هذه حلقات وسمتها ب “النظرية الأخلاقية في الإسلام”، جوابا عن سؤال: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟. أضعها بين يدي القارئ الكريم سلسلة منجمة في هذا الشهر الفضيل، لعلها تسهم ولو بقدر يسير في إعادة إحياء السؤال، في زمن أصبح فيه سؤال الأخلاق ملحا أكثر من أي وقت مضى. فالناظر العارف المطلع يفهم أن باب السؤال، سؤال الأخلاق هو من الأسئلة المتسعة والتي تم تصنيفها منذ الفلسفة الأولى كباب من الأبواب الكبرى التي تهم الفلسفة. وعليه فباب الأخلاق وسؤال الحسن والقبيح والخير والشر وغيرهما من الثنائيات لم يخل مجتمع من المجتمعات المعرفية من الاهتمام بها والكتابة عنها وفيها. وربما كان هذا هو السبب في جعلي في هذه الحلقات لا أولي اهتماما كبيرا للجانب النظري والمناقشات النظرية، التي هي على كل حال مدونة مشهورة يعلمها العالمون. فقد ركزت بالأساس على ما يظهر من أخلاق المسلمين وبما يضمر اعتمادا في تفسير ذلك على خطاب الدين والمعرفة العامة. تحرير الإرادة من غرائب الصدف هو أنه إبان الانتفاضة العربية، كان الشعار الأكثر حضورا هو: “الشعب يريد”. وانتقلت هذه العبارة إلى التعبير عن رغبات جماعية متعددة، في مناسبات ومطالب ليست بالضرورة سياسية. وحتى أنه يظهر أن الشخص الذي أطلقها في البداية ربما لم يكن واعيا بحمولة ما ذكرنا من قبل، ولكنها مناسبة جميلة تختصر الحكاية كلها صدفة أو قصدا، فالشعب يريد هي تركيب كاف، يعبر عن تضاد وصراع بين إرادة الاستبداد والفساد وإرادة الجماهير. لقد تحدثت من قبل عن مفهوم الإرادة على الأقل بما يسمح به الحيز كمدخل أساس، وكان مما قلت إن الإرادة لا تكون بالضرورة دالة على الفعل المحمود، فالآيات كثيرة دالة على إرادة الإفساد، مثلا قوله تعالى: “والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما”. كما أن الإرادة في الإصلاح لا تكون حاملة لحتمية الصلاح، ولكنها حاملة لصدق النوايا، بينما يبقى تصور الإصلاح مستقبلا رهينا بالواقع والممكن، فالنوايا الحسنة وحدها لا تكفي، وكم هي المشاريع التي قد ترفع شعار الإصلاح صدقا ولكن يعوزها التوفيق، ولهذا قال النبي:” إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله”. لكن النوايا الحسنة إذا احتكمت لمنطق التطور و سايرت وصادقت الإرادة العامة لابد أن تسير الأمور مستقبلا نحو الأفضل، فالأسوأ هو ما تعيشه المجتمعات العربية، حين يحس الفرد أن الكيان يسير على عكس إرادته، بل ومقاومة كل مشاريع الإصلاح. إن الدولة والكيان عقل كما تقدم، وهذا يعني أنه يجب أن يخضع لنفس المنطق من التطور والتخلص الذي من المفروض أن يخضع له العقل المفرد، فالدولة يجب أن تتخلص من كل ما من شأنه أن يجعلها غير منطقية، ولا واقعية بالخضوع للنزوات، والأهواء، والخرافات؛ وسبيلها الأوسع إلى ذلك هو النزوع نحو القانون، والامتثال ما أمكن لروح القانون، أي ما معناه التخلي عن نزوات الأفراد والفئات والمزاجات والأهواء بما أسميناه من قبل فسادا. وهذه هي وظيفة المصلح التي تتحدد أساسا في مراقبة الكيان والمجتمع وإزعاجه باستمرار؛ حتى نتجنب وضعية الخمول والخضوع والتنويم، الذي يفرضه منطق السلطة في تحالفها مع المال، ويسوغونه بمفاهيم وتصورات، تجعل الفرد داخل الكيان خاضعا بإرادته. إن الكيان عندما تكثر فيه الإرادات نكون بالضرورة أمام حالة من الفوضى وغياب النظام، لأن تعدد الإرادات هو تعدد للأهواء وتعدد لمناطق السلطة والمصالح المتضاربة، و التي لا تخضع لمنطق واحد وأوحد يكون الجميع كما يقال أمامه مثل أسنان المشط بما يسمى قانونا. يقول الله تعالى :”ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت الأرض والسماوات ومن فيهن” وقوله: “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا”. والقانون في القرآن يأتي معبرا عنه بغايته الذي هو الحق، وهو لا يسمى حقا لأنه يجب أن يجدد نفسه باستمرار، ويتطلع إلى غاية الحق باستمرار؛ حيث يصبح مثل الحق سبحانه عدلا منزها عن الأهواء والنزوات، التي تصيب الإنسان والكيان، وكأن الإنسان مرتفع إلى الله وكأن الكيان مرتفع إلى هذا الكون المنظم بإرادة واحدة. إن أشنع ما تعانيه المجتمعات العربية هو تعدد الإرادات، النابعة من تعدد الرغبات، المستجيبة للغرائز والنزوات، والمصالح الفردية والفئوية حتى من الأعداء. وهو ما يستدعي إخضاع القانون وتعطيله باستمرار ليخدم هذه الأهواء المعاكسة لما يسمى الإرادة العامة، والتي يفترض فيها أن تخدم الكيان المشترك ومصلحته العامة. لقد تحدثت في مقال سابق منشور عن توصيف الوضع في المغرب، وكان من النقط التي أشرت إليها هي أن الاستبداد غالبا ما كان معيقا لتحرر طاقات الشعوب، لأن الاستبداد يعمل باستمرار على تقييد وتعطيل وتضليل الإرادات بالخرافات،والجهل، والتصورات الخاطئة، أي ما معناه أن الاستبداد يعمل باستمرار على قتل حاسة العقل في المجتمع، حتى تكون إرادة المواطن خادمة لإرادة الاستبداد، ويظهر التغيير على أنه ضرب من المستحيل، والسبب في ذلك هو ما يحمله الفرد من تصورات مغلوطة عن نفسه والعالم بسبب تأثير الاستبداد، وهذا هو ما عبر عنه القرآن في آية مشهورة حيت قال: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. إن الشعوب التي تقدمت هي تلك الشعوب التي استطاعت أن تحرر وعيها وتصوراتها، فخضعت للإرادة الواحدة هي إرادة العقل. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن طبيعة شعب من الشعوب؛ خدوم أو كسول، غبي أو ذكي ما لم يتم التخلص وتخليصه من الاستبداد. ففي الدول التي لا تخضع إرادتها للقانون من الصعب جدا أن يستقيم فيها شيء كيفما كانت طبيعة هذا الشيء، لأن الاستبداد يجعل الكيان مشوها غير قابل لأي صورة جميلة، بل يفقد الكيان والأفراد هوياتهم لصالح منظر عام موصوف بالقبح. فالشعوب العربية ليست فاسدة ولكنها شعوب مُفسدة، مطموسة معطلة، متخمة بالسلوكات غير المعقلنة؛ التي تحجب عنها كل رؤية وتمنع عنها كل خير، وعندما تتخلص من استبدادها تظهر طبيعتها، وتتفجر قدراتها، تماما كما جميع الشعوب المتحررة قديما أو حديثا من نير الاستبداد. وفي العالم اليوم نماذج من الشعوب الإسلامية وغيرها مما يكذب طرح المستحيل.