أستهل هذه الدراسة باستعارة قولة من الكاتب البيروفي خورخي ماريو بارغاس يوسا، يقول فيها: "أظن من يدخلُ الأدب، بحماسةِ من يعتنقُ دينا، ويكونُ مستعدا لأن يكرس لهذا الميل، وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون في وضع يمكنُه من أن يصير كاتبا حقا، وأن يكتبَ عملا يعيش بعده"2. أسوق هذه القولة لأنني وجدت في المبدعة الواعدة سلمى محفوض إصرارا من ذاك القبيل، وحرصا شديدا كي تحقق حلم نشر رواية..حينما تعرفت إلى سلمى واطلعت على تجربتها في الكتابة كان يخامرني الشك في أن تستطيع فتاة ذات توجه علمي محض كتابة رواية تربو عن مائة صفحة، لكن رغبتها في الكتابة وتدفق أفكارها وحبها لمناقشة كل صغيرة وكبيرة بل واستعدادها إعادة النظر، أحيانا، في كثير مما تكتب جعلني أدرك أنني كنت فعلا أمام مشروع كاتبة ناجحة وجعلنا جميعا اليوم أمام نص روائي جميل سردا وغني تخييلا ورائع تشكيلا.. لهذا نهنئها على جنونها الذي تبدى حبرا ونرجو ألا تشفى من هذا الجنون لأن من ضروريات الأدب أن نفكر بشكل مختلف وأن نحترف جنونا عقلانيا. ثنائية البياض والسواد في لوحة الغلاف: تمثل ثنائية البياض والسواد الناظم الخفي الذي يحكم رواية "على حافة الجنون" ونرصد تجلي هذه الثنائية منذ البدء حيث تواجهنا عتبة الغلاف بازدواجيتها اللونية فخلفية الواجهة الأمامية تلتحف سوادا وكل المؤشرات اللغوية داخلها بيضاء وصورة الشبح مجسدة بفضل اللون الأبيض الذي امتد على شكل دخان، أما الواجهة الخلفية فيبدو فيها اللون الأسود منسحبا ليترك مساحة للبياض وكأننا أما بقعة سائل تجف أو شكلٍ تتراجع وتتآكل أطرافه. إن الملاحظ على الغلاف أنه على الرغم من هيمنة اللون الأسود لكن سلطة اللون الأبيض هي المتحكمة والغازية، مما يوحي بأننا أمام كاتبة أو شخصيات روائية عاشت واقعا مأساويا ولحظات عصيبة ولكن تمسكت بالأمل، أو كأن الحال كان قبل فعل الكتابة كله سواد ولكن خوض الكاتبة غمار التأليف جعل ذلك السواد يتراجع شيئا فشيئا. وقد يعترض أحد القراء بدعوى أن مصمم الغلاف ليس هو الروائية لكن يبطل هذا الإدعاء حينما نعرف أن المصمم قرأ الرواية، وأن المؤلفة كما أعرفها لا أظنها تقبل بغلاف دون أن تكون قد وجدت فيه ما يعبر عن هواجسها ومشاعرها تعبيرا شافيا. لكن لماذا اللونان الأبيض والأسود بالخصوص؟إن النصوص الأدبية يمكن "أن تخلق إيقاعا لونيا مقاربا للإيقاع اللوني الذي تنتجه اللوحة حتى من دون التصريح بألفاظ الألوان"4.وبالتالي فالنص يمكن أن يفتح أمامنا بعض مداخل القراءة الشبيهة بمداخل قراءة اللوحات الفنية. نتفق جميعا أن دلالة الألوان تتحدد وفقا للوضع الاجتماعي لذلك فاللون الأبيض حينما ترتديه المرأة التي فقدت زوجها، في مجتمعنا المغرب يمثلا، يرمزللحزن والنقاء والطهارة وحينما تلبسه العروس فهو يحيل على العذرية والفرح والسرور ويستمر هذا التعارض فيرتبط اللون الأبيض بالشيب وبالكفن وبالاستسلام (الراية البيضاء) والكرم (الأيادي البيضاء) والمحبة (القلب الأبيض)… في المقابل ترتبط دلالة اللون الأسود بالحزن والحرب والغموض والقدسية (لون كساء الكعبة) والكراهية (قلب أسود) والتشاؤم (يوم أسود)، والأسود أيضا هو ملك الألوان في عالم الأزياء على أساس أنه اللون الذي يقبل مشاركة أي لون آخر من جهة، وأنه لون قادر على إخفاء العديد من عيوب الجسد من جهة ثانية..يمتد هذا التعارض بين اللونين فنعثر عليه في القرآنالكريم ؛ ففي الآيات القرآنية حضر اللون الأبيض رمزا للتحدي في قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} سورة الشعراء(33)،كما في قوله تعالى أيضا: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}سورة طه(22). وفي المقابل يصبح اللون الأبيض مرادفا للحزن والكمد في قوله تعالى {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}سورة يوسف(84)أما اللون الأسود فقد ذكر في القرآن الكريم سبع مرات يرتبط في أغلبها بالحزن والضيق وسوء العاقبة.من ذلك نذكر قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } سورة النحل(58)وقوله عز وجل أيضا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}سورة الزمر(60). لكن بعيدا عن الدلالات الاجتماعية والدينية نتساءل عن تجليات حضور اللونين الأسود والأبيض في المتن الروائي لسلمى محفوض.اللباس بين التجلي الخارجي والدلالة الباطنية: يحضر اللون كصورة رمزية ذات إيحاءات بليغة في النص الروائي لسلمى محفوض، فمن بين جميع الألوان تختار الشخصية الرئيسة اللون الأسود كلباس، وسنورد بعض المقاطع الدالة على ذلك: – استهلت الساردة وصف مالمي قائلة: "ارتدت سوادا فضفاضا، وأطلت في المرآة، حملقت مليا في وجهها الشاحب"(ص8)- "ارتدت سوادا، أطلت على وجهها في المرآة.. كان وجهها شاحبا، حاولت تزيينه بالمستحضرات لتعطيه حياة، وربطت شعرها المشعث بوشاح أسود" (ص23.) – "استيقظت مالمي على منبه هاتفها. كان يوم الاثنين، يوم عمل. تركت فراشها بخمول وارتدت كعادتها سوادا كي لا ينتبه أحد إلى وجودها وربطت شعرها الأشقر المشعث بوشاح" (ص45). من خلال المقاطع السابقة نسجل إصرار مالمي على ارتداء الأسود الفضفاض الذي يوحي بعدم الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر، والرغبة في عدم إثارة الاهتمام والضياع وسط عتمة الحياة،فغاية الشخصية هي إخفاء الحقيقة؛ إذ تصر مالمي على تزيين وجهها بالمساحيق لتعطيه الحياة. وفي المقطعين الآنفين الأول والثاني نلاحظ تكرار النظر في المرآة من أجل إعطاء الوجه روحا ومعنى وبالتالي نكون أمام شخصيتين شخصية مالمي وهي مع نفسها (وجه شاحب لا حياة فيه) وشخصية ثانية تتحقق مع المرآة؛ شخصية تُصنع لإيهام المجتمع والآخر على أن مالمي سعيدة وتستمتع بالحياة. ففي غياب الحياة الحقيقية صارت شخصية مالمي تقنع باصطناع الحياة. هذا الشعور لا يقتصر على إحساس مالمي بذاتها إنما يتعداه إلى نظرية الآخر لها، ففي حوار لها مع أفودا يقول لها حينما أخبرته أنها تحضر نفسها.- " لا تدعي أنك تنفقين من وقتك على مظهرك، ارتدي ما تحسنين ارتداءه: سواد فضفاض" (ص11). لكن ارتداء اللون الأسود لم يكن عادة قديمة بالنسبة لشخصية الرواية، إنما جاء بي مرحلتين:المرحلة الأولى: كانت قبل تعرضها للسحر، إذ تصف الساردة حالة مالمي القديمة، فتقول:- " وبعد أن كانت ذات بشرة بيضاء تشع الحيوية منها أصبحت في معظم الأحيان تبدو شاحبة اللون، عيناها العسليتان الجميلتان أصبحتا شاخصتين، أصبحت نخيلة بعدما كان يلقبها أصدقاؤها بالدبدوب" (ص29). المرحلة الثانية: يُدركها القارئ في نهاية الحكاية، حينما تصف مالمي تحولها: ". كان أول قرار اتخذته هو اتلاف كل ملابسي السوداء وألبس كل ما هو بهيج" (ص120). لذلك، فبالإضافة إلى ارتباط الأسود باللباس نجده اقترن في الرواية بالسحر (السحرالأسود)، تقول الساردة: – طالما اعتبرتْ الغيرة والحسد نوعا من أنواع الإعجاب، فلم تلق لهما يوما بالا. مما جعل حسادها يخطون خطوة بائسة واستعانوا بالسحر الأسود للتعبير عن ما يخالجهم من مشاعر" ص28ثم تقول في مقطع آخر:- " في تلك اللحظة بغير وعي، كنت أخطو أولى خطواتي في صراعي مع الوجه المفحم الذي لعب دورا كبيرا في حياتي.. أو بالأحرى في خراب حياتي. فهو وليد السحر الأسود يرتشف من صحة الإنسان كأسا ومن أفراحه كأسين، يمزجهما بطلاسمه وينفثهما سما يقتل الآمال" (38).- " فأنا لا محالة لن أعبد إله الذين سولت لهم نفسهم العبث بالسحر الأسود، لن أعبد إله الظالمين" (ص39- 40). مقابل الحضور المكثف للون الأسود في النص تحضر بعض الألوان بشكل باهت، كالأزرق والأحمر والوردي:- "لم تجد زورق الحبر الأزرق وطوق الورق الأبيض لينقذاها من الغرق" (ص6).- " رأت وردة حمراء قد داستها الأٍجل… قطفت وحرمت من الحياة لتُرمى تحت أقدام الناس" ص17- "اقتربت ساوي من الغرفة، مرتدية سروال جينز وحذاء رياضيا مع قميص وردي أعطى لسمرتها إطلالة جميلة" (ص68).) وفي مقطع تجمع مالمي تلك الألوان جميعها في خلطة واحدة وتقول: "كنت فرحة جدا كوْني استعدتني… لم أعرف طعم النوم تلك الليلة، صرت أكتب ذات اليمين وذات الشمال، لونت ورقتي بكافة الألوان، أذكر أن الأسود خط حكاية الغموض تلك الليلة وروى الأزرق عن الهدوء والهواء، ودق الأحمر ناقوس الخطر معلنا تغيير السلطان، وجاء الأبيض فوق عرشه وحط فوق الورقة صفاء ونقاء…" ص111شخصيات الرواية بين الكشف والستر: إن من يقرأ رواية سلمى محفوض تستوقفه طبيعة الأسماء المختارة للشخصيات: مالمي، أفودا، خنب، لاعم، ساوي. ناهيك عن أسماء الأمكنة: جاكودا، سحيم، صنيتار.. والمتأمل في هذه الأسماء لا يجد لها أصلا عربيا بل ولا أصل لها في لغات أخرى وحتى وإن وجد فالأمر لا يخرج عن الصدفة، لأن الكاتبة لم تربط شخصياتها بموقع جغرافي إحالي معروف أو واقعي. لهذا فالفرضية الأرجح أن الكاتبة اختارت القيامبعملية تشفير/codage لشخصياتها، وسنحاول في الفقرات الموالية أن نفترض الدواعي الكامنة خلف هذا التشفير. تاريخيا، عرف مفهوم الشخصية تحولات شتى انطلقت مع أرسطو لتصل إلى العصر الحديث حيثتحولت الشخصية الروائية في الروايةالحديثة إلى كائن ورقي، فقد نادى الروائيون الجدد بضرورة التضئيل من شأن الشخصية، والتقليص من دورها عبر النص الروائي إلى أن وجدنا كافكا? أحد المبشرين بجنس روائي جديد- يجتزئ، في روايته المحاكمة (، بإطلاق مجرد رقم على شخصيته بينما أعطاها في رواية القصر حرف كاف وذلك ليحرمها من العاطفة والتفكير والحق في الحياة5فيما يتعلق بحالة روايتنا المدروسة، فإن الأمر لا يخرج عن احتمالين يكمل أحدهما الآخر: الاحتمال الأول أن رواية "على عتبة الجنون" فيها كثير من السيرة الذاتية أو الغيرية ولكن الكاتبة اختارت الشكل الروائيقالبا، لأنه الشكل الأنسب لستر هوية الشخصيات والإيهام بانتماء الأحداث إلى عالم الخيال الروائي. ونستحضر هنا كيف أن السيرة الذاتية في المغرب لم تكتب إلا في وقت متأخر وأن أولى الأعمال التي كتبت كانت بلسان غير عربي كسيرة la boite à mervielles لأحمد الصفريوي. هذا ما يتعلق بالسيرة الذكورية، أما بالنسبة للمرأة فقد تأخر الأمر أكثر، ونستحضر في هذا المقام تصريحا للمغربية ليلى أبو زيد في مقدمة سيرتها "رجوع إلى الطفولة" حيث تقول: عندما كتبت أول مقال في أواخر الستينيات لم تكن عندي الجرأة حتى على توقيعه باسمي الحقيقي. وعندما كتبت أول رواية تركت بلدة البطلة بدون اسم لأنها بلدتي. بعبارة أخرى ، كان علي أن أنتظر سنوات عديدة قبل أن أجرأ على كتابة سيرتي الذاتية . وحتى عندما فعلت ذلك لم أفعله من تلقاء نفسي ، ولكن الأستاذة إليزابيت فيرنيا ، الخبيرة الأمريكية في شؤون الشرق الأوسط ، طلبته مني ، بالإضافة إلى أنه موجه لجمهور أجنبي وأنه يمنحني الفرصة لتصحيح ما يمكن تصحيحه من أفكار مسبقة عن الإسلام والمرأة المسلمة. إذن قد تكون سلمى محفوض لأسباب ما أرادت كتابة سيرة ذاتية فعاقتها جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية، وبالتالي اختارت الرواية كشكل يمنح حرية أكثر في تقديم الأحداث ومزج الحقيقة بالخيال. لكل إنسان حكاية واحدة على الأقل يجب أن تُروى، ولا يمكن لكاتب ألا يتعثر بذاته عند كتابة عمل أدبي.الاحتمال الثاني هو أن تكون المؤلفة قد قصدت اختيار هذه الأسماء الغريبة كي تعطي للقضايا المعالجة في المتن الروائي بعدا إنسانيا؛ فالسحر مثلا ليس مرتبطا بالمجتمع العربي أو الإفريقي إنما هو ظاهرة اجتماعية مرتبط بمستوى معرفي وفكري معين. وبالتالي فالمتلقي عندما يقرأ النص لن يربطه بسياق اجتماعي معين، بقدرما سيتعلق بما يُروى من أحداث.وبين الاحتمالين معا يطل القارئ من جهته أيضا على حافة الجنون فيقرأ ويبحث عن الحقيقة في الوقت ذاته، ويقلب صفحات الرواية قارئا وآملا في تفسير الكثير من الأشياء التي قد يتلقى عنها إشارات دون أن يصل إلى حقيقة ما. ومن بين شخصيات الرواية هناك شخصية تستوقف قارئ الرواية، إنها شخصية الوجه المفحم، هو شخصية تنتمي إلى عالم السواد/عالم الجن، مقابل الشخصيات المنتمية لعالم البياض/ عالم الإنس؛ تصف الساردة صاحب الوجه المفحم: – " مفحم الوجه… له وجه شديد السواد وكأنه فحم، له عينان يشع منهما ضوء أبيض، يرتدي قلنسوة تخفي شعره وجبهته وسترة وحذاء رياضيا شديد السواد وسروال جين أزرق اللون داكنه" (ص40). الوجه المفحم يؤكد مبدأ الثنائية الذي تأسست عليه الرواية ثنائية البياض والسواد ولنقل ثنائية الخير والشر وصراع الإنسان مع كائنات تتجاوز عالمه الحسي، ولتعزز الروائية وقع هذه الثنائية، تجعل شخصية أخرى، ألا وهي شخصية خنب خاضعة لسلطان غيبي، ففي حوار بينه وبين مالمي، تقول له: "امرأة أتت لتخبرني أنك ملك لإحداهن من العالم الآخر، وأن علي الابتعاد عنك، وإلا تتقم مني كما كان الوجه المفحم يفعل" (ص222). إن رواية "على حافة الجنون" نص سردي يختزل تجربة وطموح وواقع وأحلام جيل شاب، جيل عايش التكنولوجيا والسيولة الزائدة في المعلومة.. لكن ذلك لم يعزله عن واقعه الاجتماعي بكل متناقضاته، واقع السلطة الاجتماعية وواقع الخرافة والسحر وواقع الدين واختلافات فهم ذلك الدين.. كل تلك القضايا حاولت سلمى محفوظ بحسها الأدبي أن تثيرها لا أن تجيب عنها.. حاولت أن توقظ المسكوت عنه بحمل القارئ على أن يشاركها أسئلتها فنيعيد النظر في كثير من مسلماته."على حافة الجنون" قمة العقلانية لأن شخصياتها وقفت على الحافة واستطاعت أن تعيد ترتيب معطياتها لإعادة الأمل للمستقبل.. بعد أن كانت في جلها شخصياتٍ يحكمها القلق والضياع وإحساس يمتزج فيه الخوف بالذنب. أخيرا… على غرار البداية لا بأس من أن نختم المداخلة بحكاية قصيرة: "برايان، هو بطل الفيلم الذي قدمته الفرقة الكوميدية مونتي بايثون، بعنوان "حياة برايان"، استشاط غضبا عندما أعلن الناس أنه المسيح وتبعوه في كل مكان. حاول برايان، من دون جدوى، أن يقنع تابعيه بأن يتوقفوا عن التصرف كقطيع أغنام وأن ينفضّوا، وعندما صرخ في وجوههم قائلا: "أنتم أفراد، ردت عليه جوقة المريدين في نغمة واحدة وفي آن واحد: "نحن أفرد جميعنا!". ولكن خرج صوت وحيد ضعيف من بين جوقة المريدين على ذلك قائلا: "أنا لست فردا…" حاول برايان إقناعهم مرة أخرى، فصرخ قائلا: "عليكم أن تكونوا مختلفين!" فردت عليه جوقة المريدين في نشوة من الطرب وأكدوا ما يقوله: "نعم، نحن مختلفون جميعنا!" ومرة أخرى يخرج صوت وحيد يعترض على ذلك قائلا: "أنا لست مختلفا…". وما إن سمع الحشد المتماثل هذا الصوت يعترض للمرة الثانية حتى أخذوا ينظرون حولهم في غضب، على أمل أن يمسكوا بهذا الصوت النشاز فيشنقوه من دون محاكمة"6. إن سلمى محفوض هي واحدة من الأصوات الروائية التي بدأت مسيرتها دون أن تكتب على نموج سابق أو تقلد طريقة معينة في الكتابة، إنما اختارت أن تكتب بطريقتها الخاصة سالكة نهجا تجريبيا بإيجابياته وسلبياته، لقد رسمت لنفسها طريقا أُولى لافتاته تقول مسافة المائة ميل تبدأ بخطوة.- " منذ تلك اللحظة، أغلقت كتاب الوجه المفحم ومسحت فصوله من ذاكرتها، فعقلها لم يقو على تقبل الموضوع. لم يعد للوجه المفحم وجود وظل الألم يسلبها يدها، والرعب من عودته يسلبها حياتها. لهول ما رأت تقبلت وجود خطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها، فلم تعد تقوى على كسر القواعد التي سنها لها: أصبحت لا ترتدي إلأ سوادا" ص33 – صرت أكره غرفتي ومسكني ومدينتي وعملي وصارت الأفكار ا- لسوداوية برأسي" ص41-42- " كانت اول ليلة تنام قريرة العين منذ أن ابتلعت فنجان القهوة ذاك" ص31- " يوم الأربعاء هو اليوم المفضل لمالمي لكونه يشبهها، فهو يوم محايد يأتي بعد يومين من العمل، لذا لا يحمل أي لون، يوم لا حياة فيه" (57).في مقطع آخر: "لم يعد هناك يوم يشبهني، فحتى يوم الأربعاء الذي كان يوما لا لون فيه، اتخذ لونا جديدا" (ص73). هوامش: 1- على حافة الجنون العمل الروائي الأول للمبدعة الشابة سلمى محفوض، وقد طبع هذا العمل بمدينة وجدة المغربية، الطبعة الأولى 2016وللإشارة فللروائية السعدية بلكارح رواية بالعنوان ذاته، وهو العنوان نفسه الذي اختاره الأستاذ إدريس عبد الجبار لمجموعته القصصية. 2- رسائل إلى روائي شاب، خورخي ماريو بارغاسيوسا، ترجمة صالح علماني، دار المدى بيروت، الطبعة الثالثة، ص14 3- اللون لعبة سيميائية، دار مجدلاوي، الأردن، الطبعة الأولى 2009/2010، ص7- 4- في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد، عبد المالك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، العدد 240، ديسمبر 1998، ص 87. 5- الحياة السائلة، ريجمونتباومان، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1/ 2016، ص39