ويقول يوحنا قمير في هذا السياق أيضا «اللزوميات.. هي بَعدُ فنٌ جديدٌ في الفكر العربي، فن الشعر الفلسفي.. هي صدى حالات نفسية انتابت صاحبها، فكونت فلسفة اصطبغت بالشعر، وكثرت فيه المراجعات.. إنها قبل كل شيء صدى روح فكرت كثيرا، وشعرت كثيرا وشقيت كثيرا»، وبهذا يكون أبو العلاء شاعرا وفيلسوفا في نفس الوقت، ولهذا استحق بجدارة لقب «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء». لأبي العلاء المعري كتب أخرى غير اللزوميات في مجال الشعر والنثر، من أهمها كتاب «رسالة الغفران» وهو أجمل ما كتب في النثر، وتنبع أهمية رسالته في كونه سبق جميع كتاب العالم ومفكريه بالكتابة عن الآخرة بطابع روائي، تمكن فيه من وصف الجنة ونعيمها والجحيم بخيال أدبي جامح. وسبق المعري في عمله هذا دانتي الإيطالي في «الكوميديا الإلهية»، وسبق غوته و»شيطانه»، وسبق ميلتون الشاعر الانجليزي الأعمى في ملحمته « الفردوس المفقود « وسبق الكاتب الانجليزي الشهير فنسون أديسون في قصته «الحياة الأزلية» التي يصف فيها الآخرة بشيء من السخرية والنقد والتندر، وثمة مراجع كثيرة عالمية تشير إلى أن أفكار كل هذه الاعمال قد اقتبست عن «رسالة الغفران»، لأن رسالة المعري عُرفت مبكرا في أوروبا، وصلت إلى الأندلس، وترجمها الطبيب اليهودي ابراهيم الحكيم إلى القشتالية في عام 1264م قبل مولد دانتي بعام واحد، ومنها تم ترجمتها إلى اللاتينية والفرنسية القديمة، وإلى لغات أوروبية أخرى، وجرى تداولها في أوروبا. وقد بين في هذا الشأن المستشرق الاسباني الشهير ميجيلأسين بلاثيوس: «أن رسالة الغفران للمعري قد كونت أسس الكوميديا الإلهية لدانتي» واعتمد في قوله هذا على دراسة قام بها استغرقت ربع قرن، عرضها في كتاب له على امتداد 405 صفحات من القطع الكبير، نشره بمناسبة تعيينه عضوا في الأكاديمية الملكية الإسبانية في عام 1919، عنوانه «الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية» أجرى فيه مقارنة مركَّزة بين نصوص الكتابين (رسالة الغفران والكوميديا الإلهية) حدد على أساسها دلائل التشابه بينهما، كما بين أيضا دلائل كثيرة تؤكد على تأثر دانتي بأبي العلاء، وأنه قلد رسالته وأخذ عنها، وقد أثار هذا الكتاب ثورة كبرى – على حد تعبير عبد الرحمن بدوي – في مختلف الأوساط العلمية في العالم كله. والمستشرقون بوجه عام يشتركون في تقدير المعري ومدحه، يضعونه في مقام عالٍ بين شعراء العربية، من حيث أسلوبه ونظرته إلى الحياة والوجود، ويعدونه شاعرا للإنسانية جمعاء سبق زمانه ومكانه بعلمه وتفكيره وآرائه العقلانية. على المستوى العربي اعترف أغلبية النقاد القدماء بشاعرية المعري وتفوقه على الكثيرين من مجايليه، وهناك من النقاد من قلل من أهميته واتهمه بالزندقة والإلحاد، لمختلف آرائه الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس، وقد تصدى لهم بكثير من الحماس مجموعة كبيرة من المفكرين ومن علماء الدين انبروا للدفاع عنه ونفي هذه التهمة، ومن هؤلاء جمال الدين القفطي، وكمال الدين ابن العديم، وقد وضع الأخير كتابا عن المعري بعنوان «الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجني عن أبي العلاء المعري « اتهم فيه حُساده بوضع أقوال ملحدة على لسانه وإخراجه عن الدين. ولعل أهم دفاع عن المعري قدمه الإمام الذهبي المتوفى عام 1346م، وتتلخص شهادته بقوله «كان المعري في الجملة من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب، وله في التوحيد واثبات النبوة، وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة…». ويعتبر طه حسين أكثر من دافع عن المعري في الزمن الحديث، كان يشعر أنه ظله على الأرض، يرافقه في كل مكان، ولهذا كرس له رسالته لنيل أول شهادة دكتوراة تُعطى من الجامعة المصرية في عام 1914، وخصه أيضا بكتابين آخرين، وكان يتحدث عنه في مجالسه دون توقف، ويعلن دوما أنه يعيش آلام نفس المعري المتقشفة، يتحسس مرارتها ويتقمصها في بعض اللحظات. وتعرض في كتاباته عنه إلى الجانب الديني بقوله «أبوالعلاء صادق فيما يقول فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله ويتقي سخطه، كُتبه نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، ولكن أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون». قال عنه نبيل الحيدري صاحب كتاب «أبو العلاء المعري ثائر»: « أنصفه الكثير من الكتاب والأدباء والمستشرقون فيما بعد، فعدّوه فيلسوفاً عالمياً سبق زمانه بآرائه العقلية والفلسفية والأخلاقية والسياسية والدينية. ما مر فى هذه الدنيا بنو زمن ... إلا وعندى من أخبارهم طرف.