حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان. هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟ الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات. إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة. بين السطور بقلم: ميار مرسي رحت يا شعبان؟ وقفت بهية فوق الكرسي وبيدها الزعافة لتنظف أسقف الغرف كعادتها كل شهر، والأطفال حولها يركضون ويصرخون بفوانيسهم الصينية الجديدة. وكعادتها كل سنة كانت تتمنى أن تزداد التبرعات للدار حتى يزداد دخلها ولو لهذا الشهر فقط. ولكن على غير عادتها كانت تنتظر ما هو أكثر من زيادة مرتب. جلس عم أحمد على حافة سريره وهو يحدق بمسمار بارز من الأرضية الباركيه بغرفته، ثم أخذ يداعب المسمار برجله المتشققة. كان يحاول ألا يلتفت لصورة ابنه هيثم. تلك الابتسامة من وراء زجاج البرواز تمزقه كلما ذهب بنظره نحو الكومودينو. وقف الصبيان في إحدى الشوارع الجانبية يلعبون بكرة بالية وكان سمير يجلس ليستريح على الرصيف محدقا في الفضاء... في اللا شيء. لمحته ماريان بنت الجيران وهي عائدة من الكشك. "كل سنة وأنت طيب يا سميير!" قالتها وأهدته بعض الحلوى. قبل حلواها بابتسامة ومسح الرصيف بيده لتجلس بجواره. جلست شيماء متكاسلة على مقعدها المخلع في دارالأيتام والمسنين بينما كان بعض المتطوعين بالدار يزينون المكان بزينة بالية وفانوس عتيق قد تكسرت بعض زجاجاته... والبعض الآخر يهرول بالياميش واللحم و غيرها من التبرعات الرمضانية. أنت جيت يا رمضان؟ خرجت بهية من باب المشفى. كانت تأمل أن يبدأ الشهر ببركة... بركة ألا تكون مريضة... ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن. ماذا سيحل بثلاثة عشر يتيما وجدوا فيها أما؟ لو كان الأمر يقتصر عليها لما أهتمت. كانت فتحت ذراعيها للمرض والموت كما تفتحهما لأيتامها الثلاثة عشر. خرج عم أحمد من غرفته ليتمشى قليلا بالشارع..."جدو ! جدو!" استوقفه الصوت كصعقة ورفع نظره من الأرض ليرى طفل آية في الجمال يهرول ناحيته بفانوس وأمه تسير وراءه. كان على وشك أن ينحني ويفرد جناحيه له لولا انحراف الطفل قليلا عن خط مساره وارتمى بحضن عجوز آخر. خرج سمير وماريان من حديثهما بسبب تأخر الوقت. بقي هو قليلا في الشارع المظلم بعد رحيلها يفكر بكلامها. كانت تتمنى أن يمر رمضان دون أن يوبخها أحد لإفطارها علانية قبل المغرب. وودت لو تشترك مع شباب وبنات الكنيسة في توزيع العصائر والتمر عند الإشارات وقت آذان المغرب ككل سنة. لولا حالات الخطف والبلطجة المتزايدة وخوف أهلها لحققت أمنيتها الثانية. خرجت شيماء عن المعروف هذه السنة، و قررت أن تسعد من حولها، ففاجأت من تبقى من مسنين بالدار (حوالي خمسة) بعمرة رمضان على نفقتها الشخصية، واشترت مسرح عرائس صغير للأيتام ومعه عرائسه، وقسمت ما تبقى لها على ظرفين أحدهما لعم أحمد والآخر لبهية. فتحت بهية الظرف ودمعت عيناها وهي تعد المبلغ. نظرت للسماء من شباكها شاكرة لله، داعية إياه أن يشفيها، ثم أسرعت إلى غرفة المعيشة وبدأت تمسح مسرح العرائس وهي تمسح دموعها ثم نادت باقي الأطفال ليجهزوا معها عرض اليوم. فتح عم أحمد باب غرفته واستلقى على سريره وبيده الظرف. دقائق وكان الباب يُدق سريعا. ادخل! فُتح الباب وظهر رأس صغير من ورائه. نظر العجوز للطفل متعجبا حتى أوضح "أنا كريم يا جدو!" استقام الرجل و فتح ذراعيه فجرى الطفل إلى حضنه بلهفة والتحما ببعضهما. فتحت ماريان باب البيت لتجد سمير أمامها. عرض عليها أن تتطوع معه برمضان بأعمال دار الأيتام. فوافقت بشرط أن يساعدها في موائد الرحمن التي تنظمها الكنيسة. النصف بالنصف. وافق سمير بدوره وأعطاها رقم هاتفه. أشرفت شيماء بنفسها على الطبخ واشتركت في تنظيم المائدة وفاجأت الجميع بتلفاز جديد "أحدث موديل" وضعته على طاولة صغيرة أمام مائدة الطعام حتى يتسنى للجميع مشاهدة التلفاز أثناء الطعام. كل هذا لأنها لم تفرح منذ مدة طويلة، ففكرت في إسعاد من حولها لإسعاد نفسها. مدفع الإفطار... إضرَب! أخذت ماريان توزع التمر على الجميع قبل أن يصلوا المغرب جماعة، ثم أخذت تصب الملوخية في الأطباق ريثما ينتهون من صلاتهم. انتهى الجميع من صلاتهم وجلسوا في أماكنهم. سحب سمير الكرسي لماريان لتجلس ثم أخذ مقعده بجوارها. فتحت شيماء التلفاز على برنامج هزلي وبدأ الجالسون بالضحك، ويتعالى صوت ضحكاتهم مع تعالي صراخ الضحية حتى كادوا يختنقون من الضحك أثناء الأكل. جاءت الإعلانات. قل الضحك. وسعت العيون. انخفضت رؤوس الأطفال عندما شاهدوا إعلانات التبرع لدور الأيتام. لاحظت شيماء عبوسهم فغيرت القناة... كليك! ظهر برنامج هزلي آخر فتضاحك الجميع. جاءت الإعلانات. قل الضحك. وسعت العيون. اختفت ابتسامة بهية عندما رأت أمام عينيها ما قد يحدث للأيتام إذا خطفها السرطان. لم تحتمل الفكرة واستأذنت باكية للذهاب إلى الحمام. لاحظت ماريان ما قد حدث فلحقتها بحجة إحضار صينية الحلوى. لاحظ اثنين من المتطوعين الجو العام وذكروا الأطفال بالمسرح الذي ينتظرهم فهللوا وقفزوا من الكراسي ليتجهوا إلى غرفة المعيشة. رجعت ماريان، وعند اقترابها من المائدة لاحظت انحناء رأس عم أحمد لأسفل وفهمت من اتجاه تجاعيد وجهه أنه يبتسم. نعم...يبتسم للسبحة التي صنعها حفيده له من حبات خرز بلاستيكية. حفيده الذي غافل أهله وركب المترو خلسةً ليزور جده الذي اكتشف وجوده بالصدفة البحتة. ظلت شيماء تقلب في القنوات في ملل حتى تركت جهاز التحكم... جاءت الإعلانات. شدت أضواءها وأغنيتها انتباه عم أحمد. في لقطة شاهد هيثم أحمد زكي يلوح لأحمد ذكي المتوفي وكأنه رأى ابنه هيثم الذي لم يكلمه منذ عشر سنوات يلوح له بنفس الحرارة. "جينا لكم من اللى فات نفكركم بأحلى الذكريات!" سقطت السبحة... "أحلى حاجة في رمضان زي ما هو في كل زمان دايما بيجمعنا!" اغرورقت عيناه بالماء... "حضن حد تحبه مايتعوضش!" أجهش عم أحمد بالبكاء كطفل وسط فزع الجميع. "ولا ضحكة فى التيلفون زي ما بتشوفها العيون واحنا مع بعض حاجة ثانية!" بدأ الجميع يلتف حول عم أحمد بما فيهم الأطفال ليحضنوه وتشابكت الأذرع حوله لتحتويه. التفتت شيماء إلى التلفاز ووجهت جهاز التحكم نحوه كمن يوجه مسدسا إلى عدو. "خيوط من نور تجمعنا من كل زمان ومكان خيوط رابطة قلوبنا نزين بها رمضان وتكمل لمتنا" كليك!