شهد قطاع غزة خلال الأيام القليلة الماضية جولتين من التصعيد العسكري بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، انتهت كسابقاتها بوقف إطلاق النار والعودة إلى مربع التهدئة بوساطة مصرية وأممية. نذكر أنه عندما بدأت إسرائيل تصعيدها العسكري الأول في القطاع جاء سعياً منها لتغيير قواعد اللعبة، عبر فرضها معادلة ردع جديدة مع فصائل المقاومة في القطاع المحاصر، وقصفها لأهداف عسكرية للمقاومة بذريعة الرد على «الطائرات الورقية والبالونات الحارقة»، التي يطلقها الشبان الفلسطينيون من القطاع، وفشلها في إيجاد حل لوقف الحرائق في مستوطنات «غلاف غزة». هذه الظاهرة التي ابتكرها الفلسطينيون مؤخراً هي إحدى إبداعات مسيرات العودة السلمية وكسر الحصار منذ انطلاقها في 30 مارس الماضي، وفضحت وحشية إسرائيل تجاه الفلسطينيين العزل، التي باتت أحد أبرز التحديات التي تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي. نجحت المقاومة الفلسطينية خلال هذه الجولة من التصعيد بتثبيت معادلة «الرد على القصف بالقصف» بمعنى أن كل غارة جوية إسرائيلية يقابلها ضربات صاروخية على المستوطنات المحاذية للقطاع، ووجهت رسالة واضحة لإسرائيل مفادها بأن المقاومة هي التي تحدد طريقة المواجهة وتفرض قواعد الاشتباك، وعلى إسرائيل تحمل نتائجها. وعقب القصف المتبادل توصل الجانبان إلى وقف إطلاق النار وإنهاء التصعيد الحاصل والعودة إلى التهدئة «الهدوء مقابل الهدوء» بوساطة مصرية. لم يصمد وقف إطلاق النار طويلاً بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وهذا يعود إلى عدم التزام الأخيرة به، حين أغارات إحدى طائراتها على موقع رصد يتبع للمقاومة شرق رفح (19/7)، ما أدى إلى استشهاد مقاوم وجرح ثلاثة آخرين. وكان الرد من قبل المقاومة بحجم هذه الجريمة، فأردت المقاومة أحد الجنود الإسرائيليين قنصاً على حدود القطاع(20/7)، وعلى الفور استهدف جيش الاحتلال نقاط رصد للمقاومة على طول الحدود الشرقية مع القطاع، وعلى مقربة من مخيمات العودة، تزامناً مع توافد الفلسطينيين المشاركين في جمعة «لن تم المؤامرة على حقوق اللاجئين»، ما أوقع ثلاثة شهداء وعدداً من الإصابات، لم تكتف إسرائيل بذلك بل صعدت من هجماتها واستهدفت مواقع المقاومة في القطاع بعشرات الصواريخ، ومارس قادتها حرباً نفسية وتهديدات بشن ضربات جوية واسعة على القطاع ، واغتيال شخصيات قيادية فصائلية فلسطينية، والتوعد بتدفيع سكان القطاع الثمن، وسط الحديث عن تدخل وساطات للتوصل لتهدئة في القطاع وهو ما أعلن عنه بعد ساعات عن وقف إطلاق النار بين الطرفين برعاية وتدخلات مصرية وأممية دون اشتراطات. ويرى المراقبون، أن المقاومة الفلسطينية التي مارست ضبط النفس بسبب الكم الهائل من الضغوط العربية والدولية عليها خلال الجولة الثانية من التصعيد، اعتبرت مقتل الجندي إنجازاً لها دون الدخول في جولة تصعيد طويلة يطلق من خلالها عشرات الصواريخ والقذائف كما حصل في السابق. ويقول المراقبون، إن سبب التصعيد الإسرائيلي في هذا التوقيت، هو إدراك إسرائيل لخطورة المساعي المصرية لإنجاز المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و«حماس»، ورغبة إسرائيل في الدفع من أجل سيناريو جديد هو الفصل بين إقليمي «الضفة وغزة»، ومحاولة تضليل الرأي العام بأن فلسطين تتمثل في قطاع غزة فقط. وهذا ما تحاول الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل العمل به بالتعاون مع بعض الدول الإقليمية لتصفية القضية الفلسطينية وتحويلها من سياسية إلى إنسانية بحتة، من خلال المشاريع التي يروج لها حالياً، كما تهدف إسرائيل من وراء التصعيد فرض إرادتها السياسية على الفلسطينيين من خلال سياسة القتل الوحشية، والتجويع بإغلاق معبر كرم أبو سالم الوحيد المخصص لدخول المواد التموينية والطبية وغيرها إلى القطاع. لم تحقق إسرائيل أياً من أهدافها خلال جولات القتال القصيرة مع المقاومة الفلسطينية، التي لم تقدم أي تنازلات، والفضل في ذلك يعود إلى مبدأ المقاومة والمعادلة الجديدة التي فرضتها على إسرائيل، وأدت إلى تراجع قوة الردع الإسرائيلي، كما أعادت مسيرات العودة السلمية وكسر الحصار الاعتبار للقضية الفلسطينية، كونها القضية الأساس والمركزية، ونجحت في تقديم الواقع الاجتماعي الأليم الذي يعيشه الفلسطينيين، ما أدى إلى الدعم والاستقطاب العالمي بالدعوة إلى رفع الحصار الظالم والعقوبات الجائرة عن القطاع. أثبتت الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في الآونة الأخيرة جهوزيتها الكاملة في الرد الموحد على العدوان الإسرائيلي على القطاع، وفرضها لمعادلة الردع الجديدة، من خلال التنسيق في نوعية الرد وتوقيته، الأمر الذي يتطلب تعزيز هذه الجهود في غرفة عمليات مشتركة، وعدم الاكتفاء بالتنسيق الميداني فقط، مما يعزز القدرة على الثبات والرد على العدوان، ورسم القرار المشترك: القتال والتهدئة مع الاحتلال.