يثار جدل سنوي حول أسباب آفة الغش في الامتحانات وطرق علاجها كلما اقترب إسدال الستار على السنة الدراسية وحلول فترة الامتحانات الإشهادية، رغم أن هذه الآفة متواجدة داخل الفضاء المدرسي طوال السنة ويعرفها الأساتذة أكثر من غيرهم بشكل مباشر أو غير مباشر، بحكم احتكاكهم بالتلاميذ أثناء اختبارات المراقبة المستمرة. ولاشك أن الغش له صور متعددة وأشكالا متنوعة، والغش يعتبر حلقة متلازمة مكونة من ثلاث عادات سيئة وهى الكذب والسرقة وخيانة الأمانة، والغش يعد أيضا خيانة للنفس وخيانة للآخرين بدء بعملية الامتحانات انتهاء بمناحي الحياة الأخرى، إذ أصبحنا نرى ونسمع عن الغش في جميع الميادين، فهناك غش بين الإدارة والمرتفقين وغياب الحكامة، وغش من الأب لزوجته وأبنائه، وهناك أيضا غش في المجال السياسي والمعاملات التجارية والصناعية اليومية بين أفراد المجتمع …إلخ. فالغش بنية تراكمية، حيث أن المسؤول الذي يختلس المال العام ويمارس كل أشكال الفساد المالي اليوم من موقع الوظيفة العمومية أو السياسية، ربما كان في الماضي القريب مشروع لغشاش في المستقبل وتحقق ذلك بعدما أن توافرت له آليات الغش. إن مشكلة الغش في الامتحانات تعد من أسوء المشاكل التي تواجهها المنظومة التربوية، وذات تأثير سلبي على حياة التلميذ ومساره الدراسي والمجتمع الذي يعيش فيه، حيث إن تفشي حالات الغش بمختلف المستويات من الإعدادي إلى الجامعي، لها أسباب عديدة منها تعليمية وأسرية ومنهجية وتربوية، والمسؤولية عنها مشتركة بين جهات متعددة من الوزارة الوصية على القطاع، والأسرة والإدارة التربوية وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ، ليبقى التلميذ الغشاش ما هو إلا صناعة يدوية لجل هؤلاء بدرجات متفاوتة. ولعل طبيعة المقررات الدراسية ومركزية إعدادها تجعل كل من المدرس والتلميذ عنصران سلبيان، وإن كانا هما المعنيان بهذه المقررات، والتي لا تسعف في التعبير عن أرائهم وتحيين ثقافتهم المعرفية، وإنما تعتمد على معارف موجزة لا تتيح للأستاذ حسب الإطار الزمني أن يتوسع في عملية إشراك التلاميذ في إيجاد الحلول الملائمة وفق عملية الفهم والاستعاب وإعادة التطبيق. كما أن عملية التدريس التي يسهر عليها بعض رجال التعليم تعتمد على التفريغ المعرفي لما هو في الذاكرة من حفظ، دون اعتماد منهجية الكفايات التي تساعد التلميذ على إعادة فهم وتركيب المعلومة، ليجد هذا التلميذ نفسه يوم الامتحان أمام وضعية صعبة لا تؤهله لفهم السؤال وإيجاد الحلول الممكنة، إذ يطلب منه حل مشكلة لم يسبق له أن تدرب على كيفية التعامل معها. وتشكل الطريقة الانتقائية بين التلاميذ من طرف بعض المدرسين داخل القسم سبب يدفع إلى الغش ويقتل روح المبادرة عند التلميذ، ويعيق التجانس فيما بينهم، ويجعل المتعثرين منهم دراسيا (لأسباب عدة) أثناء بداية الموسم الدراسي محطة أنظار للسخرية، هذا السلوك يجعل بعض التلاميذ يحسون بالنقص والدونية أمام زملائهم، فيفقدهم الاهتمام بالدراسة لأنها في نظرهم واقعا يهمشهم ويعطي الأولوية للمتفوقين، ومحاباة لفئة قليلة داخل الفصل والتحيز لها، وإهمال فئة أخرى يقرر المدرس مكانتها داخل الفصل الدراسي. بالإضافة إلى مسألة منح النقط المجانية من بعض المدرسين في اختبارات المراقبة المستمرة لبعض التلاميذ لسبب أو لأخر (كشراء صمت التلميذ المشاغب)، يساهم في الكسل ويزرع الفشل في التلميذ لعدم اعتماده على نفسه، ولا يؤهله للاختبار السنوي. ومن هنا جاءت مقولة “” خطأ الطبيب يدفن تحت الأرض أما خطأ المعلم يمشي على الأرض””. ناهيك التشجيع الأسري على الغش والخداع، حيث تصبح بعض الأسر همها الوحيد هو تخطي أبناؤها للمرحلة بأية وسيلة ومهما كلفها الأمر، دون التفكير في المرحلة الموالية والتي ستضع التلميذ في مأزق كبير، لا يستطيع الاستمرار في الدراسة. ومن هذه الأسباب وغيرها، يبدأ الإهمال الدراسي طوال السنة حتى يصبح التلميذ يفكر في إنقاذ سفينته من الغرق بأية وسيلة، معتمدا على فكرة من (( “نقل انتقل” و “من اعتمد على نفسه بقي في قسمه”))، حيث كشفت استطلاعات الرأي في السنوات الماضية حول الغش أن نسبة 80 % من التلاميذ لهم رغبة في الغش من أجل الحصول على معدلات، مما يعني الغاية تبرر الوسيلة لديهم؛ فلاشك أن هذه النسبة المرتفعة يفسرها الاحتكاك الطويل خلال السنة بين التلاميذ الغشاشين والتلاميذ المجدين، إذ أن الفئة الأخيرة تتأثر أحيانا بالنتائج التي يحصل عليها التلميذ الغشاش دون أدنى مجهود، وبالتالي مع غياب المواكبة الأسرية والتحسيسية تصبح هذه الفئة تفكر بدورها في الغش (الرفقة السيئة). إن تنامي هذه الآفة السلبية والخطيرة بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة، جعل منها بعض التلاميذ قاعدة مدرسية وصلت بهم الجرأة السلبية إلى ممارسة العنف ضد المدرسين، ورغبتهم في فرض هذا السلوك الانحرافي بكل الوسائل، بما في ذلك استعمال التهديد ضد المسؤولين والمراقبين كما لاحظنا السنة الماضية، إلى درجة أن أصبح بعضهم يتخوف من المراقبة وحراسة الامتحانات؛ حيث لم يسبق لمنظومة التربية والتكوين أن عرفت مثل هذه السلوكات، هذا بالإضافة إلى احتجاج المتبارين على صرامة المراقبين أثناء مزاولة المهمة المنوطة بهم، والمطالبة “بالحق في الغش”. ومن أجل محاولة احتواء هذه الآفة الخطيرة على صحة الجسم التربوي والاجتماعي، وما أصبحت تطرحه من نقاش حول قيمة الشواهد العلمية، حاول المشرع المغربي اعتماد مقاربة زجرية من خلال قانون رقم 02.13 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية، الذي جرم من خلاله مجموعة من الأفعال ذات علاقة بعملية الغش سواء داخل مكان الامتحان أو خارجه، كما وضع مسؤولية تأديبية للتلميذ والموظف المكلف بحراسته، وكذا المسؤول عن تسريب الامتحانات، بالإضافة إلى مسؤوليتهم الجنائية. حيث حددت المادة الأولى من القانون أعلاه الأفعال التي تعد بمثابة حالات الغش في: تبادل المعلومات كتابيا أو شفويا بين المترشحات المترشحين داخل فضاء الامتحان؛ حيازة أو استعمال المترشحة أو المترشح لآلات أو وسائل إلكترونية كيفما كان شكلها أو نوعها أو وثائق أو مخطوطات غير مرخص بها داخل فضاء الامتحان؛ حالات الغش المستندة على قرائن والتي يتم رصدها من طرف المصححين أثناء عملية تقييم انجازات المترشحات والمترشحين؛ الإدلاء بوثائق مزورة واستعمالها قصد المشاركة في الامتحانات؛ انتحال صفة مترشحة أو مترشح لاجتياز الامتحان؛ تسريب مواضيع الامتحان من طرف كل مسؤول أو متدخل أو مشارك في تحرير أو نقل أو حماية أوراق ومواضيع الامتحانات المدرسية؛ المساهمة من طرف غير المترشحات والمترشحين في الإجابة عن أسئلة الامتحان سواء من داخل مركز الامتحان أو من خارجه وتسهيل تداولها؛ الاتجار في مواضيع الامتحان والأجوبة من خلال استعمال وسائل تقليدية أو تسهيل تداولها بصفة فردية أو في إطار شبكات؛ ومن بين الملاحظات الأولية على هذا القانون، أنه استثنى الامتحانات الجامعية والمهنية، ويخص فقط الامتحانات المدرسية، كما أن المشرع أحاط بجميع الأفعال ذات علاقة بعملية الغش، حيث لم يميز المشرع في العقوبات بين جميع الأشخاص المرتكبين للغش أو المشاركين فيه إذ عاقبت المادة 8 من نفس القانون، كل من يرتكب فعلا من الأفعال الغش السالفة الذكر بالحبس من 6 أشهر إلى 5 سنوات وبغرامة تتراوح بين 5000 و 100000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين حينما يتعلق الغش بالبنود من 4 إلى 8 من المادة الأولى أعلاه. بالإضافة إلى المقاربة الزجرية التي قد تطال المساعدين والمشاركين في عملية الغش إلى جانب التلميذ الغشاش، فإن هذا الأخير تطاله مسؤولية تأديبية أيضا، حيث حددتها المادة 6 أن اللجنة التأديبية تتخذ في كل الحالات قرار منح نقطة الصفر (0) في اختبار المادة التي تم فيها ممارسة الغش وإلغاء نقط جميع مواد الدورة المعنية، كما يمكنها حسب نفس المادة الإقصاء النهائي من اجتياز الامتحان خلال السنة الجارية، أو الإقصاء من اجتياز الامتحان بالنسبة للسنة الدراسية الموالية. كما تطبق في حق كل مسؤول أو متداخل أو مشارك في تحرير أو نقل أو حماية أوراق ومواضيع الامتحانات المدرسية في حالة ثبوت تسريبها أو محاولة تسريبها، التوقيف الاحترازي عن العمل فورا بقرار للسلطة الحكومية المختصة، ويحرر المسؤول الوطني أو الجهوي أو الإقليمي أو المحلي محضرا في الموضوع يحال فورا على النيابة العامة. لقد أحسن المشرع صنعا حينما نص على مسؤولية تأديبية وجنائية للأشخاص المساعدين على عملية الغش، لكن بالنسبة للتلميذ الغشاش يبقى السؤال المطروح: إذا كان القضاء يأخذ بظروف التخفيف الخاصة بالقاصر في أخطر الجرائم التي يرتكبها، ويحكم عليه بتدابير بسيطة فكيف سيحكم بعقوبة سالبة للحرية على تلميذ غش في الامتحان مع العلم أن هناك انعدام خطورة الفعل الإجرامي والمسؤولية الجنائية الناقصة ؟. مما لاشك فيه أن المقاربة العقابية التي اعتمدها المشرع في التصدي لهذه الآفة وإن كانت مهمة جدا بالنسبة لمن يشجع ويساعد على الغش، فإنها بالنسبة للتلميذ لا تتلاءم مع عدالة الأحداث من جهة أولى، لكون الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية وضع شروط محددة ودقيقة للحكم على القاصر بالعقوبة السالبة للحرية، كما جعلها في نطاق ضيق جدا، ولا يمكن للقاضي اللجوء إلى العقوبة إلا في حالة استحالة إيجاد تخرجة قانونية للقاصر الذي ارتكب الجريمة، ما بالك جريمة الغش في الامتحان التي أصبح للأسف العديد من الآباء هم من يتحملون المسؤولية عن سوء التنشئة الاجتماعية التي يكون التلميذ ضحية لها. ومن جهة ثانية فإن المقاربة العقابية في مجال الغش بالنسبة للتلميذ لا يمكنها أن تحقق الهدف من العقوبة ألا وهو الردع، في ظل غياب استهجان المحيط الاجتماعي لهذا السلوك، خصوصا وأن التلاميذ لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج والوعي بخطورة أفعالهم، كما أن الحبس قد يشكل تهديدا خطيرا لمستقبلهم الدراسي، وكذا انعدام برامج التأهيل والإدماج والاكتظاظ الذي تعرفه مراكز الإصلاح والتهذيب ومؤسسات حماية الطفولة، لذا تبقى أساليب الوقاية التي كان على المشرع أن يضعها طيلة السنة الدراسية أثناء عملية التقييم المستمر أنجع من وسائل العلاج الآنية. والاكتفاء بالعقوبات التربوية من قبيل النقط السلبية، والإقصاء من الامتحان، والتوقيف المؤقت، مع التنصيص على مقاربة تربوية وقائية بديلة، حتى يتعود التلميذ على الانضباط والإحساس بالجدية. لهذا يمكن القول إن المشرع باعتماده مقاربة زجرية ضد غش التلميذ دون الإشارة إلى التدابير الوقائية التربوية والتحسيسية الممكن اعتمادها داخل الفضاء المدرسي خلال الموسم الدراسي والتي يجب أن تنخرط فيها الإدارة التربوية والمحيط الأسري وجمعيات الآباء وأولياء التلاميذ، الذين هم أدرى بمصدر الداء، يكون بذلك (المشرع المغربي) قد وضع نصوص قانونية تلبي رغبة الرفوف في ملء فراغ الخزانة التشريعية في هذا الجانب. لأن المقاربة الزجرية غير كافية ما لم تصاحبها مقاربة تربوية وقائية لمحاربة الغش؛ كالاهتمام أكثر بالتربية على القيم والأخلاق والسلوكيات الفاضلة، والعمل على تجاوز المقاربات البيداغوجية التقليدية التي تعتمد على الكم والحفظ والذاكرة والشحن، سواء في البرامج والمناهج، أو في طرق التعليم والتقويم والامتحانات. لا يمكن إنكار النتائج التي حققتها وزارة التربية الوطنية في هذا المجال عبر سنها، مجموعة من الإجراءات لمحاربة ومنع ظاهرة الغش في الامتحانات، والتي كان من أهمها منع المترشحين من اصطحاب هواتفهم النقالة وكافة الوسائل التكنولوجية التي من شأنها المساعدة في عمليات الغش وإمضاء التزام…، إلى جانب إجراءات أخرى ذات صبغة تأديبية، لكن هذا غير كافي للاستئصال الآفة من جذورها، حيث لابد من اعتماد برنامج على امتداد السنة حتى يحسس التلميذ بخطورة الآفة على مستقبله، والوقوف على جوانب الضعف والقوة في مسارهم الدراسي. مع تحسيسهم وتوعيتهم بأن النجاح عن طريق الغش لا يبين المستوى الحقيقي للتلميذ، بل تتوقف مسيرته في محطة تعليمية تالية، من خلال عرض بعض التجارِب الفاشلة التي لم تستطيع مسايرة أقرانها المجدين في مراحل جامعية. وفي الأخير يمكن القول إن الغش في الامتحانات هو جزء من ثقافة الفساد السائدة في المجتمع، لذا لا إصلاح حقيقي دون محاربة الفساد بكل أشكاله، والاعتناء الجدي بالظروف الاجتماعية والمهنية للأطر التربوية، وتوفير الشروط الصحية والضرورية للمدرسة العمومية. فلاشك أن أطر الأكاديميات اليوم غير راضين نفسيا عن وضعيتهم المهنية كمدرسين بالتعاقد، فكيف يمكنهم إعطاء إضافة تربوية للتلاميذ في ظل إحساسهم هذا ؟ بل إن هذه الوضعية ستؤثر سلبا على التحصيل الدراسي لدى التلميذ مستقبلا.