الغربة والاغتراب من المفاهيم المتداولة في زمننا المعاصر بشدة، ولعل واقع الإنسان الآسن الذي يعيشه في عالم افتقد كثيرا من القيم الايجابية كالعدل والخير والحق والمحبة والتسامح، جعلته يعيش حالات حادة من الغربة والاغتراب، سواء كان مكانيا بالهجرة أو بالسفر للدراسة أو العمل، أم ذاتيا بالإحساس بالانفصال والفجيعة. وقديما قال التوحيدي: "إن الغريب الحق ليس ذلك الذي نأى عن وطن بني بالماء والطين؛ وابتعد عن أصحاب له وأحباء، وإنما هو ذلك الذي طالت غربته في وطنه، وقل حظه من حبيبه وسكنه". ولعل هذا أصعب اغتراب وأشده وطأة. والشاعر والأديب والفنان بصفة عامة، من أشد الناس اغترابا، لروحه الشفافة وطبيعته المرهفة، وتأمله وإصغائه لنبضاته ونبضات غيره، ولتطلعه الدائم بحنين واشتياق ولوعة أيضا إلى إحلال القيم التي يؤمن بها محل القيم السائدة، وكأن الاغتراب قدره. والفنان الأديب حسن المفتي رحمه الله ممن ألهبهم شعور التشظي والاغتراب، وظهر جليا فيما أبدعه من قصائد زجلية، تكشف أنه ليس شعورا مبتدعا اتباعيا وإنما هو حقيقة عاشها الشاعر منذ رحيله عن قريته بالحوز، وتنقله المكاني المستمر، ومنذ أن مسته لوثة الشعر والإبداع، واغترب في واقع مرير يصطدم به أنّى ولّى وجهه. ويعكس مظاهرَ الاغتراب في زجلياته بعدان أساسيان هما: الرحيل والغياب. البعد الأول الرحيل: قبل محاولة تلمس هذا البعد في زجليات المفتي، أشير إلى أن سفره وترحاله بين فنون متعددة من أكبر مظاهر الاغتراب الذي كان يعيشه، لأن القلق والتشظي والحزن لم يستطع أن يصبّها في جنس إبداعي واحد، فانتقل بين الفنون يجد في أحضانها بلسما وفيضا. يقول الشاعر معبرا عن عدم انتهاء سفره: "وأنا ماشي، من هذي سنين وأنا ماشي، والصبر ذاب وما كفاشي عديت صحرا ورا صحرا وأنا عطشان، لا بان لي ظل.. ولا خضرا ولا أغصان، وتمنيت حد يلاغيني، وفي درب جديد يمشيني، لكن يا خسارة ما جاشي" (من قصيدة وأنا ماشي). وفي تعبيره عن قلقه وغربته المستمرة يقول: "حاير.. مهموم، وشايف الدنيا رحلة صعبة، عايشها بلا رغبة، تالف من ديما وعطشان"(من قصيدة ذاتي). بل إن الشاعر يعلن أنه لا انتهاء لرحيله، ولا منجى من أحزانه ما دام الحال هو الحال دون تغيير أو إصلاح: "قلبي سفينة، والأحزان رياح، ترميني فين ما شاءت، وقتاش ما بغات خلاتني عصفور جريح، مقصوص لجناح، يطوي ليلو مه نهاروه، أسى وحسرات، والدنيا اللي حلم بها، لقاها سراب خداع، وكذبة بألف قناع" (من قصيدة حاشية خريف 2005). ويستعير المفتي رمز السندباد ليعبر به عن شعوره المستمر بالرحيل، ففي قصيدة سندباد يتساءل بلوعة: "فين الطيبة والمحبة.. والصفا والإنسانية، يا خسارة ما زالو بعاد يا قلبي يا سندباد..". الشاعر مهموم بالبحث والرحيل من أجل استرداد قيم غابت، وأسقطه غيابها في غربة دائمة. البعد الثاني الغياب: في انشداد الشاعر نحو الاغتراب، يبرز الغياب متسلطا على الواقع، فتغيب القيم الإنسانية زمان.. واه يا زمان كل ما فيك ضد الإنسان.. باعو الطيبة وقتلو الإحساس، واللي وجدانو كيغلبو، يا ويل قلبو" (من قصيدة آهة)، بل حتى الحلم يصبح مستعصيا غائبا، وكأنه زمنه لم يحن بعد، "مشيتي وما زال ساير، ف طريق لحزان، والحلم اللي تمنيتيه، وعشت كتنادي ليه فيه، وتبشر بيه، باقي يا عيني ما جاش، وغايب وما عرفتيش علاش" (من قصيدة:هاجس). ويصرخ محتجا على غياب الأمن والسكينة في واقع الإنسان، وقهره بالحروب والطغيان والتدمير: "مسكين إنسان هاذ الوقت، ما بين الطغيان والمقت، عايش يا حسرة مرعوب، جاو ليه تجار الحروب، خلاو الفتنة بركان، يتفجر ف ألف مكان، يحرق لخضر واليابس، ويدمر أمن القلوب" (من قصيدة احتجاج). وفي توصيف بلاغي يتغلغل في عمق المتلقي حتى يكاد يشعر بالبرد المنبعث من قساوة المدينة وإسمنتيتها المحجرة للقلوب: "مدينتي، شرفات برد فيها عشق الحياة، وفيها ذبل زهر الأفراح، ناسها أشباح الليل بلعهم وطواهم، والخوف سكنهم هاذي زمان.. ويمر زمان، وكفوفهم ديما مصلوبة، في عين السما، كتترقب غيمة يسرقوها، ويعصروها، يمكن تكون حبلى بالما، أو جاية تبشر بالطوفان" (من قصيدة مدينة منسية). ويتساءل بلوعة وألم عن غياب القيم الجميلة واستبدالها بقيم فاسدة: "كيفاش اللمسة تتبدل كلاب، ألم وعذاب، وهمس الحب يتحول بلا باب" (من قصيدة ندم). ورغم هذه الغربة والقلق والمعاناة، فإن بارقات الأمل تسكن طيات اغترابه، وتحد من ثقافة الاستسلام وعبثية الضياع، وأكبر دليل على ذلك مقطوعته الرائعة التي غناها عبد الوهاب الدكالي: "أنا والغربة ومكتابي عايش جوال، لا تقهرني بحور الشوق، ولا توقف ف طريقي جبال، رمال الصحرا عارفاني، وأرض الله، وصوت الحب ناداني، وتهت وراه، نتخطى الشوك ونوصلو، ما يرجعنيش". ولأنه مهموم بالواقع المحبط، فإن الفن عنده تبشير بالقيم وإشاعة لكل ما هو جمالي وإنساني، ويبدأ بنفسه مخاطبا قلبه، مركز كل القيم وكل الممارسات ومصدر كل تصورات وعلاقات: " يا قلبي إياك تتعلم إياك، خلي المحبة ترتيلك وغناك" (من قصيدة بلا ندامة)، بل هناك إصرار على فتح نوافذ الأمل والصمود ما دامت الحياة مستمرة، وما دمنا نصغي للكلمات النابضة بدلالات المحبة والتسامح: "ما دام الكلمة ف لساني كتتردد، ما دام النبض في عروقي كيتجدد، لازم نصمد" (من قصيدة إصرار). وهكذا يظل الشاعر مسكونا بغربته، مرتحلا في أعماق ألفاظه ودلالاته، حالما بقبس من نور يضيء العتمة ويبدد قوى الإحباط والأحزان، مؤمنا بقوة الكلمة وقدرها على طرد مشاعر الغربة، وإحلال مشاعر التوحد والتساند، وهاهي روحه الجميلة تخاطبنا بلغة شفافة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، مقيما في برزخ بين الفصحى والدارجة: "جيتكم يا صفوة الحباب، في حماكم ننسى العذاب، من حر الغربة نرتاح"، ويدعونا بتآلف ومحبة إلى معانقة الكلمة المسؤولة: "قدرنا نخلي الكلمة تنطق ننمرد.. وتقول الحق، تشق العتمة ولمواج" (من قصيدة عودة السندباد).