بعد دورته السادسة عشر التي شابها نوع من الشحوب, يأبى مهرجان فاس للموسيقى الروحية إلا أن يرفع سقف الرهان عاليا, موليا وجهته شطر المدارج السامية للممارسة الثقافية, ليس فقط كاستهلاك بل كتجديد وإبداع. فنانون من المشرق والمغرب, أسماء لامعة وأخرى مغمورة, ينضمون إلى مغامرة شبه سحرية, من باب مساءلة القوى والأسرار الداخلية للتراث الموسيقي «المقدس» في أفق استخلاص المعاني الحقيقية لصيغه الأصلية. فبالرغم من بعض معالم الفتور التي بدت خلال دورات سابقة, والتي استدعت بعض التغييرات البسيطة على مستوى 'مؤسسة روح فاس' (الهيئة المنظمة للتظاهرة), يبدو أن الدورة المقبلة ستكرس موعدا لتقويم المسار بالنسبة لهذا المشروع الروحي, متوسلة بأنوار الحكمة الكامنة عبر العالم. المقدس, بين الحب والحكمة منذ إعطاء الانطلاقة, ستستظل الأنشطة الفنية والثقافية المبرمجة ضمن الدورة 17 بشجرة الحكمة من خلال حوار خلاق خلال الحفل الافتتاحي بين الإرث التقليدي وإبداعات العالم المعاصر. وهكذا ينتظر أن يقود أرمان عمار (مؤلف موسيقى فيلم «هاوم») فرقة من أربعين عازفا من الشرق والغرب في أمسية أوبرالية تحمل عنوان «المجنون وليلى». إنه لاختيار حصيف أن يتم رفع الستار بإبداع فني يعبر عن الحب الذي يعانق الأسطورة وهو ينطبع بالجنون, على حد قول المؤلف الموسيقي الفرنسي ألان ويبير الذي تسلم زمام الإدارة الفنية للمهرجان. هو حب عرفه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران الذي لن يخلف , كالعادة , موعده مع المهرجان, بأنه «تتويج للاتحاد بين الجنون والحكمة». مع توالي فعاليات المهرجان, تفتح الحكمة, هذه الفضيلة الكونية النادرة في عالم اليوم, أبوابها تباعا في وجه فنانين متعددي المشارب وفي مسعى لتشكيل وجه أصيل للمقدس. سيحل يوسو ندور بين ظهراني أهل فاس وزوارها في تكريم, على طريقته, للشيخ سيدي أحمد التيجاني, وسيعلو صوت ماريا بيتانيا, القادم من أعماق البرازيل, مناجاة للسيدة العذراء, وسيلاقي عبد المالك جمهورا أليفا لديه, بقطع مستلهمة من مآثر الفكر الصوفي. هكذا تتواصل المغامرة الساحرة لمهرجان بات «علامة مسجلة توطد وجودها وإشعاعها عبر مختلف أنحاء العالم» حسب المدير القديم-الجديد لمؤسسة روح فاس, فوزي الصقلي. ستكون الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة, مدارسها, فنادقها قصورها ونافوراتها, نهارا وليلا, شاهدة على نماذج موسيقية منبعثة من ماضي الحبشة وأفغانستان وإيطاليا والباراغواي والأندلس. أجواء المهرجان تغرف من معين الحكمة المضمرة في الثقافات الروحية الكبرى, لتمنح رواده لحظات منفلتة من الطمأنينة والسلام الداخلي, في تفاعل مع المالويا من جزيرة لارينيون وقوالي الهند وباكستان وأناشيد هجير ماراوي الأندونيسية. أما العربية, فستحضر متوجة بإكليل الحكمة التي شبت في أحضان دررها, ممثلة بالعراقي كاظم الساهر والمغربية أسماء المنور, اللذين يعدان الجمهور برحلة عابرة لتراث الشرق. وفي أمسيات أخرى, ستطرب أسوار المواقع التاريخية لباب المكينة ودار التازي ودار المقري لأصوات اللبنانية جوليا بطرس والمصري الشيخ طه. روح للعولمة: جدل الحكماء مهرجان الموسيقى الروحية ليس فقط غناء وموسيقى. إنه أيضا ذلك العكاظ الروحي, الفضاء المفتوح لتأمل عالم في أوج التحول, نحو إبداع واقتراح استراتيجيات مستلهمة من روح الثقافات. فتحت تلك الشجرة المعمرة التي تظلل باحة متحف البطحاء منذ عشرات السنين, يلتئم مفكرون من العالم أجمع للتفكير وتبادل وجهات النظر بخصوص قضايا الإسلام والغرب, وسياسات للحضارة, والآفاق الجديدة للمغرب العربي ومستقبل الشرق الأوسط. راجموهان غاندي, كاترين مارشال, سالاماتو ساو, ويم ويندرز, ليلى شهيد, جاك أطالي, ميشال تاو شان, جون كلود كاريير, أمل عرفاوي, سيتسوكو كلوسووسكا دي رولا، جوزيف مايلا وآخرون حجزوا تذكرة السفر إلى فاس لتقديم إسهامهم في مقاربة العولمة مستعينين بالموارد التي لا تنضب لنهر الحكمة المتدفق.