إذا كان النص الأدبي بناء فنيا لعالم تخييلي ممكن، رغم ما يمكن أن يتسلل إليه من مفردات الواقع وأشيائه، فإن الواقع هو عالم المرجع المادي والموسوعة الثقافية التي تخص جماعة بشرية معينة. وهذا الواقع عندما يتسلل إلى التخييل يتخلق بشروطه، فيفقد خصائصه الواقعية والمنطقية ليعاد بناؤه فنيا، وعجنه بماكينة التخييل العجيبة التي لا يعوزها السحر والإلهام في التشكيل بين قطع غيار من أنساق متباعدة. وعلة هذا الكلام ما يطرحه أحد مقالات كتاب "فصول في الأدب والنقد" لعميد الأدب العربي طه حسين والمعنون ب "رجعة أبي العلاء" من التباس في ضبط إيقاع العلاقة المفترضة بين الأدب والواقع. فالكاتب يؤاخذ العقاد صاحب المؤلف الذي اتخذه عنوانا لمقاله "رجعة أبي العلاء"، لكونه ينساق وراء التخييل دون أن ينطلق من معطيات الواقع وشروطه المسبقة، ليصير استلهام فضاءات مرجعية أجنبية وإعمارها بشخصية المعري التاريخية وتوابعها، أمرا محظورا في الأدب، لا لسبب فني جمالي ولكن لأن العقاد لم يزر هذه الفضاءات -كما فعل طه حسين- ولم يتجول بين أهلها ولم يطلع على أماكنها ليعرف حقيقتها العليا، وإنما اكتفى آثما بتمثلها انطلاقا من مقروءاته! يقول طه حسين: "وعند الأستاذ العقاد أدب وعلم وفلسفة؛ فقد ملأ يديك أدبًا وعلمًا وفلسفة، ولكنه لم يرحل إلى أوروبا ولا أمريكا فلا يستطيع أن يرحل بك ولا بأبي العلاء إلى أوروبا ولا إلى أمريكا، ينزل بك وبأبي العلاء في ألمانيا وفي الروسيا وفي السويد والنرويج والدانمرك، وفي بلاد الإنجليز وفي إسبانيا وفي أمريكا، ولكنه لا يريك من هذه البلاد شيئًا، ولا يظهرك ولا يظهر أبا العلاء إلا على بعض ما عنده من آراء أصحابها وبعض سِيَرِهِم. وينتهي بك إلى مصر، فيظهرك منها على طبيعتها الرائعة ونهرها الجميل؛ ذلك لأنه يعرف مصر، قد رآها رأي العين، فهو قادر أن يعطيك منها شيئًا، وهو أمين كل الأمانة، ولا يستطيع أن يعطيك من أوروبا ولا من أمريكا شيئًا؛ لأنه لا يعرفهما. أستغفر لله وأستغفر الأستاذ العقاد، بل لأنه لم يرهما رأي العين، ولم يلمم بهما إلا من طريق الكتب" (فصول في الأدب والنقد، ص26). إن المتأمل في هذه الأحكام النقدية لطه حسين، يدرك سلطة المرجع المتعالية على التخييل في تصور طه حسين، فالعقاد يحلّ له في أدبه استعارة فضاءات مصر لأنه عاش بها، دون أن يتجاوزها إلى فضاءات أجنبية لم تطأها قدماه. لكن العميد الممتلئ بذاته الحداثية وبصولاته في بلاد الفرنجة، يعود بعد أسطر قليلة ليُحلّ للمعري – موضوع كتاب العقاد- ما حرمه على العقاد من قبل، فهو يرى، في حكم مناقض لحكمه السابق، أن هذا الأخير تعامل مع نصوص المعري بظاهرية مبتذلة مشدودة لمرجعية الواقع بدل التعامل معها بوصفها تخييلا أدبيا قائما على التعبير والتصوير، فكان من نتائج ذلك أنه تأول خطأ بأن المعري ظل في أوان عزلته على صلة بالخمر وحنين إلى عهدها. يقول العميد: "وهو يرى أن الشيخ لعله قد ذاق الخمر في الأديرة التي أَلَمَّ بها، وهذا جائز؛ وجائز أيضًا أنه ذاقها في غير الأديرة حين كان يعيش عيشة الشعراء في الطور الأول من حياته، بل جائز أيضًا أنه قد ذاقها في بغداد حين كان يعيش عيشة الفلاسفة والعلماء، ولكني لا أحسبه شرب الخمر أو هَمَّ بشربها بعد العزلة كما يظن الأستاذ، وما أحسبه اشتاق إليها، وما أرى أن في شعره ما يصوِّر هذا الشوق، وإنما هي مذاهب الرجل في التعبير والتصوير، لا ينبغي أن تؤخَذ على ظاهرها"! (فصول في الأدب والنقد، ص26). وفي الأخير يحق لنا أن نطرح السؤال: هل النقد الذي يمارسه طه حسين هنا على كتاب المعري، نقد موضوعي وفق مفاهيم ضابطة وثابتة، أم أنه نقد انطباعي موجه ومتحيز، يراد به ترسيخ الرأسمال الرمزي المتفوق لدى عميد الأدب العربي؟