عشية خطاب بشار الأسد الأخير، خرجت جريدة «الأخبار» اللبنانية (القريبة من حزب الله) بما يُفترض أنه سبقٌ تناقلته بقية وسائل الإعلام العربية والدولية. الجريدة، التي كانت نشرت سبقَ مقابلة فاروق الشرع الأخيرة، كشفت عن مبادرة يعلن فيها الأسد موافقته على اتفاق جنيف (يونيو الماضي) شرط احتفاظه بالسلطة الانتقالية وترشحه لانتخابات عام 2014. من قرأ «الأخبار» فهم أن تسريبا سوريا يُراد منه تهيئة أجواء تمكّن الأسد من تمرير مبادرته. ومن سمع الأسد في اليوم التالي فهم أن خطْبا ما أطاح بالسبق، وأن انقلابا ما أدى إلى خروج الرئيس السوري عن نصِّ التسريبات. والمهزلةُ أن الشأن السوري أصبح من العبثية بحيث تجوزُ حوله كافة التخمينات التي يمتزج داخلها عملُ الهواة بعمل المحترفين. أول تلك السيناريوهات هو أن تكون رواية «الأخبار» سورية المنشأ هدفها تقليدي ممل، يرمي إلى إعطاء إشارات يسارا قبل الاستدارة يمينا. كما قد يكون هدفها الإيحاء بالأقصى الذي يمكن للأسد قبوله على أن يمرّ الأمر عبر خطاب متشدد لا يُظهر أي تشققات أو تصدعات. في التخمينات أيضا أن «الأخبار» نشرت تسريبات مصدرها حلفاء دمشق (إيران مثلا، أو روسيا افتراضا) بغرض إحراج الأسد بسلّة حلول يريدونها أن تأتي منه لتسويقها دوليا، ولاسيما أن وسائل إعلام قريبة من طهرانوموسكو تناقلت باهتمام سبق الجريدة اللبنانية. ومن التخمينات أن صاحب السبق استمع إلى عارفين في الشأن السوري من الذين يلتقطون حال النقاش الدائر حول الأسد منذ زيارة الأخضر الإبراهيمي لدمشق وقفز فيصل المقداد إلى موسكو. بين ليلة وضحاها، ابتلعت «الأخبار» تسريباتها وخرجت بعد يومين تتحدث عن «خطاب الاستنهاض». تتسرب من لهجة الخطاب الأسدي رائحة إيرانية (طهران أيدت الخطاب وأرسلت تسوّقه في القاهرة). دمشق فهمت أن موسكو تتشدد وتناور وتفاوض للحفاظ على مصالح روسيا في سوريا وليس للحفاظ على نظام الأسد (بوتين ولافروف أعلنا جهارا عدم تمسكهما بالأسد). ودمشق استبقت لقاء روسيا أمريكيا في جنيف للبحث أساسا في مصير الأسد، لكي تقلب الطاولة في وجه موسكو قبل العواصم الأخرى أو، بشكل أدق، لإحراج موسكو أمام واشنطن والتعويل على موقف روسي متشدد داعم للأسد يستندُ إلى تشدد صاحب الأمر ونظامه في دمشق. إيرانية الخطاب تنبعُ من موقف طهران الداعم بشكل مطلق لنظام الأسد وحتى إشعار آخر. وإذا كان هناك إشعار آخر حتى في موقف إيران (التي قد تعوّل على حوار خفي بينها وبين واشنطن وعلى تعيين وزير الدفاع الأمريكي الجديد)، فإن ذلك الإشعار يبدو بعيدا إذا ما قورن براهنية ومزاجية الإشعار الروسي. ولا شك أن صلابة الخطاب الأسدي يعتمد ليس فقط على تلك العلاقة التاريخية بين النظامين السوري والإيراني، بل أيضا على غياب أي بدائل متوفرة بالنسبة إلى طهران، وهي التي تعتبر نشر الباتريوت في تركيا «مقدمةً لحرب عالمية» و»عملا هدفه حماية إسرائيل من صواريخ إيران» (وفق رئيس الأركان الجنرال حسن فيروز أبادي). لكن خطاب الرئيس السوري بدا رتيبا لم يحمل مفاجأة، اللهم تلك التي نسفت سبق «الأخبار». وبدت عملية الإخراج المظهري، سواء في مكان الخطاب (دار الأوبرا) أو في الحضور المصفق والمهلل أو في الجموع المندفعة لتحية الرئيس، متقادمة تنتمي إلى عالم آخر، شبيهة بالخطب الأخيرة لزعماء عرفناهم قُبيل سقوطهم. وبدا المضمون عاجزا عن تقديم وجبة حاذقة تقنع الحلفاء قبل الخصوم، وتقنع أهل النظام قبل المعارضة. لم يفهم الحلفاء معنى رسائل الأسد نحوهم إلا من شكرٍ خصّهم به (إيرانوروسيا والصين) على نحو كشف عن إدراكه للعزلة إلا من تلك الدول المشكورة. بطبيعة الحال، لم يرد الأسد توجيه رسالة إلى الخصوم العرب والدوليين. أدركت دمشق أن المراكبَ أُحرقت نهائيا بين هذا العالم وهذه الدمشق، وأن لا طائل من المناورة في هذا الشأن، وأن العالم سحب الشرعية من نظام دمشق حين اعترف بالائتلاف الوطني ممثلا للشعب السوري (أكثر من 120 دولة) حتى لو لم يرتق هذا الاعتراف، حتى الآن، إلى ما يبدلُ موازين القوى لصالح من ارتآه العالم لسوريا بديلا. ومع ذلك، يقترح الأسد حوارا مع «السيّد» أي مع هذا الغرب بدل الحوار مع «العبد»، أي هذه المعارضة. الخطاب تصعيدي تهديدي يقدمُ حلولا دبلوماسية هي أقرب إلى الكفر، ذلك أن إيمان الأسد هو في الحلّ العسكري ل«اجتثاث الإرهاب». والخطاب يضع خريطة طريق يخيّل أنها صادرة عن غرفة عمليات عسكرية لا من أروقة الساسة والسياسة. العملية السياسية أيا تكن، تتم تحت إشراف النظام ورئيسه، وإدارة الصراع ميدانيا تتم تحت إشراف قواته العسكرية، على أن يُربط وقف العمليات العسكرية بتوقف تمويل وتسليح «الإرهابيين». أما التفاوض فهو مع من «لم يخن البلد»، وعليه فإن الرجل سيقترحُ هوية تلك المعارضة وفق معايير يضعها هو للوطني والخائن. باختصار، خطاب بشار الأسد خطاب حربٍ مستمرة ضد أي مسعى داخلي وخارجي عسكري أو دبلوماسي لنقاش إمكانات التعرض لموقع الأسد، الآن وغدا، على رأس النظام السياسي لسوريا. الولاياتالمتحدة وأوربا والغرب عامة يطالبُ بتنحي الأسد ورحيله. النظام السياسي العربي رسميا يطالبُ بذلك معلقا عضوية سوريا نظاما في جامعة الدول العربية. روسيا لا يهمها الأسد بل مصالحها في سوريا، وهذا كلام تردده موسكو دون خجل. والمعارضة السورية، بطبيعة الحال، لا تقبل تسوية أو مفاوضات إلا بعد رحيل الأسد (بخروج آمن للبعض وبمحاكمة في سوريا للبعض الآخر). العالم، إذن، (بما في ذلك إيران احتمالا إذا ما ترتبت تسوية دولية معها) ترى في رحيل الأسد بداية للحلّ. فهم الأسد هذه المعادلة فرد بشكل كلاسيكي بالهروب نحو الأمام والذهاب إلى الاحتمالات القصوى لعل فيها مخرجا لم توفره أدواته العسكرية. يأتي خطابُ الأسد ليجد مكانه في لحظة فراغ وفّرها المجتمعان العربي والدولي بشأن سوريا. تعامل الغرب بزعامة الولاياتالمتحدة بارتجال وارتباك مع الحالة السورية. وجاء موقف موسكو وبكين ليوفر لهذا الغرب وسادة تبريرية لارتباكه وتردده، حتى تخيّل المراقب أن تواطؤا خبيثا يجمعُ الشرق والغرب على حساب سوريا. في خارطة ذلك الارتباك تشجيع ظهور المجلس الوطني المعارض ثم نسفه واستبداله بالائتلاف الوطني، ثم العمل على توحيد القيادات الميدانية (في مؤتمر انطاكيا الذي أنشأ هيئة القيادة الموحدة للجيش الحرّ)، على أن يتوازى ذلك مع التحذير من الحضور العسكري للإسلاميين داخل صفوف المعارضة إلى درجة الذهاب إلى وضع «جبهة النصرة» على لائحة الإرهاب بغضّ النظر عن موقف الائتلاف أو بعضه والذي رفض هذا التصنيف. موسكو لا تريد إسلاميين يعيدون إيقاظها على كوابيس شيشانية وواشنطن لا تريد في سوريا إسلاميين يشبهون من قتل سفيرها في ليبيا. ولأن ميدان المعارضة متعدد متشعب يصعب تنظيمه، فإن الغرب لا يريد تسليحا يأتي ببديل إسلامي «خارج السياق». هيلاري كلينتون حذرت من القاعدة، والاتحاد الأوربي أجّل البحث في التسليح منذ مؤتمر أصدقاء سوريا بمراكش (نونبر الماضي). الأسد التقط النغم ورقص على إيقاعاته بالكلام عن القاعدة و«الإرهابيين والتكفيريين وحفنة المجرمين» (وهي، بالمناسبة، تعابير استخدمها معمر القذافي قبل سقوطه). وفق ذلك التخبط ووسط هذا النقاش، يأتي الخطاب الأمريكي-الأطلسي مهادنا مقابل جولات الأسطول الروسي من وإلى اللاذقية. لم تعط واشنطن الضوء الأخضر لتسليح المعارضة، وبالتالي لم يفرج الغرب عن سلاح كانت المعارضة تنتظره بعد الاعتراف بائتلافها، بل الأدهى من ذلك أنْ انسحب تحفظ الغرب على منابع التسليح والتمويل العربيين، فتقلصت مساعدات العرب (ومعلومات تقول إنها توقفت نهائيا) بانتظار أن يتعرفَ المانحون على هوية من يَمنَحون. هي هذه اللحظة التي يمرّ من خلالها الأسد في خطابه، هو يدركُ أن المعارضة لن تستطيع، وفق هذه الظروف، إسقاط نظامه؛ وهو يدرك أن الغرب، وفق هذا الارتباك، لن يتدخل عسكريا ضد نظامه؛ وعليه، قد يرى في الأمر فترة سماح جديدة تخوّله الإمعان بأشكال متصاعدة في البطش بمعارضيه، لعل في حسابات الميدان ما يغير حسابات البيدر. هل حسابات الأسد صحيحة؟ تأملٌ للأجل القريب قد يوحي بذلك، وتأملٌ للوهن الغربي قد يشي بذلك أيضا (بعض الإنجازات الميدانية الأخيرة للنظام تعود، حسب المعارضة، إلى أزمة حادة في الذخيرة والسلاح). لكن الارتباك العربي والدولي (بانتظار استقرار إدارة أوباما الجديدة) في أسوإ الحالات قد يمنع المعارضة من إسقاط النظام في الأجل المنظور، لكنه في كل الأحوال لن يمكّن النظام من سحق تلك المعارضة، وسبب ذلك يعود إلى أن العالم حسم قراره برفض التعامل مع الأسد ونظامه (ومؤتمر لندن دليلا)، وأن مزاجا خليجيا تركيا لا يقبل استمراره حاكما (مهم تأمل التطور العراقي في هذا الشأن). لكن السبب الأكبر محلي داخلي يتعلق بديناميات المعارضة المسلحة (معلومات عن كون معركة مطار تفنتاز العسكري تمت دون علم قيادة الجيش السوري الحر ودون علم رئيس أركانه العميد سليم إدريس)، فحراك الداخل بات يتمتع بمحركات ذاتية مرنة قادرة على الصمود والاستمرار وإنزال الأذى بالنظام وفق شبكة تسليح وتمويل سورية إقليمية غير رسمية كفيلة بشكل نهائي بمنع الأسد من حكم سوريا. خطاب الأسد خطوة إلى الوراء، يقول الإبراهيمي؛ آخرون يقولون إنها خطبة الوداع!