ثمة خطاب سائد في الأوساط الشعبية يحاول أن «يشيطن» كل شيء في البلاد.. فالتجمع «الدستوري الديمقراطي» فاسد، والأمن فاسد، والوزراء الذين اشتغلوا مع الرئيس المخلوع فاسدون، والأحزاب التي تشارك في الحكومة، تحاول أن تركب ثورة الشعب، واتحاد الشغل قد نخره الفساد، من قيادته إلى كوادره مرورا بهياكله المختلفة، والمؤسسات العمومية والخاصة فاسدة هي الأخرى، والحكومة الراهنة لا بد أن ترحل لأن أغلب وجوهها من حزب الرئيس المخلوع.. فيما تطالب عديد التيارات السياسية والنقابية وشخصيات حقوقية ووزراء سابقين، بتشكيل «مجلس للإنقاذ الوطني» تكون مهمته إعداد دستور وقوانين جديدة للبلاد.. وإذا ما احتكمنا إلى مثل هذا الخطاب، فالنتيجة الوحيدة التي سننتهي إليها هي، إنهاء هذه الدولة التي بناها رجال تونسيون، وضحت من أجلها أجيال متعاقبة، والقضاء على كفاءاتنا الوطنية التي كونتها البلاد من المال العام، وربما دخلنا في منطق الفوضى والخراب الشامل الذي قد لا تنتهي دوامته لسنوات، وبالتالي سنتجه نحو «النموذج العراقي» الذي تأسف له عدد كبير من الشعب التونسي، وبكت نخبنا من أجل العراق وتاريخه وحالة الاستقرار التي كان عليها.. لا شك أن المطالب الشعبية المصرة على حكومة نزيهة وشفافة وخالية من رموز النظام السابق، أمر لا يختلف عليه اثنان، فهو مطلب الرأي العام التونسي والمجتمع المدني الذي اكتوى بنار الديكتاتورية السابقة، وهاجس النخب والنقابيين والسياسيين في الداخل والخارج، الذين ذاقوا الويلات من قهر بن علي وظلمه وفساده واستبداده، وبالتالي ليس لأحد الحق في مصادرة هذا المطلب الشعبي الهام، خصوصا وأن أزمة الثقة في وعود الحكومة تضخمت، بعد أن أحال بن علي جميع الوعود التي أطلقها سابقا إلى المجهول.. صحيح أن في التجمع والحكومات السابقة وفي عديد الوزارات والمؤسسات والأجهزة، فساد كبير وضخم وغير مسبوق في تاريخ تونس، بل إن هذا الحجم من الفساد لم نعرفه على عهد الحكم الملكي السابق (البايات)، لكن ذلك لا يعني أيضا، أن الفساد ينخر تونس بأسرها، وأن بلادنا جسم مريض يحتضر، ففي تونس وزراء شرفاء وكفاءات نزيهة وأسماء نظيفة، ولا يمكن أن نضع الجميع في «سلة واحدة».. إن الانطلاق من الصفر لبناء تونس الغد، أمر غير معقول منطقيا وسياسيا، ولا يمكن التضحية بمكاسب اجتماعية واقتصادية وتربوية وبشرية أنجزها التونسيون بعرقهم وعلى حساب قوتهم ومتعتهم أحيانا على امتداد عقود من الزمن، فالدول ليست بيوتا من لعب ورقية، نقيمها كيفما شئنا، إن بناء الدولة مسار وأجيال وتراكمات، والدول القوية هي التي تعرف كيف تنهض بعد كل كبوة.. ونعتقد أن في تونس رجالا قادرين على أن يرسموا معالم تونس جديدة بكل معنى الكلمة، لكننا مطالبون بأن نوفر لهم فرصة لكي يعملوا، ولنترك الحكومة الانتقالية التي لا يتعدى توقيتها بضعة أشهر، تعمل ضمن سقف الإعداد لمرحلة سياسية ودستورية جديدة، بعيدا عن منطق «الكل وإلا فلا»، لأن ذلك سيحيلنا إلى مصير لا يعلمه إلا الله.. نعم، إن الشعب التونسي بات جزءا من صنع القرار السياسي، لكن لا يمكن للمظاهرات أن تحدد مسار بلد يمشي على الجمر في الوقت الراهن، بلد ورث أخطبوطا من الفساد والنهب والسرقة والظلم والقهر، ومن واجبنا جميعا أن ننتشله من هذا الوضع، ولن يكون ذلك إلا بالانصراف للعمل والإنتاج، ولنكن جميعا تلك السلطة الرقابية التي تحصي أنفاس الحكومة، وتعدّ دقات قلبها الواحدة تلو الأخرى، لأن ما تهدم خلال الأيام العشرة الأخيرة، يحتاج إلى سنوات لإعادة بنائه من جديد.. فلنطو صفحة الاحتجاج، وليكن شعارنا خلال الأشهر القادمة: انتخابات حرة ونزيهة تحت رقابة دولية، ودستور يؤسس لجمهورية ثانية، وحريات لا تقصي أحدا من أبناء تونس وبناتها، وجهد دؤوب يبني ما هدمه الطاغية وأزلامه من العصابات المجرمة..