من المؤسف القول إن الأجواء الدولية والعربية والإقليمية قد باتت تصب في صالح النظام السوري أكثر بكثير من الثورة، في ظل عجز عربي تركي، وفي ظل عجز مماثل لقوى الثورة والمعارضة عن إنتاج معادلة مقنعة تبشر بانتصار قريب، أو حتى بحل سياسي مقنع. وما ينبغي أن يقال هنا أن بعض الخطاب الذي نسمعه عن انتصار الثورة بعضلاتها الذاتية لا يبدو مقنعا، ولاسيما بعد أن تحولت إلى حرب فعلية، إذ ليست ثمة ثورة مسلحة يمكنها الانتصار إذا ما أحكم الحصار حولها، مهما قويت إرادة القائمين عليها، فضلا عن أن تعاني مما عانت وتعاني منه الثورة السورية من تفكك وشرذمة. وفي حين يمكن القول إن مراهنة النظام على عسكرة الثورة وتقريبها من المشهد الأفغاني قد أربكته ردحا من الزمن وجعلته يترنح ويقترب من السقوط، فقد جاءت جملة التطورات التالية لتغير المسار وتجعله أقرب إلى القناعة بإمكانية بقائه، أقله كنظام، إن لم يكن كرئيس وعائلة حاكمة. نفتح قوسا هنا لنشير إلى عبثية الخطاب القومي واليساري (بعضه طائفي)، ومعه خطاب إيران وحلفائها الذي يتحدث دون كلل أو ملل عن المؤامرة التي يتعرض لها نظام المقاومة والممانعة من قبل الهجمة الإمبريالية الغربية والصهيونية، وهي هجمة لم يعد هناك ما يشير إلى وجودها، مع أن دعم العالم للثورة السورية لم يكن ليسجل بوصفه إدانة لها، لأن السوريين حين خرجوا إلى الشوارع يطلبون الحرية لم يكونوا تبعا لأي أحد، بل فاجؤوا العالم أجمع شرقه وغربه. اليوم، لا يمكن لمنطق أن يقول إن النظام يتعرض فعلا لمؤامرة بقدر ما يتمتع بتواطؤ دولي، ويبدو أن الفكرة التي اشتغل عليها ممثلة في تخويف العالم من الحالة الجهادية الإسلامية قد بدأت تؤتي أكلها، ولاسيما أنها جاءت معطوفة على مخاوف من الدول التي نجحت فيها الثورات بعد نجاح الإسلاميين اللافت في انتخاباتها الأولى، ولا تسأل أيضا عن حادثة بنغازي التي كانت علامة فارقة في المشهد، واليوم يضاف إليه ما يجري في مالي، وما ينطوي عليه من توافق دولي على الحالة الإسلامية «الجهادية» هناك، مع ربط ما يجري في سوريا بها، خاصة في ظل التركيز على جبهة النصرة، لكأنها الوحيدة الموجودة في سوريا أو لكأنها عنوان الثورة الأول والأخير. لا شك في أن جبهة النصرة قد سجلت نجاحات كبيرة العام الماضي في سياق مواجهة النظام، وكانت لها بصماتها الواضحة في الثورة، وهو ما زاد من قوتها وتأثيرها، لكن ذلك لا ينفي أن الأطراف الأخرى في الثورة ما زالت تشكل الغالبية، فضلا عن أصل الثورة ممثلا في الشعب الذي لا يمكن القول بحال إنه ينتسب إلى السلفية الجهادية وفكرها وطرحها في السياق السياسي والاجتماعي، حتى لو احترمها كحالة جهادية في مواجهة نظام مجرم، بل طاعن في الإجرام. اليوم يمكن القول إن لعبة التخويف من الثورة السورية قد حققت نجاحات كبيرة، ومن يتابع وسائل الإعلام الغربية لا يكاد يعثر إلا على جبهة النصرة والجهاديين الإسلاميين، بينما تغيب عن عمد غالبية شعبية صنعت الثورة ودفعت عشرات الآلاف من الشهداء قبل العسكرة التي جاءت لاحقا بسبب إجرام النظام، فضلا عن حقيقة أن الغالبية الساحقة من أعضاء جبهة النصرة نفسها قد أصبحت من السوريين أنفسهم. في ظل هذه الأجواء، بات مشهد الشكوك يحيط بالثورة من كل جانب، فيما يتمتع النظام بقدر كبير من الإسناد الروسي والإيراني الذي يقنعه بالقدرة على البقاء، ولاسيما أننا إزاء نظام ما زال يتمتع بدعم طائفة متماسكة إلى حد كبير (قام مؤخرا بتسليحها وعسكرتها بالكامل عبر ما يسمى جيش الدفاع الوطني)، إلى جانب أقليات خائفة من الثورة وزادتها الحالة الجهادية خوفا على خوفها، مع بقايا نخبة سنية ما زالت تعتقد أن مراهنتها على النظام هي أفضل للحفاظ على مكتسباتها، ولا ننسى هنا قادة الأكراد الذين يركزون على مكاسبهم الخاصة بعيدا عن مسار الثورة بشكل عام. وحين يتحدث بشار الأسد في خطابه الأخير عن بلد رأس العين بالاسم دون سواه، فهو إنما كان يتلاعب بمشاعر الأكراد، فيما كانت قواته تخلي مناطقهم عن قصد كي يتمتعوا فيها بما يشبه حكما ذاتيا، الأمر الذي أدخلهم في نزاعات مسلحة مع عدد من قوى الثورة. وفي ظل بقاء أغلب المدن تحت سيطرة النظام مقابل سيطرة الثورة على الأرياف، فإن مهمة الثورة تبدو بالغة الصعوبة في تحقيق الانتصار، ولاسيما أن هامش التنسيق بين قواها يبدو ضعيفا، بينما تبدي بعض القوى شكوكا في شقيقاتها، ويصل الأمر حد تبادل الاتهامات، مع حديث متواصل من البعض عن مشروعه المستقبلي بما يشي باقتتال على جلد الدب قبل صيده، وبما يعزز النزاعات الآنية التي تعيق الانتصار. يحدث ذلك في ظل غياب لافت لقوى المعارضة، بما فيها الائتلاف الذي حصل على شرعية دولية كبيرة ما لبثت أن تلاشت إثر عجزه عن تشكيل حكومة انتقالية رغم أسابيع طويلة من المحاولات، وفي ظل عجزه أيضا عن التواصل مع قوى الداخل وبلورة صيغة تنسيق حقيقية في ما بينها، دون أن نغفل عاملا مهما يتعلق بمطالب غربية منه عنوانها تبني خطاب تصالحي واضح حيال الكيان الصهيوني من الصعب على أحد قبوله. المشهد العربي والإقليمي والدولي يبدو بالغ الصعوبة، فتركيا تقدم للثورة الكثير، لكن السقف ما زال خاضعا لمتطلبات عضويتها في حلف الناتو، فضلا -وهو الأهم- عن تداعيات توسيع دورها على الوضع الداخلي في ظل مواقف الأكراد والعلويين، وهو ملف تلعب به إيران والنظام السوري في آن. عربيا، بات واضحا أن بعض القوى التي تساند الثورة قد أخذت تتلكأ في الدعم بسبب الموقف الدولي الجديد، من جهة، وبسبب مخاوفها من القوى الجهادية، من جهة أخرى؛ وحين يدعم بعضها التدخل الفرنسي في مالي بالمال، وربما أكثر من ذلك، فهذا يعكس حجم مخاوفها مما يجري في سوريا، وهي تبعا لذلك أصبحت أقرب إلى الموقف الغربي الذي يسعى إلى تسوية في سوريا لا تعطي مجالا لتمدد الإسلاميين، بمن فيهم المعتدلون منهم، فضلا عن المتشددين. وفي حين لا تتردد روسياوإيران في مد النظام بكل أسباب البقاء، فإن الموقف الغربي أصبح واضحا في دعمه لتسوية سياسية لا تمنح الثورة حتى نصف انتصار، فضلا عن انتصار كامل، ولا شك أن الموقف الإسرائيلي يبدو الأكثر تأثيرا كما كان من قبل، هو الذي يدعم استمرار الحرب لمزيد من التدمير، وصولا إلى تسوية تصنع وضعا سوريا بالغ الضعف بصرف النظر عمن يتصدره. وقد حدث ذلك بعد الاطمئنان لمصير السلاح الكيماوي بوجود فرق جاهزة للسيطرة عليه، فضلا عن بناء جدار مكهرب في الجولان يحمي الكيان الصهيوني من أي تداعيات غير محسوبة. في ضوء ذلك كله، لا بد من وقفة قوية من قبل قوى المعارضة بالتنسيق مع تركيا والقلة من العرب المخلصين في دعم الثورة، إذ على هؤلاء جميعا أن يتقدموا خطوة إلى الأمام عبر تدخل مباشر وأكثر قوة في ترتيب بيت الثورة وصولا إلى لملمة وضع المعارضة، مع قدر من الضغوط للجم القوى العسكرية بحيث تكف عن الاستعراض والحديث عما بعد الأسد بروحية السيطرة، لأن أمرا كهذا يهدد بضرب الثورة برمتها، ولا يستفيد من هذه الفوضى أي أحد، ولاسيما أننا إزاء ثورة حرية وتعددية وليس انقلابا عسكريا حتى لو تحولت بحكم الاضطرار إلى ثورة مسلحة. إن تلكؤ تركيا والعرب الداعمين للثورة عن التقدم خطوة كبيرة إلى الأمام على طريق توحيد الجهود من أجل إسقاط النظام، أو فرض تسوية مقبولة، سيعني مزيدا من سفك الدماء، وربما أفضى إلى قبول الدول المذكورة، بما فيها تركيا، لتسوية سيئة إذا يئست من إصلاح الموقف. ليست هناك قوى على الأرض إلا ولها مرجعتيها ومصادر دعمها، ويمكن تبعا لذلك التفاهم معها على كلمة سواء تجنب الثورة هزيمة سيئة، وتجنب الوضع العربي، وكذلك تركيا هزيمة أمام إيران، بدل أن تكون ثورة سوريا محطة لتحجيمها وفرض تسوية إقليمية وجوار متوازن عليها. لا بد من الإشارة هنا إلى البعد الشعبي للثورة، وهو بعد غاب إلى حد كبير في الشهور الماضية، الأمر الذي أراح النظام. وفي اعتقادي، استعادة الزخم الشعبي للثورة في المدن التي يسيطر عليها النظام عبر فعاليات سلمية ومبتكرة سيربك النظام ويشتت تركيزه، بل يمكن بمرور الوقت تجريب نظام الإضرابات وصولا إلى عصيان مدني، ولاسيما أن اقتحام المدن عسكريا سيعني على الأرجح تدميرها وتهجير السكان كما حصل في حمص. إننا على ثقة كاملة من انتصار الثورة مهما طال أمدها في ظل حاضنة شعبية جيدة، وفي ظل إصرار من الثوار، والأهم في ظل القناعة باستحالة العودة إلى حكم آل الأسد، فضلا عن تدهور الوضع الاقتصادي للنظام، وعجز إيران عن مزيد من الإسناد بسبب وضعها الداخلي المرتبك سياسيا واقتصاديا. لكن ذلك لا يمنع من النصح لجميع المعنيين بانتصار الثورة، من قوى سياسية وعسكرية، بحيث تجعل بوصلتها هي إسقاط النظام بعيدا عن جدل المرحلة التالية، والذي يفضي إلى نزاع وفشل لا يستفيد منه غير النظام.