هذه حلقات وسمتها ب “النظرية الأخلاقية في الإسلام”، جوابا عن سؤال: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟. أضعها بين يدي القارئ الكريم سلسلة منجمة في هذا الشهر الفضيل، لعلها تسهم ولو بقدر يسير في إعادة إحياء السؤال، في زمن أصبح فيه سؤال الأخلاق ملحا أكثر من أي وقت مضى. فالناظر العارف المطلع يفهم أن باب السؤال، سؤال الأخلاق هو من الأسئلة المتسعة والتي تم تصنيفها منذ الفلسفة الأولى كباب من الأبواب الكبرى التي تهم الفلسفة. وعليه فباب الأخلاق وسؤال الحسن والقبيح والخير والشر وغيرهما من الثنائيات لم يخل مجتمع من المجتمعات المعرفية من الاهتمام بها والكتابة عنها وفيها. وربما كان هذا هو السبب في جعلي في هذه الحلقات لا أولي اهتماما كبيرا للجانب النظري والمناقشات النظرية، التي هي على كل حال مدونة مشهورة يعلمها العالمون. فقد ركزت بالأساس على ما يظهر من أخلاق المسلمين وبما يضمر اعتمادا في تفسير ذلك على خطاب الدين والمعرفة العامة. من الألفاظ التي تتوارد بكثرة داخل النص القرآني نجد لفظ الإرادة؛ والتي تأتي على الفعلية بحالات متعددة بين الإفراد، والتثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث، “أريد، أرادا، أرادوا، أردن.. وهكذا”. والملاحظ أن جميعها تأتي على زمن المضارعة دالة على الحال والاستقبال. ويعني فعل الإرادة على الأقرب الطلب والقصد فيما يتقدم؛ بمعنى أني أطلب وأرغب أن يكون الشيء هكذا في المستقبل. واللفظ المشتبه منه والملتبس به هو لفظ المشيئة، ومن قائل إنهما على معنى واحد. وفي الفروق يحدد العسكري أن الإرادة تكون لما يتراخى وقته ولما لا يتراخى، والمشيئة لما لم يتراخ وقته. والظاهر أن المشيئة نافذة بالفعل أما الإرادة فحدها العزم والتصور لما يستقبل وهي تحتمل التحقق ولا تحتمل على حسب القدرة والعزم والاستطاعة، ومثله قوله تعالى: “من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا”، فدل هذا على أن الإرادة وحدها لا تكفي إلا أن تقترن بسعي وحرية؛ دل عليها هنا مفهوم الإيمان. وبالعودة إلى النص القرآني نلفي أن فعل الإصلاح والإفساد لا بد أن يكون مبنيا على إرادة، ومثله قول الرجل من بني إسرائيل لموسى: “يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين” فقد حاكم نوايا النبي لما علم إرادته المعلنة قبلا في الإصلاح. ومثله قول النبي شعيب: “وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت”. فاقترن الإصلاح بالإرادة أي جمعا بين الاستقبال والاستطاعة. وقد تأتي الإرادة في القرآن على صيغة” راود” وهي أيضا دالة على التجاوز، وتعني جعل الشخص يقدم على فعل بغير رغبته وطلبه، فنكون أمام ضرب من الإكراه. ومثله قول امرأة العزيز: “أنا راودته عن نفسه فاستعصم” وقول النسوة” امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه” فدل هذا على ارتباط فعل الإرادة بالحرية، فالذي يريد لا بد أن يكون حرا بالضرورة وإلا فهو مجبر مراود. والإرادة ليست مرتبطة بفعل بطبيعة وحكم معين، ولكن الإرادة فقط تحرير قصد الفاعل، فتكون الإرادة في الإصلاح لا يقابلها إلا الإرادة في الإفساد. وقد تقدم معنا هذا المفهوم مفهوم الفساد، وكان مما ذكرنا أنه يأتي في القرآن بمعنى التجاوز والتعدي، فنقول أيضا إن فعل الإصلاح نقيض الفساد دال على التجاوز، والقرآن لا يعظم فعل الصلاح المكتفي بالذات، كما لا يشنع الفساد المكتفي، ولكن العمل الممدوح متعد إلى الموضوعات كما الإفساد، فسد_يفسد. أفسد_ يفسد/ صلح_ يصلح_أصلح_ يصلح؛ يلخصه قوله تعالى: “فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”. فدل هذا على أن سبب هلاك الأمم ليس غياب الصالحين، فقد يكونون قلة مكتفية منزوية، ولكن السبب هو غياب المصلحين، الذين ينهون عن الفساد في الأرض. واختياري للحديث عن الإرادة هنا ليس من باب الترف، ولكن فعل الإرادة كما تقدم يتضمن أعلى ما يطلب داخل الفرد والكيان، وعندما تغيب الإرادة وتحل محلها المراودة والجبر نكون أمام مشكلة حقيقية، لأن الفرد والكيان يفقد كل قدرة على تحسين مستقبله كما يريد هو، وكما يتصوره على صيغة ما ذكرنا. وحتى وأن مفهوم الإرادة تم مناقشته داخل علم الكلام بخصوص إشكالتي الجبر والاختيار؛ بالنسبة للفرد في علاقة أفعاله بمصيره في الدار الآخرة، فإن القضية تجاوزت هذا بالنسبة للفلسفة الحديثة، وأصبحنا نتحدث عن الإرادة بمفهومها الدنيوي، سواء تعلق الأمر بالفرد أو بمفهوم الإرادة العامة. فكيف يمكن لأفعالي أن تحدد مستقبلي وأنا أعيش مسلوب الإرادة، ومثله أن الكيانات كما الأفراد لا يمكنها أن تحدد مستقبلها ما لم تكن مريدة حرة، بصرف النظر عن قيمة ما تقدمه لهذه الإرادة. إن قضية الإرادة لا يمكن فصلها بالمطلق كسبب رئيس عن ما تعيشه المجتمعات العربية الإسلامية من انحطاط، فالخلاصة الأولى هي أن الشعوب العربية الإسلامية مسلوبة الإرادة في الخارج، وأفرادها يعيشون نوعا من الجبر داخل كيانات لا تمتلك إرادتها، بل إن طرق سلب إرادة المجتمعات العربية تتعدد تحت مفاهيم استعمارية، فكيف يمكن أن نتحدث عن كيان يحتمل ويظن به أن يكون صالحا في المستقبل، وأعداؤه هم من يمتلكون إرادته بالتوجيه والوصاية. وسواء أكانت الدولة دالة على حرية الفرد أو مركزة في الكيان كما يرى هيجل، فإنه من المفروض في الجميع تخليص هذه الإرادة من كل ما يشوبها من ما ليس بعقل، فالقانون مثلا هو عقل الدولة الذي يجب أن يتحقق ويتطور باستمرار، ويكون من الواجب على الفرد الانقياد لهذا العقل العام لأن هذا فيه انتصارا للذات الفردية. ووجود كل ما من شأنه أن يشوش على الفرد وعلى عقله هو ضرب لإرادته وحريته. فهل يمكن حقا أن نتحدث عن هذا داخل المجتمعات العربية الإسلامية؟