حتى من دون اتفاق سياسي نهائي، وبمجرد تراجع حدة المعارك في سوريا بفعل تشكل مناطق نفوذ ذات حماية إقليمية ودولية، بدأت الشركات الأجنبية تتطلع إلى اقتناص عقود إعادة الإعمار من الحكومة السورية. وفيما يحاول النظام السوري استخدام ملف إعادة الإعمار لاكتساب شرعية دولية وداخلية، تحاول دول غربية استخدام ذات الملف للضغط على النظام وداعميه لتقديم تنازلات سياسية. في الصيف الماضي، استغل النظام السوري فرصة تنظيم معرض دمشق الدولي لدعوة شركات عديدة من الدول التي كانت داعمة له خلال سنوات الحرب، أو تلك التي تجنبت دعم المعارضة السورية وبقيت على الحياد بصورة ما. سيطرت كل من إيرانوروسيا على النسبة الأكبر من عقود إعادة الإعمار منذ العام الماضي. ويحاول النظام السوري استغلال نهم بعض الدول للمشاركة في إعادة الإعمار لحصد مكاسب سياسية وتجديد شرعيته الدولية. إذ تعيد البرازيل التفكير في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا وافتتاح سفارة بالعاصمة دمشق مقابل مشاركة بعض شركاتها في عملية إعادة الإعمار. ويتطلع النظام إلى استمالة بعض الدول الأوروبية بنفس الطريقة. كما يستغل النظام السوري ملف إعادة الإعمار لتعزيز أمنه وتجديد شرعيته على المستوى الداخلي. تحت ذريعة التنظيم العمراني وإعادة الإعمار، حيث تقوم الحكومة السورية بالسيطرة على أحياء السكن العشوائي التي شهدت احتجاجات شعبية والتي تقع داخل المدن الكبرى؛ دمشق وحمص وحلب، أو المحاذية لها. وتعمل طبقة رجال الأعمال التقليدية المحيطة بالنظام، وبالتعاون مع طبقة جديدة نشأت خلال الحرب، على إعادة إعمار تلك المناطق بصورة محددة تحولها إلى مشاريع تجارية وخدمية تدرّ أرباحا سريعة وذلك بعد تهجير سكانها. لعملية الاستيلاء تلك أبعاد أمنية واقتصادية. يتعلق البعد الأمني المباشر بتهجير بيئات شعبية حاضنة للتمرد الشعبي وخصوصا في أماكن حساسة داخل المدن الكبرى، ومنع عودة سكانها حتى لا يشكلوا تهديدا في المستقبل. البعد الآخر يتعلق بأزمة الشرعية العميقة التي تعصف بالنظام السوري الخارج من حرب طويلة ومدمرة، ولا ترتبط تلك الأزمة بالسوريين المعارضين بعد تهجيرهم من البلاد وزج من تبقى منهم في السجون أو عزلهم في أحياء محاصرة، بل بضرورة تمتين شرعيته الداخلية عبر إعادة تكوين ائتلاف اقتصادي- أمني جديد بعد تعرض الائتلاف القديم لتصدعات وبعد بروز طبقة جديدة من أمراء الحرب وتنامي قوتها. تطمح تلك الطبقة إلى لعب دور اقتصادي في مستقبل البلاد، ويجد النظام السوري نفسه مجبرا على إدماجها ضمن الائتلاف الجديد الداعم له والذي يحظى بامتيازات اقتصادية كبيرة. من هذا المنطلق يمكن فهم عملية الاستيلاء على الأراضي من جهة، وتحويلها إلى مشاريع خدمية وتجارية تدر الأرباح على الطبقة الجديدة بالمعنى الاقتصادي. وكان النظام السوري قد أصدر المرسوم 66 لتنظيم ما أطلق عليه بمشروع التطوير العمراني. وتصور وسائل إعلام النظام هذا المشروع باعتباره الآلية المناسبة لإعادة الإعمار. ولكن، في حقيقة الأمر هو ليس وسيلة لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي بل وسيلة للإثراء السريع وتمتين الائتلاف الحاكم. يشكل ذلك إحراجا كبيرا للدول الغربية وعائقا أمام مشاركتها في إعادة الإعمار في الوقت الحالي. إذ أن مساهمتها بإعادة الإعمار تعتبر هزيمة لرؤيتها السياسية لمستقبل سوريا والتي كانت تصر على رحيل بشار الأسد ومكافأة لهذا الأخير بعد أن تسبب في تدمير البلاد وتهجير ملايين السوريين وقتل مئات الآلاف. وفضلا عن كل ذلك، فإن أموال إعادة الإعمار في حال قررت الدول الغربية المساهمة بجدية سوف تذهب إلى مشاريع تتابع تهجير السكان وسلبهم حقوقهم وتدعم مشروع الأسد بتجديد شرعيته داخليا وخارجيا. يجعل كل ذلك الدول الغربية مترددة في ما يخص دورها المستقبلي في إعادة الإعمار ويدفعها إلى التأكيد باستمرار على ربط مساهمتها بإعادة الإعمار بشرط سياسي يتعلق بالانتقال الديمقراطي ورحيل الأسد عن السلطة. يشمل ذلك الموقف الرسمي الأميركي الذي كرره وزير الدفاع مؤخرا وتوعد بعدم المساهمة حتى بدولار واحد طالما بقي الأسد في السلطة. ولكن، لا يمكن التسليم ببقاء الموقف الغربي تجاه قضية إعادة الإعمار في ظل وجود الأسد على هذا الحال في المستقبل. إذ قد يتحوّل تدريجيا مع تراجع حدة المعارك وصولا إلى توقف القتال بشكل تام وإسدال الستار على جرائم النظام السوري. وهذا ما يراهن عليه الأخير ومعه كل من روسياوإيران. إذ رغم الرغبة الكبيرة في الهيمنة على مكاسب إعادة الإعمار، هنالك إدراك لحقيقة أن حجم الدمار غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتطلب دورا غربيا حتميا في المستقبل.