فى شكل جديد وبمضمون أكثر عمقا صدر عدد ربيع 2008 من مجلة "الشعر" المصرية التي يصدرها اتحاد الإذاعة والتلفزيون ويرأس تحريرها الشاعر"فارس خضر"، واحتوى العدد على ملف هام بعنوان" الشعر العراقي في الشتات" أعده الشاعر العراقى المقيم في دمشق" منذر عبد الحر"، ويعترف منذر أن الوقت لم يحن لكى نتمكن من الإحاطة بكل ملامح التجربة الشعرية الجديدة للشعراء العراقيين في المهجر لكنه يرى أن فرصة تقديم الملف في مجلة تصدر في مصر هي فرصة لا ينبغى إضاعتها حيث تمثل -على حد تعبيره- جسراً للتواصل بين شعراء العراق في الشتات والشعراء العرب ويشير على أن الملف يمثل إطلالة للقارىء العربى على باقة من الشعر المكتوب بلوعة وألم وإحساس صادق بالإضافة إلى الرؤية الفنية المتقدمة التي تجمع شعراءه المشاركين؛ كما احتوى الملف على مجموعة كبيرة تمثل كل التيارات، والحقيقة أننى أتفق تماماً مع"منذر" فيما ذهب إليه لأننا بالفعل لن نستطيع الإلمام بكل خصائص تجربة الشعراء العراقيين في الشتات قبل أن يمر وقت كاف لاستقرار تلك الخصائص وتبلورها لكننا بالتأكيد نستطيع أن نتلمس بعضها في القصائد التي بين أيدينا. ولعل الشىء الجدير بالفرح هو انه رغم كل معاناة الشتات والغربة، لم نلمح أثراً سلبيا لتشتت وجدان هؤلاء الشعراء وجاءت قصائدهم مسكونة بالحنين للوطن وبرهنت على دور الشعر الحقيقي في صيانة الوجدان ودعم الشعور بالانتماء، كما أثبتت أن الغربة لم تتحول داخل أنفسهم إلى قطيعة واغتراب، ففي قصيدته بعنوان "العراق" يقول الشاعر"عدنان الصائغ" المقيم في لندن :-"/ أخذتني المدينةلندن/ مالى أمر على جسرها فأرى نهر دجلة مختضبا/ والنخيلات مثقلة بالغياب/ ونحن نعرف أن جسر "لندن" من المعالم الأساسية لمدينة الضباب ولكن الجسر لا يثير في نفس الشاعر سوى الحنين لجسور بغداد ونخيل العراق. أما قصيدة" الغزاة" للشاعر "حميد العقابى" المقيم في الدانمرك فقد لامست واقع الاحتلال عبر استدعاء شخصية" زرقاء اليمامة"، وعبر الاستفادة من تراث المسرح الشكسبيري بتوظيفه لحيلة التنكر التي لجئ إليها جيش " مكداف" عندما حمل كل جندى شجرة من غابة "دانسنين" لكي تتحقق نبوءة الساحرات وأنا هنا لا أستطيع أن أرى العلاقة بين جيش" ماكداف والاحتلال الأمريكى وإن كنت أدرك أوجه الشبه بين "ماكبث" الطموح والمتمسك بالسلطة وبين الرئيس العراقى المغتال "صدام حسين" فكلاهما بطل تراجيدى بامتياز طبقاً للمعايير الأرسطية وكلاهما سقط سقوطاً مدوياً، يقول الشاعر"حميد العقابى: " / زرقاء لما تزل ترقب القادمين تقول:" أرى شجرا ماشياً"/ غير أنهم الآن يمشون ما بيننا/" نحن نعلم بالطبع قدر السخرية التي تنطوي على فكرة استمرار زرقاء اليمامة في التحذير من عدو قادم بينما العدو قد تغلغل بيننا ولكن زرقاء اليمامة مستمرة في أداء مشهد من الفصل الأول بينما نحن في نهاية الفصل الأخير من مسرحية الحرب. أما قصيدة الشاعر " على حبش" المقيم في سوريا فعلى الرغم من أن عنوانها" بلاد استدار لها الجميع" يوحى بنبرة سياسية زاعقة إلا أن القصيدة عبرت بمرارة عن تراجيديا الاحتلال التي شردت أبناء العراق وجاء تعبيرها فنياً ومبتعدا عن المباشرة الفجة التي أصبحت سمة للقصائد التي كتبت بعد الغزو، يقول الشاعر في مطلع قصيدته:-"/نتناسل في قنبلة ونلد أخرى ونسجل أبناءنا على جوازات السفر/ نتناسل بعيدا عن غرف النوم/ ونبصق على يوم زواجنا الأول ولا نلتفت للدموع/" وقد اتخذ الشاعر من حادثة تفجير الجسر الحديدى- وهو أقدم جسور بغداد في العام 2007، - رمزاً للشتات واللجوء القسرى، يقول " على حبش" عن الجسر الحديدى: "/ سقطت أشلاؤه في نهر دجلة واختفى لاجئاً في الخليج/" وبالتوازي مع تقنية التشخيص"personification التي يستخدمها الشاعر لكى يربط بين معالم مدينته وذاته، يقول عن نفسه :-"/ وأنا لاجئ في الحافلات والصحف/ أرتجف عند أول مخفر للحدود/ وأرتجف حين أسمع نشرة الأخبار/ وأرتجف حين يرن الهاتف/"، وهنا نرى كيف احتشد الشاعر ليجعل من كل التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية للاجئ معادلاً إنسانياً لسقوط معلم من معالم بلاده لأن تأمل القصيدة يجعلنا على يقين أن تفجير الجسر كان إيذانا ببدء تداعيات أخرى غير مادية ومن ثم ليس من السهل لتلك التداعيات أن تختفى، بعد ذلك يأخذنا الشاعر إلى عمق الفجيعة حين يباغتنا سؤاله الذى يعبر عن مأساة القتيل الذى لا يجد حتى النقالة التي يحمل عليها: "/ فهل هناك نقالة تتسع لى؟/ لعابر استبدل عاصمة الرشيد بالبحر/" فى ختام القصيدة يتكرر العنوان" البلاد استدار لها الجميع" ربما ليذكرنا بدور كل منا في سقوط بغداد وربما ليذكر العراقيين أنفسهم الذي يلقى اقتتالهم الداخلي ظلالا سوداء على قضية وطنهم ويشوه وجه المقاومة العراقية بوصمها بالإرهاب وبذلك يكونون هم أنفسهم قد ساهموا في جعل دعم تلك المقاومة أمراً بالغ الصعوبة وليصدق قول الشاعر محمود درويش هذه المرة أيضاً حين قال في حصار بيروت عام 1982 : "/ لا أخوة لك يا أخى / لا أصدقاء يا صديقى/" أما الشاعرة" وفاء عبد الرزاق" وهى مقيمة في لندن فجاءت قصيدتها "صدر التراب زجاج" مسكونة بجدل اللحظات العنيفة في روح العراقيين المهمومين بالبحث عن إجابات مستحيلة لأسئلة فرضها الموت القادم مع الحرب ،تقول " وفاء عبد الرزاق: "/ أنين النائحات أنا/ أم أنا الشهيدة القاتلة؟أمسكونة بالحق الباطل؟" ولعلنا نلحظ هنا تناقضات المشهد العراقى التي تستعصي على الفهم حتى بالنسبة للعراقيين أنفسهم والتي ساهمت إلى حد بعيد في تقديم مبررات مجانية للمتخاذلين الذين شكل صمتهم وتخليهم عن العراق قربانا يقدمونه للنظام العالمى الجديد لكى يحصلوا على درجة مقبول في الامتحان الذي فرضته الظروف الدولية عليهم بعد أن ساهموا هم أنفسهم إبان الحرب الباردة في خلق تلك الظروف بانحيازهم إلى أعدائهم. ولم يخل ملف الشعر العراقي في الشتات من القصائد ذات المضامين التي تعبر عن الحياة اليومية ولكن دون تجاهل للسياق العام للكليات التي تحكم تلك العوالم الصغيرة والتي فرضت نفسها على مفردات اللغة والرؤى التي تبنتها القصائد، ويحتوى الملف أيضا على أسماء كثيرة لشعراء مهمين مثل "فضل خلف جبر" المقيم في أمريكا" وخالص عزمى "المقيم في النمسا والذي مازال يكتب القصيدة العمودية ربما تمسكا بتراث الشعر العربى الكلاسيكى كونه يعيش مغترباً وبالتالى تصبح القصيدة العمودية بالنسبة له نوعاً من النوستالجيا مشوبة بقدر من الحنين لبلاد بعيدة تأن تحت وطأة الاحتلال. كما يضم الملف قصائد أخرى جديرة بالاحتفاء لا لكونها تثير تعاطفا مع قضية الشعب العراقى فحسب ولكن أيضا لكونها تتمتع بشعرية تستوعب قضايا الوجود الانسانى كله وتضيف إلى ديوان الشعر العربى الكثير، ويبقى أن نشكر مجلة الشعر على الفرصة التي أتاحتها للقراء والشعراء للإطلاع على ما أنتجته قريحة شعراء أحتلت بلادهم ولكن وجدانهم بقى حرا رغم كل شىء لأنهم ظلوا مسكونين بالبلاد التي أجبروا على الخروج منها إلى شتى المنافى إما بسبب الطغاة أو بسبب الاحتلال.