بعد أن أمضى نحو عشرين عاما في الحكم، قدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة استقالته أول أمس الثلاثاء، مستسلما أمام ضغط الشارع وإثر تخلي الجيش عنه. ونقلت وسائل الإعلام الجزائرية، مساء الثلاثاء، أن الرئيس بوتفليقة أبلغ المجلس الدستوري باستقالته “ابتداء من تاريخ اليوم”. والخبر الذي تناقلته مختلف وسائل الإعلام وبينها التلفزيون الوطني ووكالة الأنباء الجزائرية الرسمية جاء فيه أن بوتفليقة “أخطر رسميا رئيس المجلس الدستوري بقراره إنهاء عهدته بصفته رئيسا للجمهورية” وذلك “ابتداء من تاريخ اليوم”. وبموجب الدستور الجزائري يتولى رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح (77 عاما) رئاسة البلاد بالوكالة لمدة أقصاها 90 يوما تجري خلالها انتخابات رئاسية. ومباشرة بعد الإعلان الرسمي عن تقديم بوتفليقة لاستقالته، سمعت على الفور أصوات أبواق السيارات في شوارع العاصمة ترحيبا بالاستقالة، وسجل ظهور بعض التجمعات خصوصا في ساحة البريد في العاصمة، فيما لوح الكثير من المتظاهرين بالعلم الوطني. وكانت الرئاسة الجزائرية أصدرت بيانا الاثنين جاء فيه أن بوتفليقة سيتنحى قبل انتهاء مدة ولايته الحالية في الثامن والعشرين من أبريل، وبأنه سيقوم ب”إصدار قرارات هامة طبقا للأحكام الدستورية قصد ضمان استمرارية سير الدولة أثناء الفترة الانتقالية التي ستنطلق اعتبارا من التاريخ الذي سيعلن فيه استقالته”. صبر الجيش ينفذ قبل ساعات قليلة من إعلان هذه الاستقالة، دعا رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح إلى “التطبيق الفوري للحل الدستوري” الذي يتيح عزل الرئيس بوتفليقة. وكان يشير إلى المخرج الدستوري الذي اقترحه الأسبوع الماضي ويتمثل في تطبيق المادة 102 من الدستور التي تؤدي إلى إعلان عجز رئيس الجمهورية عن ممارسة مهامه بسبب المرض. وتابع البيان “نؤكد أن أي قرار يتخذ خارج الإطار الدستوري مرفوض جملة وتفصيلا”، في تلميح إلى أن الجيش قد يتوقف عن التقيد بقرارات صادرة عن الرئاسة. وبعد أن عدد الفريق قايد صالح المساعي التي قام بها الجيش للخروج من الأزمة الحالية، أضاف “مع الأسف الشديد قوبل هذا المسعى بالمماطلة والتعنت وحتى بالتحايل من قبل أشخاص يعملون على إطالة عمر الأزمة وتعقيدها ولا يهمهم سوى الحفاظ على مصالحهم الشخصية الضيقة غير مكترثين بمصالح الشعب وبمصير البلاد”. وأضاف أن المساعي التي يبذلها الجيش “تؤكد أن طموحه الوحيد هو ضمان أمن واستقرار البلاد وحماية الشعب من العصابة التي استولت بغير حق على مقدرات الشعب الجزائري”. أطول فترة حكم بالرغم من تمنيات العديد من الجزائريين، أن يروا بوتفليقة يخرج من الباب الواسع، لكن محيطه شاء له نهاية غير تلك، بدفعه إلى التشبث في السلطة وهو على كرسي متحرك، ووضع صحي في غاية الحرج. فسيسجل التاريخ أن 2 أبريل 2019، كان يومًا لنهاية حقبة الرئيس بوتفليقة بعدما قضى 20 عامًا في السلطة، لأربع عهدات رئاسية، لكن رغبته في الترشح أو ترشيحه من قبل محيطه لعهدة خامسة، كانت بمثابة الضربة القاضية بالنسبة له. وهكذا أسدلت الجزائر الستار على فترة حكم الرئيس بوتفليقة صاحب ال 82 عاما، بعد مسيرات شعبية هزت أركان النظام انطلقت يوم 22 فبراير ولا تزال إلى اليوم، ترفع مطالب أخرى ينتظر تجسيدها على غرار محاسبة الفاسدين ورحيل كافة الوجوه الحالية للسلطة بالإضافة إلى انتخاب رئيس جديد من جيل الشباب، يساهم في تطوير البلاد وإخراجها من أزمتها الراهنة. أمضى “بوتف” كما يسميه الكثير من الجزائريين أطول فترة في حكم مقارنة بالرؤساء السابقين الذين تعاقبوا على البلاد، حيث انضم إلى جيش التحرير الوطني وهو في ال 19 من عمره، وعند استقلال الجزائر عام 1962، كان عمره حينها فقط 25 عامًا، تولى بوتفليقة منصب وزير الرياضة والسياحة قبل أن يتولى وزارة الخارجية حتى 1979، وكان أصغر وزير خارجية في العالم، وتميز بكثرة حركيته وخرجته، حتى بات يوصف بأنه أكثر شخصية تركب الطائرة. مسار مثيرة للجدل في 1965، أيد انقلاب هواري بومدين الذي كان وزيرًا للدفاع ومقربًا منه، حين أطاح بالرئيس أحمد بن بلة. وكرس بوتفليقة نفسه عضدًا أيمن لبومدين الذي توفي في 1978، لكن الجيش أبعده من سباق الخلافة ثم أبعده تدريجيًا من الساحة السياسية. غادر بوتفليقة الجزائر عام 1981، بعدما اتهم بعدة عمليات اختلاس بين سنة 1965 وسنة 1978 وصلت إلى 6 ملايير سنتيم آنذاك حيث صدر أمر قضائي بتوقيفه حسب (جريدة المجاهد 09 غشت 1983)، وقد أثيرت حينها قضية ارتباطه بالفساد ثم أسدل الستار على تلك القضية. وفي 1986 عفا عنه الرئيس الشاذلي بن جديد آنذاك ولم يعد إلى الجزائر إلا في يناير 1987. وكان من موقّعي وثيقة ال 18 التي تلت أحداث 5 أكتوبر 1988، وشارك في مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني في عام 1989 وانتخب عضواً للجنة المركزية. فاز بوتفليقة بدعم من الجيش، بالانتخابات الرئاسية في أبريل 1999 التي خاضها وحيدًا بعد انسحاب ستة منافسين نددوا بما قالوا إنه تزوير، لكن ولأن العالم قرية صغيرة كما يقال، شاءت الأقدار أن يطالبه الجيش بالتنحي بعدما قضى أربع عهدات في الحكم. وأعيد انتخابه كل مرة من الدورة الأولى، في 2004 (85 بالمائة من الأصوات)، أصيب بوعكة صحية غير خطيرة في 26 نوفمبر 2005 ونقل لمستشفى فرنسي، في ظل فوضى إعلامية كبيرة. خرج بعدها من المستشفى في 31 ديسمبر 2005. في 6 سبتمبر 2007 تعرض لمحاولة اغتيال في باتنة، حيث حصل انفجار قبل 40 دقيقة من وصوله للمنصة الشرفية خلال جولة له شرق البلاد، وقد خلف الحادث 15 قتيل و71 جريح. التفجير تم بواسطة انتحاري يحمل حزام ناسف حيث تم اكتشاف أمره من طرف شرطي هرب إلى الجمهور الذين ينتظرون الرئيس ففجر نفسه بين الحشود. اغتصاب الدستور سمح تعديل الدستور لبوتفليقة بفرصة الترشح لعهدة رئاسية ثالثة بعد أن حدد النص السابق للدستور عدد العهدات بإثنين فقط. في يوم الخميس 9 أبريل 2009 أعاد الجزائريون انتخاب عبد العزيز بوتفليقة للمرة الثالثة على التوالي بأغلبية ساحقة قدرت بنسبة %90.24. في 2011 وفي خضم أحداث الربيع العربي، اشترى بوتفليقة السلم الاجتماعي بالعائدات السخية للنفط الذي ارتفعت أسعاره إلى أعلى مستوى حينها، عن طريق التقديمات الاجتماعية. أثار إيداعه المستشفى لنحو ثلاثة أشهر بباريس في 2013 بعد الجلطة الدماغية، شكوًكا في قدرته على الحكم. لكن وبعكس التوقعات ورغم اعتراضات معلنة من طرف الجزائريين وحتى من داخل النظام، ترشح بوتفليقة ونجح في الفوز بعهدة رابعة في 2014 (81.5 بالمائة من الأصوات) وهو على كرسي متحرك. بالرغم من تدهور صحته، عزّز الرجل سلطته، وحل في بداية 2016 جهاز الاستخبارات والأمن، عقب إقالة رئيسها الجنرال محمد مدين المعروف باسم توفيق. غير أن عهدته الرابعة جرت وسط تراجع كبير لأسعار النفط، الأمر الذي أثر كثيرا على الاقتصاد الجزائري المرتهن لعائدات المحروقات. *** تفاعل دولي مع استقالة بوتفليقة دعا الكرملين، أمس الأربعاء، إلى الانتقال السياسي في الجزائر من “دون تدخل” من بلدان أخرى غداة استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إثر احتجاجات شعبية غير مسبوقة. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف “نأمل، مهما حدث، أن تجري العمليات الداخلية في هذا البلد والتي هي شؤون داخلية جزائرية حصرا ، دون تدخل من دول أخرى”. وأضاف أن موسكو تأمل كذلك ألا يكون للانتقال المقبل “أي تأثير على الطبيعة الودية لعلاقاتنا الثنائية”. وروسيا حليف قديم للجزائر التي تصدر إليها الأسلحة. أعلن مساعد الناطق باسم كتابة الدولة الأمريكية للخارجية روبرت بلادينو، أول أمس الثلاثاء، أن الشعب الجزائري هو الذي يقرر كيف يسير المرحلة الانتقالية. وفي تصريح للصحافة قال بلادينو “ليس لدي رد فعل خاص غير أن الولاياتالمتحدة تتسائل حول كيفية تسيير هذه المرحلة الانتقالية وعلى الشعب الجزائري أن يقرر ذلك” . وقد استدعي الدبلوماسي الأمريكي خلال لقاء صحفي للتعليق حول إعلان استقالة الرئيس بوتفليقة. أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان أول أمس الثلاثاء أن فرنسا واثقة من أن الجزائريين سيواصلون السعي إلى “انتقال ديموقراطي”، بعد استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. وقال لودريان في بيان إن “الشعب الجزائري أظهر في الأسابيع الأخيرة، من خلال تعبئة متواصلة وكريمة وسلمي ة، أنه عازم على إسماع صوته”. وأضاف “نحن واثقون من قدرة الجزائريين على مواصلة هذا التحو ل الديموقراطي بنفس روح الهدوء والمسؤولية” التي سادت خلال الأسابيع الفائتة. واعتبر لودريان أن “صفحة مهمة من تاريخ الجزائر تطوى” مع استقالة بوتفليقة. *** المجلس الدستوري يجتمع اجتمع المجلس الدستوري، أمس الأربعاء بالجزائر العاصمة، لإثبات حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، بعد استقالة السيد عبد العزيز بوتفليقة، أمس الثلاثاء. وترأس هذا الاجتماع طيب بلعيز، رئيس المجلس الدستوري، وفقا للمادة 102 من الدستور التي تنص على أنه “في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو وفاته، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا ويثبت الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية وتبلغ فورا شهادة التصريح بالشغور النهائي إلى البرلمان الذي يجتمع وجوبا ويتولى رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون (90) يوما تنظم خلالها انتخابات رئاسية ولا يحق لرئيس الدولة المعين بهذه الطريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية”.