لم يكمن سر عبد الحليم حافظ في حلاوة صوته ورهافة إحساسه فقط، ولكنه تجاوز معطيات النجاح التقليدية التي يمكن تلخيصها في الإشارة إلى جمال الكلمات والألحان، وطبيعة الأداء الفريد، فهذه مزايا امتلكها الكثير من المطربين والمطربات، سواء من سبقوه أو عاصروه أو لحقوه، ولم يُحدث أي منهم الأثر الذي أحدثه هذا الشاب الريفي البسيط القادم من أعماق القرية المصرية، إلى أضواء العاصمة الكبرى، القاهرة، المليئة بالأصوات الغنائية الطامحة في الشهرة والنجاح. لم يزد اجتهاد الفتى الصغير في بداية رحلته عن سعيه للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية للدراسة الأكاديمية، تيمناً بشقيقه إسماعيل الذي سبقه إلى هذا المجال، وكان يمتلك موهبة صوتية وقدرة تعبيرية متميزة، أهلته ليكون واحداً من الدارسين في المعهد، وبحسب ما هو معلوم لدى المهتمين والباحثين، فإن حلاوة الصوت كانت وراثية في عائلة عبد الحليم علي إسماعيل شبانة، الشهير بعبد الحليم حافظ، فأبوه الشيخ علي شبانة كان مؤذناً في مسجد قرية الحلوات التابعة لمركز الزقازيق في محافظة الشرقية، وقد اشتهر في محيط القرية والقرى المجاورة بعذوبة صوته، وتمكنه من الأداء بإحساس فطري خالص يدعمه حفظ القرآن الكريم بأحكام التلاوة والترتيل، ومن ثم أخذ الأب نصيبه من الشهرة المحلية في مجاله المحدود، ولكنه ترك الأثر الوراثي الكبير في أبنائه إسماعيل وعبد الحليم. وشق الأول طريقه في اتجاه التلحين والغناء، ليكون نواة التكوين الحقيقية في مسيرة شقيقة الأصغر، الذي أضفى اليتم المبكر مسحة من الحزن على صوته فأكسبه شجناً جعله الأكثر تأثيراً حين يغني، وسرعان ما صار ذلك الحزن سر تميزه ونفاذه المباشر للقلوب، فلم يكن تميز الطفل والصبي والشاب مقصوراً فقط على صوته، وإنما بات الترجمة الفورية لإحساسه ومشاعره وسلوكه وانطوائه وخجله وأدبه الجم. كان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ حجر الزاوية في تشكيل الوجدان الجمعي للجماهير العربية، ولهذا استشعر الزعماء والرؤساء والملوك أهمية صوته فقربوه منهم، ليكون سفيرهم لدى شعوبهم. لقد أنهى عبد الحليم السنوات التمهيدية لدراسته المتخصصة في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، ثم التحق بعد ذلك بالمعهد العالي للموسيقى المسرحية ليرتقى إلى مستوى آخر من الدراسة الموسيقية في قسم الآلات، منتقياً من بين الآلات العربية أصعبها، وهي آلة الأوبوا متحدياً نفسه ومراهناً فقط على موهبته، وفي غضون أربع سنوات يحصل الفتى الأسمر النحيل على درجة الدبلوم العالي في الموسيقى العربية بتقدير امتياز، محتلاً الترتيب الأول على دفعته التي كان من بينها كمال الطويل ومحمد الموجي وأحمد فؤاد حسن. وتمر السنوات على الشاب الموهوب وهو لا يزال يبحث لنفسه عن فرصة في ساحة تتسابق فيها المواهب الكبرى، عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد الغني السيد وكارم محمود وعبد المطلب وآخرون، ولم يدخر وسعاً في الركض وراء الأمل البعيد فهو يرفض الوظيفة الحكومية، ويأبى أن تُحجم موهبته الكبرى في مهنة التدريس، رغم عمله بها مضطراً لفترة قصيرة، وإزاء تحقيق الحُلم يتوجه للإذاعة المصرية ماثلاً أمام لجنة الاستماع، وفي مفارقة هي الأغرب من نوعها يتم رفضه مرتين متتاليتين، لعدم التزامه بالطابع التقليدي في الغناء الذي كان متبعاً آن ذاك، فهو قد تخطى بحسه الأدائي المتطور الأسلوب القديم لمطربي الأدوار والطقاطيق والموشحات، وفارق الرعيل الأول في ما يشتهرون به من آيات الاستعراض الصوتي بالوقوف عند الموال والإعادة والتكرار فكان الرفض قراراً جماعياً من اللجنة التي اعتبرته متمرداً على المدرسة القديمة. وتحين اللحظة بقيام ثورة يوليو عام 1952 فيعاد تقييم صوته في ضوء ما يستجد من الأفكار والرغبة في التوظيف السياسي والثقافي للمواهب الشابة، فتتاح له الفرصة كاملة كي يغني ويشدو، بل يصير عنواناً لتيار غنائي جديد ومختلف يكبر وينمو، ويشكل تأثيراً جماهيرياً هائلاً تستفيد منه الثورة أيما استفادة، على مدى سنوات طويلة، يصعد خلالها عبد الحليم حافظ الذي اكتسب ثقة النظام الحاكم، سُلم النجاح بمنتهى الثبات، على خلفية ما قدمه من أغنيات وطنية ناجحة مع كبار الشعراء والملحنين في مراحل الانكسار والانتصار، حيث أشير لهذه المراحل بأغنياته، «عدى النهار بالأحضان بستان الاشتراكية خلي السلاح صاحي أحلف بسماها فدائي البندقية راية العرب الاستعمار وطني الأكبر – حكاية شعب» وغيرها من الأغاني التي يحفظها الجمهور العربي عن ظهر قلب، لارتباطها حينئذ بالمشروع القومي الذي كان حُلماً كبيراً إبان المد الثوري، وما انطوت عليه الفكرة التحررية في تلك الفترة. كان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ حجر الزاوية في تشكيل الوجدان الجمعي للجماهير العربية، ولهذا استشعر الزعماء والرؤساء والملوك أهمية صوته فقربوه منهم، ليكون سفيرهم لدى شعوبهم، واستجاب المطرب الصاعد الواعد لدعاوى الحُكام، ولكنه انحاز في الوقت نفسه للمزاج العام فقدم اللونين، الوطني والعاطفي على حد سواء، وأبدع في اختيار أغانيه وتوطدت علاقته بالسينما كنموذج أمثل لفتى الأحلام، وتفانى من أجل بقائه على القمة كنجم يشار إليه بالبنان، وفي سبيل إتمام مسيرته الإبداعية تحمل العندليب عذابات المرض والألم، وقسا على نفسه ليظل في بؤرة الضوء متوجاً بحب الجماهير العربية قاطبة.. من المحيط إلى الخليج.