يبدو أن النقاش العمومي الدائر بين مختلف الفاعلين في المشهد السياسي ببلادنا وبين الممثلين للحساسيات الحزبية والسياسية ضرورة ملحة للمجتمع سيما في هذه الفترة الانتقالية التي يمر بها مجتمعنا. آية ذلك أن الأسئلة التي تجهر بها هذه المكونات أسئلة تحاول رصد وتتبع الإيقاع العام الذي تيسر وفقه بلادنا وعلى كافة الأصعدة. أقول مرة أخرى بأن أوراش النقاش المنظمة هنا وهناك، وبمبادرة من الإطارات الجمعوية والمنظمات الجماهيرية والتنظيمات السياسية حق دستوري ومطلب شعبي وجماهيري سواء من داخل الأجهزة التنظيمية للأحزاب أو من خارجها، طالما أنه يهدف إلى تحصين المجتمع المغربي من الفكر المتطرف، أنى كان مصدره الأيديولوجي ومنبعه الفكري. ومن الواضح أن الأحزاب الوطنية التقدمية بما في ذلك بالطبع حزب التقدم والاشتراكية، تواجه اليوم تحديات كثيرة بحكم المتغيرات التي طفت فوق سطح الواقع السياسي الراهن محليا وإقليميا ودوليا، فبات جليا أننا نقف أمام تعديلات موضوعية، من قبيل الحضور التكنولوجي وتأثيره المباشر على صناعة الرأي وتوجيه المواطن، فضلا عن ظهور قوى سياسة شعبوية ناشئة.. ثبت أنها لا تحمل أية رؤيا مجتمعية، أو مشروعا سياسيا هادفا وجديرا بالاهتمام. أظن أن اتخاذ المبادرة من قبل بعض الجمعيات داخل مجتمعنا يبقى في حد ذاته عملا يصب في بوتقة المشترك الاقتراحي، المستأنس به طالما أن هناك مجالا يسمح بطرح آراء هذه القوى المدنية وبسط قناعتها، على الأقل راهنا وحالا. ثم إن هذا الفسيفساء من الأصوات الصاعدة من عمق المجتمع، ومهما كانت أطيافها الإيديولوجية والفكرية، يمثل ظاهرة صحية تقتضيها المرحلة براهنيتها.. فالمواطن من حقه أن يسائل الأحزاب التي ينتمي إليها عن القرارات التي اتخذتها أو التي تتخذها في هذه المناسبة أو تلك، ومن حقه أيضا أن يسمع صوته وتؤخذ أفكاره بعين الاعتبار، وإلا فإننا نلغي كل قواعد الديمقراطية التي يفترض أن تعمل بها الأحزاب التقدمية. بالإضافة إلى هذا من حق المواطن وفي أي موقع يشغله أن يعرف إذا ما سأل عن الصلاحيات والمقتضيات الدستورية التي تخول للحكومة هذا الهامش أو ذلك من ممارسة السلطة. صحيح، هناك ما يؤشر بقوة على وجود استعمالات غير سليمة بخصوص المقولات والأطر النظرية السياسية التي تتداولها بعض مؤسسات المجتمع المدني مثل: الحداثة، والانفتاح، واليسار، وثقافة التحديث وهلم جرا. إنما قيام مشروعها الجمعوي المجتمعي، وأقول حتى السياسي، لابد وأن تشوبه العديد من الشوائب العائدة أصلا إلى عنصر الارتباك الذي يطولها خاصة وأنها في بدايتها التأسيسية، أو لنقل إنها في مهدها، تبحث عن ذاتها وتؤسس لصوتها ثقافيا وسياسيا وإيديولوجيا. وهي (مؤسسات المجتمع المدني) بذلك مدعوة إلى التأمل والتروي والمراجعة لخطابها الذي غالبا ما تعلوه نبرة حماسية تفقده الكثير من عناصر الإقناع والمصداقية ثم المنهجية السياسية. أقول ضمن هذه الكلمة نعم للإطارات الجمعوية ومؤسسات المجتمع المدني، طالما أنها تشكل سندا حقيقيا وقوة ضاغطة وفاعلة في المجتمع، لها حق المراقبة والنقد وحمل الحكومة والأحزاب على العمل في اتجاه تصحيح الأوضاع وتنظيف مشهدنا السياسي مما يعلق به من شوائب، ومما يلحقه من علل ومنقصات تنظيميا وحزبيا وسياسيا. ولكن دون التفكير في الحلول محل الأحزاب المهيكلة والمنظمة، وإلا سيكون – إذا ما قيض لها أن تقدم على ذلك – جحودا في حق الأحزاب وبدورها التاريخي ولاسيما الأحزاب الوطنية الديمقراطية. إذ بفضل جهودها المبذولة وبفضل ما قدمت من تضحيات جسام وخدمات جلى للمجتمع وهي كثيرة، وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم رغم كل العيوب، وأعني المرحلة السياسية الراهنة، مرحلة الإبدالات ولا أقول التحولات، كما نزعم ويطيب لنا، لأن دواعي إطلاق هذا النعت هي مجموع الهزات والإرباكات التي مست الأحزاب والمنظمات في هياكلها. ولهذا، فإنه آن الوقت لحمل الأحزاب الوطنية على الانخراط السليم والعقلاني في أوراش النقاش المفتوحة على جميع المنافذ والمنفتحة على الحساسيات السياسية والفكرية ومن مختلف المواقع. وأستطرد فأقول، لا ينبغي لنا في الأحزاب التقدمية الوطنية أن نسقط في شراك الأصولية الوطنية والتاريخية، فنتذرع بهما كلما داهمتنا أخطار ذاتية (الوضع الداخلي للأحزاب) أو موضوعية (التطور العام الذي يعرفه العالم، وظهور معطيات جديدة في ملف وحدتنا الترابية). ونتصور بأننا منزهون عن النقد والنقد الذاتي، فنزيد أوضاعنا تعقيدا. ومعلوم أن المعايير المعقولة لقياس درجة المصداقية والشرعية الآن ليس هو "التاريخ" أو الالتفات إلى الماضي لتبرير الهويات والانتماءات، بل الحصيلة والنتائج التي يلمسها المواطن وبكيفية تجريبية، ونخص هنا بالذكر شريحة عريضة من الشباب المغربي. أقول: كفى من تلبيس ثقافات أحزابنا الوطنية أردية الماضي الميت الذي يصلح كموضوع للمقاربات السوسيولوجية والأنتروبولوجية ليس غير.