بقيادة عرب وعرب فقط، وأنه لا أحد يعرف كيف ستنتهي «لكن الأمر الوحيد الواعد فيما يسمى ربيع العرب هو أنها قامت بقيادة ذاتية ومهما كانت فرص نجاحها فستكون أقوى لأنها صنعت في الداخل». المهم هنا ان كل محاولات الحكومات الغربية في نشر شعارات ومساحيق تجميل لسياساتها الآن لا تنفع في إخفاء الازدواجية المخاتلة، والرياء الغربي، كما الحال في أي شأن له علاقة بالإنسان العربي وحريته وحقه في حياة كريمة. ولابد من المكاشفة والاقتناع من جديد بالقوة الشعبية والمصالح العربية، وطريق الانتصار هو التماسك والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية.