عندما قص يوسف على إخوته رؤياه كان يعلم بأن المكيدة ستأتي منهم آجلا أم عاجلا، لكن عندما قصت الشاعرة مليكة الجباري رؤاها الآجلة التي تسم ديوانها الجديد ،كانت تعلم بأنها ستوقظ في نفسية المتلقي متعة القراءة وجمالية التلقي، لما يتضمنه الديوان من حس أدبي ورؤية إلى العالم ، تطرح فيه الشاعرة أسئلة كونية تستفز القارئ وتجعله طرفا مشاركا في عملية الكتابة، فيبدأ بدوره في تحريك ماكينة التفكير، يتساءل سرا ويجيب جهرا عن كثير من القضايا الإنسانية التي تطرحها الشاعرة، إذ إنها تبدو مسكونة بهوس النظام في عالم الفوضى والعبث، تحاول من خلال هذه المتون الشعرية ضبط نظام العالم و ترميم ما تبعثر منه. وربما هذه هي أقدس مهمة يؤديها الشاعر وهي أن يجعل من ذاته ذاك الطائرالفينيق الذي يحترق لكي تنبعث منه حياة جديدة مسكونة بالثبات والنظام ، ولكنه ليس ثباتا قارا منبطحا وإنما ثباتا يساعد على التأمل والتفكير( نحتاج مجاديف وأشرعة ونوافذ....نحتاج صباحا بلا قواميس مجرورة بلا مصطلحات مشكوك في ألسنتها). إننا ونحن نقرأ ديوان رؤى آجلة نشعر وكأننا نبحر في مساحة هائلة من الخيال إلى درجة أن القصيدة لم تعد قصيدة بالمعنى التقليدي وإنما أصبحت مصيدة تتماها فيها ذائقة القارئ بمشاعر الشاعرة، لأنها قصائد تحمل أحلامنا جميعا، أحلام الشاعرة وأحلام القارئ العربي الشغوف والطامح لكل ما هو جديد (الاحلام نصيبها سفر... على متون رياح بلا وجهة) وكأن الشاعرة تتنبأ بما يجري من أحداث، تدرك عبثية الواقع العربي المأزوم، الفاقد لمنطق العقل، وكأنه مقطوع الرأس يسير في اتجاهات مختلفة دون بوصلة أو خريطة يعود إليها في حالة الضياع. إنها حقا قصائد تعكس ضياعنا داخل الذات وخارجها، إنها تعالج بحق حالة التشرذم التي يعرفها الإنسان العربي، فتعمد إلى التنبيه إليها؛ وتدق جرس الإنذار الأخير؛ ربما قد يوقظه هذا الخض المتكرر في الذات المشروخة ليستيقظ من سباته العميق ( ضاعت ملامح الصور بينكم... استحوذ الوهم على أرصفة الفهم...) ص72 إن الشاعرة بهذا المعنى ترى الواقع العربي وكأنه مباراة صاخبة في سباق الخيل، كل واحد يصيح بملء فيه، حتى انتشر النشاز وانقطعت أوتار العود ، ولم يعد هناك من عاقل يرد هذا التيه من الشرود والضياع، وأمل الشاعرة في هذه القصائد ؛ محاولتها ضبط وتسوية سمفونية العالم برؤى آجلة تجمع الأصوات و الأبصار والأسماع الضائعة ( شاركني المداد وعزف القلم لنعترف بالواقع البليد) ص108. وهذا يؤكد لنا حقيقة الشعر وأهدافه حيث إنه تعبير باللغة البشرية؛ عن أحاسيس ليست ملك البشر جميعا وإنما يمتلكها الشاعر فقط؛ والشاعرة هنا في هذا الديوان استطاعت نقل أحاسيسها الجياشة من فضائها السحري الغيبي إلى حيث تشتغل أدائياً في بنية القول الشعري، متجاوزة في ذلك الوظيفة التقليدية الصرف للقصيدة معتمدة أساليب لغوية حية تتحرك بحركية التراكيب والمعاني لتوليد الدلالات.