مقدمة تمهيدية صورة غلاف: كتاب السُّلَّم المُحَمّدي لقد كان المبرر والحافز الأساسي الذي دفع بنا إلى القيام بهذا البحث المتواضع، هو رد الاعتبار للتراث العربي الإسلامي وتبيان مدى الأمانة العلمية، التي كان يتحلى بها العلماء المسلمون، في تحقيق مصادرهم الأجنبية، التي كانوا يتعاملون معها. بالفعل لقد وصل إلى ديار أوربا، بل إلى رحاب المعمورة المتمدنة آنذاك، خلال العصور الأوربية الظّلامية الوسطى، التي كانت تعادل ما يمكن بتسميته لدى المسلمين ب" العصر الذهبي الإسلامي"، جزء لا يستهان من هذا التراث إن لم نبالغ قائلين، بل مجمله. ولقد عمل هذا الكم الهائل من الأعمال الأدبية منها والعلمية، على دفع عجلة التاريخ البشري نحو الأمام. ولقد حصلت من جراء هذا التأثير، أن ازدهرت مدنيات متعددة حول البحر الأبيض المتوسط، خصوصا في البلدان الأوربية التي كانت تقع في جوار رقعة جغرافية ما كان يسمى ب"دار الإسلام". ولقد كانت أوربا المسيحية، هي المستفيد الرئيسي من قيمة هذه البحوث والنتائج العلمية والأدبية، في دفعها نحو مستقبل مزدهر ومتنور. لكن للأسف الشديد، ونحن نتحدث عن أوربا القرون الوسطى وما بعدها، وما حظيت به من عطاء عربي إسلامي، في تتمة بناء الحضارة البشرية، نصطدم بجدار ذاكرة فولاذية، مصابة بداء مرض النسيان المتعمد. و إننا لنتساءل عن مدى قيمة الأمانة العلمية لدى هؤلاء. نعم هؤلاء الذين تنكروا عمدا، لهذا المكسب الحضاري، ولأمانة أساتذتهم المسلمين، وراحوا ينسبون باطلا لأنفسهم تارة، وللإغريق والرومان تارة أخرى، مدى ما حققوه من ازدهار وتقدم، في ميدان البحوث والاكتشافات العلمية. بل لغاية يومنا هذا، وقد وضعنا أقدامنا في مستهل القرن الواحد والعشرين، ما نزال نصطدم بهذه الأنانية الغربية، التي ما تزال بغرورها المعهود، مصرة على تفسير وقيادة المسار البشري، عبر محورته حول مركزيتها الذاتية والعرقية. وهذا ما تنبه له مؤخرا عدد لا يستهان به من الباحثين الأوربيين من أمثال "طيوفيل كوتييه"، "آلان دي ريفيرا"، "بارطوليمي بن نصار"، "بوركات"، "جورج سارطون"، وغيرهم، وهم كثر. وبخصوص هذه الكراهية الوراثية، التي يكنها الغرب للعرب والمسلمين، يرى الباحث محمد أسد، بأنه قد نتج عن هذه العرقية الأوربية الأنانية،كرها للحضارة الإسلامية والمسلمين، ما يزال متفشيا وملموسا بشكل رهيب، لغاية يومنا هذا. وهذا الكره في تصوره، قد كان وليدا للخوف والانبهار في آن، من الآخر، الذي كان يتميز بتفوقه الحضاري عليه. ونسوق بالمناسبة، هذه المقولة المقتبسة من كتابه "في مفترق الطرق":" إن دمار إسبانيا المسلمة قد تطلب قرونا عديدة قبل الوصول إلى غايته. وبسبب امتداد هذه المقاومة الزمنية الطويلة، تبلور لدى أوربا الإحساس بمواجهة كل ما هو عربي إسلامي، وبقي منذ ذاك بشكل مستمر. ولقد ترتب عنه القضاء النهائي على مسلمي إسبانيا، الشيء الذي لم تعرفه أية أمة مدى التاريخ. ولقد قابل هذه البربرية إحساس بالفرح والافتخار، علما بأن النتيجة كانت القضاء على حضارة العلوم والتعايش، واستبدالها بالجهل وكبرياء القرون الوسطى". ويضيف الباحث محمد أسد معلقا على ما أسماه ب "شبه اعتراف أوربي"، ولكنه اعتراف قد جاء جد متأخر، بخصوص هذا النبراس الحضاري العربي الإسلامي قائلا:" بل حتى المستشرقين الأوربيين الأكثر نزاهة، قد وسخوا أنفسهم وأصبحوا بالمناسبة في قفص الاتهام بسبب الأكاذيب اللاّ علمية التي روجوها عن الإسلام". ونكتفي بهذا القدر ونعرض للهدف الرئيسي، الذي مهدنا له بهذه المقدمة التوضيحية. فبسبب هذا المسخ، وهذا التشويه المقصود للتراث العربي الإسلامي، ارتأينا أن نقدم للقارئ الكريم مجموعة من الدراسات والأبحاث، تتعلق بتبيين مدى تأثير هذا التراث الإنساني العربي الإسلامي الخالد، على مدنية الغرب ومفكريها. وستكون دراستنا الأولى هذه التي نضعها بين أيدي القارئ الكريم "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي "دانتي الليجييري" ومصادرها ومراجعها الإسلامية. بالفعل لقد تعرض بالبحث، لهذه "الكوميديا الإلهية" عدد لا يستهان به من الدارسين العرب، من بنت الشاطئ، لغاية زكي مبارك. ومنهم من رجح تأثر الأديب الإيطالي بالتراث الإسلامي، ومنهم من نفى ذلك. وملاحظتنا في هذه الأثناء، أن كثيرا منهم، قد حام وطوف حول الموضوع، دونما اختراقه بالبحث والشواهد المدققة. وهذا ما سنسعى طرحه من خلال هذه الدراسة. الكوميديا الإلهية بين السلم المحمدي وغفران المعري لقد كان مسقط رأس الشاعر الإيطالي الشهير "دانتي الليجييري" ب"فلورنسا" سنة 1265م والوفاة ب"راڤين" سنة 1321م. ولقد اشتهر عالميا بعمله الأدبي"الكوميديا الإلهية"، التي اخترقت سمعتها الآفاق، والتي ترجمت إلى معظم اللغات العالمية. ومما نعرفه عن هذا الإبداع الشعري الخيالي، الذي اصطلحنا على تسميته ب"الرسالة الإلهية"، وهو أنها قد ألفت ما بين 1307 و 1321م. وأنها كانت في بدايتها تحمل إسم "الكوميديا" فقط، استجابة للجنس الأدبي الذي بنيت عليه، والذي كان يتأسس على مبدأين: ينبني من جهة على أسلوب لغة دارجة، وسيطة، مفهومة من قبل العموم، ومن جهة أخرى، على النهاية السعيدة التي تتوخاها وتسعى إليها. ويعود الفضل للشاعر والأديب الإيطالي "بوكاس"، الذي جاء من بعد "دانتي" بنحو ربع قرن، في إضافة إسم "الإلهية"،لرسالة "الكوميديا" فأصبحت تعرف منذ ذاك الوقت، ب"الكوميديا الإلهية". والنص المرجعي الأساسي، لهذه الرسالة السماوية، المتواجدة بين أيدينا اليوم، يقوم بالأساس على طبعة "ليدوفيكو دولشِ" المنشورة سنة 1555م بعامية "فلورانسا". ونذكر بهذا الخصوص، بأن اللغة الدارجة التي حررت بها "الكوميديا الإلهية"، قد عملت على توطيد دعائم عامية "طوسكان"، كلغة إيطالية رسمية ناشئة. أما الجذور الحقيقية لهذه المحاولة اللغوية "الدّانتية" التوحيدية، فتتواجد بجزيرة "صقلية". وجزيرة "صقلية" هذه، التي كانت موطنا للعرب المسلمين، لما يقارب ثلاثة مائة سنة (منذ دخول الأغالبة السُّنّيين إليها سنة 827م لغاية سقوطها على يد النّورمانديين سنة 1091م). فقد شهدت تجربة أدبية ونهضة علمية منقطعة النظير، في ربوع أوربا القرون الوسطى. بالفعل لقد عاد هذا التراث الإسلامي بفضل كبير على بلد إيطاليا، التي لم تكن قد اكتملت وحدتها الترابية آنذاك. فأول محاولة للغة أدبية دارجة صريحة، كانت قد حصلت هنا في جزيرة "صقلية". وكان المؤثر والمولد الأساسي لهذه الظاهرة الأدبية، حسب المصادر الأوربية نفسها، ظاهرة شعراء الشعر الغنائي، الذين أطلق عليهم، في الأدبيات الأوربية الوسيطية، تسمية "طروبادور". وهؤلاء الشعراء يعرفون من قبل خبراء أدبيات القرون الوسطى، بكونهم عربا في الأصل وأن المصطلح اللاتيني "طروبادور troubadours"، هو في الأصل نقلا صوتيا للصيغة العربية "طَرَبُ الدّور". وكان يمثل هذه الظاهرة الغنائية، الشعراء المتجولين من أصول عربية أندلسية، إن لم نقل متوسطية، نسبة إلى مدن البحر الأبيض المتوسط المحيطة بأوربا ك: الأندلس و"صقلية"، و"مالطا"، و"قشتالة"، و"سردينيا"، و"كريت"، و"باليرمو"، و"تاورمينا"، و"ݣالياري"، و"قبرص"، والجزر الأخرى المحاذية لها. ولقد ازداد هذا التأثير، في "صقلية" وتوطد، خصوصا إبان حكم الملك الجرماني، الإمبراطور "فريدريك الثاني"، الذي عرف بتأثره الكبير بالثقافة العربية الإسلامية. ومن هنا، أي من "صقلية" بالذات، انتقلت هذه الشعلة الأدبية نحو وسط إيطاليا فشمالها، لتأثر على كل اللهجات المستعملة. وإذا صح التعبير، على كل المنوعات اللغوية العامية ذات الصبغة الرومانية والأصول اللاتينية، ك:"لومباردي"، "فلورانسا"، "طوسكان" و"البندقية". ولقد حققت بهذه المناسبة، ولادة ما أصبح يسمى آنذاك ب"الأسلوب الجديد". وهنا يظهر "دانتي" على الساحة، كمنظر لغوي لما سيصبح ب"العامية الفصحى". هذه التي ستصبح مع مرور الوقت، القاسم المشترك للشعب الإيطالي بأكمله. إذن فالفضل يعود ل"دانتي"، في وضع الحجر الأساس، للغة إيطالية وطنية موحدة، في زمن كانت اللهجات الرومانية تتقاسم جغرافية إيطاليا تحت سلطة لاتينية الكنيسة الرسمية، التي كانت تدعى ب"لغة النحو والعلوم والآداب". ونلفت الانتباه بأن إيطاليا القرون الوسطى، كانت تتكون من عدة أقاليم ومدن جمهورية، مستقلة كل منهما عن الأخرى. ويقول المؤرخ والباحث الفرنسي "هنري فوڤيت" بهذا الخصوص، بأن "دانتي" قد نظم "الكوميديا الإلهية"، بلغة عامية فصيحة، في قالب شعري ثلاثي القافية، بحيث أن قافية البيت الأول كانت تأتي مناسبة للبيت الثالث، وقافية البيت الثاني، ملائمة للبيت الأول من المجموعة الثلاثية، التي كانت تأتي بعدها. ولقد قسم "دانتي" رسالته الشعرية السماوية، إلى ثلاثة مجموعات غنائية: فصل في الجحيم، وثاني في المطهر وثالث في الفردوس. وجاءت كل مجموعة مشتملة على ثلاثة وثلاثين نشيدا، باستثناء مجموعة الجحيم التي استهلت بنشيد استفتاحي إضافي رمزا للواحد المطلق، ولقد جاء تصور هذه الكوميديا على الشكل الهندسي التالي: - مركز الأرض الثابت في وسط الكون، ومن حوله تدور السماوات السبع: - سماء النجوم الثابتة. - المتحرك الأول، ومن دونه يوجد موطن الآلهة. ويتواجد الشيطان الأكبر في وسط الأرض، تحت مدينة القدس، حيث يتمركز الجحيم. وتتفرع عن هذا الجحيم، خمس دوائر تتواجد عند مدخل المدينة الإلهية، وأربعة أخرى تقع خارجها. كما ثمة طرق تقود، من مقام الشيطان، بشكل معاكس، لمدينة القدس حيث يرتفع المطهر، الذي يشتمل على: - شط الجزيرة. - ما قبل المطهر. - والسطوح السبعة. وعلى قمة المطهر تتواجد جنة عدن. وهذا المطهر، يمثل مسرحا رهيبا، لكل من المتكبرين، والحاسدين وأصحاب الشره والنهم. لكن من أجل البلوغ إلى رؤية الإشعاع الإلهي، عليه أولا أن يتجاوز نهر النسيان رفقة المرشدة "بياتريس". وهكذا يصعد معها متجاوزا تسعة أفلاك. وهذه الأفلاك تأتي بعد: القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشترى، زحل، النجوم الثابتة، فالمقام الإلهي، أو سدرة المنتهى، حيث الإشعاع الإلهي. ومراتب هذه السماوات هي في الواقع الدانتي تمثيل للمراتب البشرية: أرواح بارة، أرواح خيرة، أرواح زاهدة، أرواح ذكية، أرواح شهيدة، أرواح عادلة، أرواح متصوفة، فمقام المسيح، ثم أخيرا، الإشعاع الإلهي. وتستهل هذه الرسالة الإلهية بالأبيات التي ينشدها "دانتي" قائلا:" حين وصلت إلى منعطف طريق الحياة، وجدت نفسي في وسط غابة قاتمة. لقد أضعت الطريق السوي، ولست أدري كيف وصلت إلى هنا. لقد كنت مثقلا بالسهاد، حين فجأة تهت وضللت طريقي...". وهكذا فسرت هذه الكوميديا من موقعها الخارجي، باعتبارها قصة رمزية تمثيلية لاعتناق "دانتي" للمسيحية من جديد، خروجا من حالة الخطيئة الأولى، عبر التضرع وطلب المغفرة، لغاية الوصول إلى حالة الصفاء والتحرر، من الأدران البشرية لرؤية الثالوث المقدس. وبالإمكان تلخيص هذه الرسالة السماوية بمجملها- متجاوزين لكل التفاصيل- فيما يلي: إن الوظيفة الأساسية للنص الشعري، الذي يؤسس مجمل بناء الكوميديا، بإمكاننا اختزالها في بضعة فقرات، فيما يتعلق بالمعنى الحرفي لها. فالشاعر "دانتي"، قد تواجد تائها في غابة قاتمة، وحاول عبثا أن يستدل على الطريق الصحيح. وفي حين حاول أن يتوجه صاعدا نحو تلة مشمسة، وجد نفسه أمام وحوش ضارية في وادي الظلال. حينئذ ظهر منقذ له في شخص الأديب الملحمي الإيطالي الشهير "ڤرجيل" صاحب ملحمة "الإنيادة". ولقد قاده كمرشد عبر طرق ملتوية نحو غايته. ولقد قاده في زيارة للمحكوم عليهم بالعذاب الأبدي في الجحيم، وصعد به فيما بعد، إلى جبل المطهر لغاية الفردوس. وهنا انتهت مهمته كمرشد، ليظهر مرشد ثاني في شخص "بياتريس"، هذه التي ستقوده من جديد، من سماء لأخرى لغاية جنة الخلد، ورؤية النور الإلهي. حين نتناول الأفق المجازي، والمعنى التمثيلي لهذا النص، فإننا نذهب مع عدد من الدارسين المحققين، الذي رأوا في الوحوش الثلاثة التي ظهرت في بداية الكوميديا، الرموز التالية: الفهد الذي يمثل الثراء، الأسد الذي يمثل الغرور والذئب الذي يمثل البخل. وهذه المواصفات مجتمعة، ترمز إلى الرذائل الثلاث، التي تعتبر الأساس والجوهر لكل العاهات. وبالعودة لشخصية "ڤرجيل" فإننا نرى فيه رمزا يمثل في آن، العقل الإنساني والإمبراطورية الرومانية المسيحية. وفي شخصية "بياتريس" رمزا للّاهوت وللكنيسة المسيحية المبعوثة من جديد. وتعرض هذه الرسالة السماوية فيما تعرض له، لعدة شخصيات تاريخية، وزعتها حسب رؤية "دانتي" الدينية، إلى مجموعات وثنية، وثانية إلى مسيحية منبوذة، وثالثة دينية مسيحية، مقبولة. وهذه الأخيرة، تعتبر تاج الخلاص، والحقيقة اللّاهوتية الكنائسية المطلقة. ولقد عرض "دانتي" في هذه السياق، لعدة وجوه عربية إسلامية، حكم عليها جميعها، بالإقامة في مراتب ودوائر جحيمه. ولسوف نتناول هذا الجانب من "الكوميديا الإلهية"، في العرض اللاحق، حيث تتجه نيتنا إلى مقابلة هذا النص الدّانتي، بالنصوص التي غذته، وربطه بالمراجع العربية الإسلامية، التي كانت من وراء إخراجه إلى الوجود الأدبي. المصادر العربية الإسلامية للكوميديا الإلهية المصادر العربية الإسلامية للكوميديا الإلهية لقد كانت وبقيت الكوميديا الإلهية ل"دانتي"، لغاية القرن التاسع عشر، تتمتع بخصوصيتها الأدبية النادرة والفريدة. ولقد كانت تتمتع وتحظى، في الوسط الأدبي الأوروبي، بطابعها الأدبي اللاتيني الرفيع، كمرجع أساسي للوطنية الإيطالية، والعبقرية المسيحية للقرون الوسطى. ولقد حظيت في الوقت نفسه باهتمامات نقدية عديدة جعلت منها، أو حاولت إن صح التعبير، أن تكون نشيدا للإنسانية جمعاء، تلك التي سيحررها "دانتي" من جاهلية القرون الظلامية، لتصبح نبراسا للعقل المتحرر الآتي. وبهذا الخصوص، فإن نظرتنا لهذا الزعم "الإبداعي الخالد"، تختلف تماما، الشيء الذي سنوضحه بالتحليل والتبرير، في سياق هذه الدراسة وخاتمتها. ولنعد أولا وقبل كل شيء، في الشروع لتبيين المصادر والموارد التي استقى منها "دانتي" نموذج صور وأفكار "الكوميديا الإلهية". ومستثنين في هذه الأثناء المراجع الإغريقية واللاتينبة التي لعبت بالفعل دورا كبيرا في تطعيم الكوميديا بأبطالها الشهيرين وآفاقها "الأسطورية". بالفعل لقد بقي نصيب لا يستهان به من المصادر الحقيقية خفيا، لقرون عديدة، كما هي العادة فيما يتعلق بالمصموت عنه، داخل التراث الأوربي، لغاية ما فجّر، القس والباحث الإسباني "دون مݣيل أسين بلاسيوس، 1871-1944" قنبلة خطابية فيما يتعلق بالمسكوت عنه، حين أشار لأول مرة لمرجعية النصوص التراثية الإسلامية للكوميديا الإلهية. و"بلاسيوس" هذا يعد من المختصين الإسبانيين، بالمخطوطات العربية الإسلامية، الشيء الذي سنبينه بالتفصيل فيما بعد. وبعد وفاته تناول الموضوع في مستهل الخمسينات للقرن العشرين المستشرق الإيطالي "كيدو بللاتي ششولي"، في دراسة قيمة، ذكر فيها، على سبيل المثال، كيف وصلت ل"دانتي" "رسالة الغفران" المعرية. ولقد ذكر بهذه المناسبة، كسلفه "بلاسيوس"، ذاك الدور الأساسي الذي لعبه ملك قشتالة "ألفونس العاشر، 1221-1284" الملقب بالحكيم، في نقل التراث العربي الأندلسي ترجمة إلى اللغة القشتالية، والفرنسية القديمة في تلك الفترة. وعلى هذا الدرب نفسه، سار الباحث الفرنسي "رنيه ݣينون، 1886-1951" الذي أصبح يسمى ب " عبد الواحد يحيى"، بعد انخراطه في الطرق الصوفية، موضحا بتفصيل أدق، كيفية وصول النصوص العربية الأساسية، التي بنى عليها "دانتي" رسالته السماوية. وفي هذا السياق، تعرض لظاهرة النقل عند "دانتي"، وأوضح أهمية تأثير التراث العربي عليه. ولقد انتبه إلى هؤلاء الباحثين الغربيين، عدد لا يستهان به من الباحثين العرب، منهم المؤيد ومنهم الرافض، ومنهم من بقي في المنزلة بين المنزلتين. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: زكي مبارك، وشوقي ضيف، بنت الشاطئ، جرجي زيدان، وطه حسين. ولنعد من جديد للنخبة الأوربية للوقوف بنوع من التحقيق مع آراء "رنيه ݣينون". لقد تناول هذا الكاتب بالبحث، ظاهرة التصوف الإسلامي من ناحية، كما ظاهرة المذاهب الباطنية من جهة أخرى، تلك التي كانت متفشية في أوربا، خلال القرون الوسطى. وهو يرى، في اعتماد "دانتي" على "ڤرجيل"، في نشيده السابع من "الإنيادة"، إشارة مباشرة، لتلك الدوائر "الڤرجيلية" التي كانت حلقاتها السرية، متواجدة حقا، لدى بعض النخب المثقفة آنذاك. ويعزز هذه الإشارة، أو هذه الملاحظة، بخصوص الدوائر الباطنية، ما ساقه الباحث والمؤرخ الفرنسي "هنري فوڤيت"، في دراسة له وافية عن الكوميديا الإلهية، حين عرض بالشرح لمسألة الرموز الرقمية الثلاثية، ومضاعفاتها التي استخدمها "دانتي"، في بناء رسالته السماوية. أنظر المراجع التي وثقناها بهذا الخصوص، وكذلك بحثه الضخم " دانتي، مدخل إلى دراسة الكوميديا الإلهية". وبالعودة من جديد إلى "رنيه كينون"، فإنه يرى اعتمادا على أبحاث "بلاسيوس"، بأن النص المرجعي الحقيقي الذي اعتمد عليه "دانتي" يتمثل بالأساس، في مؤلف محي الدين بن عربي، "كتاب الأسرار" بالإضافة إلى مجموعة محي الدين بن عربي "الفتوحات المكية". بل يضيف مرجعا نادرا آخر، ألا وهو الحكايات الشعبية الأندلسية عن مسألة المعراج، التي كانت جد متفشية في الأوساط الشعبية آنذاك. ومن جانبه، يقدم المستشرق "هنري كوربان"، المختص في ميدان التصوف الإيراني بشكل خاص، معتمدا هو الآخر على نتائج " أسين بلاسيوس"، المقارنة بين الكوميديا الإلهية والمراجع الإسلامية. و" أسين بلاسيوس" كان قد أوضح في كتابه "كوميديا دانتي والمصادر الإسلامية"، أوجه الشبه المتعددة، التي تتفق في الشكل كما في المضمون بين هذه وتلك. وهذا بالتغاضي مؤقتا، على كل من الآثار، أو المقاطع، الواردة في كتبه الأخرى، ك"الوليمة" و"الحياة الجديدة". ومن أوجه المقارنة هذه نسوق مثلا: - فيما يتعلق بالحكايات الشعبية، ثمة كتاب قديم لمؤلف عربي مجهول، كان قد ترجم إلى اللاتينية في (القرن الثاني عشر)، قد خرج إلى الوجود مؤخرا، تحت عنوان " كتاب سُلّم محمد" وترجمته الفرنسية نقلا عن اللاتينية متوفرة لدينا الآن، أم الأصل العربي فمفقود، وهو يعزز أطروحة "بلاسيوس". - ومما سقط من مقدمة هذا الكتاب المطبوع أخيرا، وبقي في نصوص قديمة أخرى، نقف على حيوانات تعترض طريق حاج، وتتمثل في أسد وذئبة. (فيما يتعلق بالنص الشعبي) - في مستهل الكوميديا الإلهية، تعترض المسافر الراوية ثلاثة حيوانات: أسد وذئب وفهد. - ڤرجيل بعث كمرشد ل"دانتي" كما بعث جبريل كمرشد للنبي محمد ( ص). - الجحيم قد ورد في النصين المذكورين أعلاه بشكل متماثل، كتصوير الجحيم على شاكلة خزان عميق يتألف من أطباق وأدرج دائرية. - كل طبق ينقسم بدوره إلى أطباق أخرى، لتصل أخيرا إلى الجحيم المتواجد تحت مدينة القدس في النصين. - وللخروج من الجحيم من أجل الصعود نحو الفردوس، يعمد "دانتي" من أجل ذاك إلى ثلاثة أنواع من الوضوء، وهو الوضوء نفسه الذي تعتمده الحكاية الإسلامية، معرفة إياه كوضوء روحي من أجل التعريج إلى الفردوس. - في كلا النصين: نقف على امرأة تعترض طريق الرسول محمد في النص العربي (وهي رمز للإغراء الدنيوي) وأخرى تعترض طريق دانتي في سفره، تمثيلا للإغراء نفسه، الذي اشرنا إليه. - الحراس الذين يستأذن منهم، في الدخول إلى الجنة أو النار، يتواجدون في النصين. - إن السلم الذهبي الذي نجده في الكوميديا ذاك الممتد من "زحل" إلى السماء الأخيرة، هو السلم نفسه "المعراج"، الذي يعرضه جبريل في النص العربي للعروج إلى السماوات. - إن هندسة الأجواء السماوية، التي تتم عبرها رحلة المعراج، تتواجد هي نفسها، وبنفس العدد، في كلا النصين. - كلا النصين ينتهيان عند سدرة المنتهى، بحضرة النور الإلهي الشعشعاني. - ثم يختم ملاحظاته عن تواجد عدة وجوه من المفكرين والعلماء المسلمين، في كلا النصين قائلا:" وكل هذا التشابه ليس محض صدفة". - وأخيرا إن المعنى التمثيلي في الرسالتين يتلخص في المعنى الأخلاقي، وهو يشير في كلا النصين إلى أهمية إحياء الروح وتطهيرها، وملخص الرحلة وسعادتها، تكمن في معرفة الله. لقد كانت هذه المقابلة النصية، هي أول مقارنة عقدناها عبر الملاحظات القيمة التي أدلى بها "رنيه ݣينون". وحتى لا نقف عند هذا الحد، ولو حدا بنا هذا البحث، إلى تكرار بعض الشواهد والملاحظات هذه، التي سبق لنا وذكرناها، في معرض هذه الدراسة. ولسوف نعمد من جديد، إلى نص آخر للمستشرق الإيطالي، المختص في المخطوطات العربية والأدبيات الإسلامية "كيدو بللاتي" حول ما سماه في بحثه ب"الحضور الإسلامي ومؤثراته في أعمال دانتي الليجييري". ويرى هذا الباحث بأن الإسلام يؤكد حضوره، في مجموع ما أنتجه "دانتي" من مراسلات، ورسائل شعرية. ويرى بأننا نقف في الكوميديا الإلهية، على اسم رسول الإسلام، وأسماء رجال حكومة ورجال دين، كما على رجال أدب وفلسفة وعلوم من أمثال: "الرسول محمد، وعلي بن أبي طالب، وصلاح الدين الأيوبي، وابن سينا، وابن رشد. كما نقف له في مصادر أخرى، من أمثال "الوليمة"، على أسماء شخصيات إسلامية ك:" العالم الفلكي أبو المعاشر، والعالم الفلكي الفرغاني، والعالم الفلكي البطروجي. ومن مجموعته المسماة ب"الرسائل"، والتي يستهلها بالتهنئة لوصول الملك "هنري السابع" إلى إيطاليا، نقف له على موقف افتخاره بهذا القادم الجديد، الذي يأمل فيه أن يخلص أرض إيطاليا من كل تواجد عربي. ثم يعرض لتلك الوجوه التي سبق وأشرنا إليها في الرسالة السماوية، ويخلص منها ليتوقف عند تلك الأزمة المباحثية الممتدة ما بين 1919 و 1949. ويعرض بالمناسبة، من وجهة نظره الخاصة، لتلك الضجة التي أثارها الباحث الإسباني "دون ميݣيل أسين بلاسيوس". ويذكر بهذا الخصوص، مؤلفاته الهامة المتعلقة بهذا الموضوع، ك"المظاهر الإسلامية للجنة والنار في الكوميديا الإلهية" وكذلك "الإسلام المُمَسّح" و"دانتي والإسلام" و" تاريخ ونقد للجدال". و"بلاسيوس" كان قد أخرج أول أعماله سنة 1919، والثاني السابق الذكر سنة 1929. وبالفعل لقد أثارت هذه الدراسات المستحدثة على الساحة النقدية التراثية، ضجة كبرى لدى المهتمين. وإذا صح التعبير، نقول بأنها قد أثارت ردود فعل كبيرة في أوربا عموما، وإيطاليا بوجه خاص، في هذه المرحلة التي عقبت الحرب العالمية الأولى، حيث كانت إيطاليا بصدد الاحتفاء بالذكرى المأوية لمفكرها الوطني الخالد "دانتي". ومن جديد يطرح المستشرق "كيدو بللاتي" مسألة تلك الحجج القاطعة، التي وردت عند الباحث "دون ميݣيل أسين بلاسيوس" عبر المصادر الإسلامية التي استند عليها ومنها: - القرآن الكريم كأصل ومصدر لقصة المعراج. - الأحاديث النبوية. - السيرة النبوية، لابن إسحاق والطبري. - حكايات المعراج المستقاة من القصص الشعبي. - كتاب الإسراء لمحي الدين بن عربي. - كتاب عالم الرجوع للأفغاني "حكيم سنائي" . - رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. - رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي. - قصص الأنبياء للثعالبي، التي ورد فيها، كل ما يتعلق بهذه التشكيلات السماوية وطبقاتها ودرجاتها، والواردة أيضا في"كتاب السلم المحمدي. وكل هذه الكتب كانت متواجدة ترجماتها، قبل القرن الثالث عشر. وخصوصا أن المكتبة "الطُّلَيْطِلِيّة" التي كانت متواجدة تحت حكم الملك القشتالي "ألفونس العاشر" كانت تزخر بالنصوص العربية المنقولة إلى اللاتينية، والقشتالية، والفرنسية العامية آنذاك. ويرى هذا الباحث في ميدان الإسلاميات، بأنه من الضرورة بمكان، إضافة النصوص الشفهية المتعلقة بأدبيات المعراج، التي كنت شائعة في الأوساط الشعبية آنذاك. ويقصد التي ضاعت بسبب قلة وندرة الكتابة، في هذه المرحلة من القرون الوسطى الأوربية. وبخصوص هذا المصدر الشفهي يرى الباحث بأن "دانتي" قد يكون مما لا شك فيه، أنه تلقى شفهيا بعض هذه الروايات عبر أصدقائه الذين كانوا متواجدين بمملكة "قشتالة" وبالخصوص صديقه الشخصي "بنيتو لاتيني" الذي كان يشغل منصب السفارة، بين "الڤاتكان" و"قشتالة". وبالإضافة لكل هذا، هنالك من يمضي لغاية الافتراض بأن "دانتي" كانت له معرفة، ولو مبدئية، باللغة العربية. والدليل الذي يساق بهذا الخصوص، بعض المفردات كما بعض الأبيات الشعرية، التي وردت حرفيا في "الكوميديا الإلهية" بصيغتها العربية الصريحة، بأبجدية لاتينية. ونسوق منها على سبيل المثال لا الحصر: - "باب الشيطان، باب الشيطان غلب" (الجحيم 8 – 7 ) - "إرأف بي وامنع عذابي وألمي " (الجحيم 31 – 67 ) - "رفائيل معي يمشي بهذا العلم" (الجحيم 31 – 66 ) لقد كانت هذه مجمل الشهادات، التي فتحت باب إعادة النظر، في المستور عنه، من الأدبيات العربية، في طيات الوثائق الأوربية. ولقد عادت هذه الضجة من جديد، في مستهل الخمسينات من القرن العشرين. وكان باعثها هذه المرة، كلا من المستشرق الإسباني "مونيوز سندينو" والمستشرق الإيطالي "إنريكو شيروللي". فهذان الباحثان قد نشرا، وفي الوقت نفسه تقريبا، الكتاب الذي سبق وتحدثنا عنه في سياق هذا البحث، ألا وهو " كتاب السلّم المحمدي". ويعد هذا المؤلف، المُجَمّع الحقيقي للحكايات الشعبية، العربية الإسلامية، المتعلقة بأدبيات المعراج. ولنا منه نسخة حديثة حصلنا عليها، عن دار النشر "الأحرف القوطية". ونذكر القارئ الكريم بخصوص هذا الكتاب وما ورد فيه، بأن مسألة السلم السماوي، لم تكن محض اختراع للخيال الشعبي، وإنما انحدرت إليه عبر مصادر إسلامية موثوقة. ومن بين هذه المصادر، نسوق على سبيل المثال لا الحصر، بعض ما ورد في كتاب "الفتح الباري" ملخصا بقلم عبد الله حجاج، من كتابه "الإسراء والمعراج". فحسب رواية لمالك ابن صعصعة، " أن الرسول (ص) لم يمتط البراق للتعريج إلى السماء، وإنما تحقق له ذلك بواسطة "المعراج" الذي هو عبارة عن سلم، مثلما ورد في الحديث الذي رواه أبو سعيد والوارد في كتاب "الدلائل"، عن الشيخين: ابن عشاق والبيهقي. وإذا كان "إنريكو شيروللي" قد اتخذ موقفا سلبيا من "بلاسيوس" غير مقتنع بأطروحته فإن "مونيوز سندينو" من جهته، قد وجد في هذا المؤلف الأخير، الحجة القاطعة التي كان يفتقر إليها "أسين بلاسيوس". بالفعل لقد أعيد النظر في أطروحة "أسين بلاسيوس". وجاء من بعده، مشرفه "كارلو أوصولا" المهتم بأعماله، ليثبت صحة ما ذهب إليه أستاذه "بلاسيوس"، خصوصا، بالأدلة القاطعة التي وردت في كتاب "السلم المحمدي"، الذي تحقق نشره بعد وفاته. وساق من جديد دليل أستاذه في إشارته لشخصية "برينو لاتيني"، الذي كان سفيرا لجمهورية فلورنسا في إسبانيا، لدى الملك "ألفونس العاشر"، من فبراير لغاية سبتمبر من سنة 1260. وهو الذي ينعته دانتي ب "أستاذي" في كتابه "الكوميديا الإلهية (النشيد الخامس عشر من كتاب الجحيم). وترى الباحثة الإيطالية "مارية كورتي" من جانبها، بأن بنية "كتاب السلم المحمدي"، قد أثرت بشكل عميق في نفسية "دانتي" وفي تشكيلة "الكوميديا الإلهية". ونرى من جانبنا باختصار، بأن "الكوميديا الإلهية" في خطابها الديني الخفي، قد جاءت كرد فعل واع على الأدبيات المعراجية الإسلامية، التي سبقتها إلى احتلال موقع السماء، والسيطرة على فضاءاتها الروحانية باسم الإسلام ورسالة رسوله المحمدية الخالدة. ونكتفي بهذا القدر من التوضيح، ولسوف نحيل القارئ الكريم في ختام هذا البحث، إلى عدة مصادر ومراجع، كيما يكمل معلوماته بخصوص هذه المباحث المعارجية. دانتي في شبكة الغربال النقدي دانتي في شبكة الغربال النقدي لقد أصبح "دانتي" عبر الكوميديا الإلهية، بشكل خاص، وعبر رسائله ومنظوماته الشعرية الأخرى، رمزا للوحدة الوطنية الإيطالية. ولقد استغلته بالمناسبة، الواجهات الأوربية الغربية منها، على وجه التحديد، لتجعل منه المدافع عن المسيحية اللاتينية، في وجه خصومها بامتياز. ووجها للعبقرية الخيالية والفكرية "القروسطية" المفترضة. ولقد حظيت هذه الكوميديا في الأوساط الأدبية الأوربية، باهتمامات، ودراسات، وتفسيرات لا تعد ولا تحصى. إلا أن المهتمين بهذه الكوميديا، والحالة هذه، قد استتروا، وغيبوا طيّ النسيان، كل مصادرها الإسلامية المتعلقة بها. وبالفعل، لم يمط القناع عن هذه التسترات، إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. ولقد سبق لنا أن أدرجنا في هذه الدراسة، مواقف كل من "بلاسيوس" و"ݣنون" وغيرهم من المستعربين. وهمنا كان ينصب بالدرجة الأولى، على ما يتصل ويتعلق بأداء الأمانة الأدبية، التي كانت من وراء هذه الضجة "الدّانتية" الأخيرة. بل إنها قد فضحت من جديد، وبطرقة غير مباشرة، عدم أو بالأحرى انعدام الأمانة بشكل مقصود ومتعمد، لدى معظم الأدباء الغربيين. هؤلاء الذين كانوا يسطون على مخطوطات عربية عن دراية وعلم بقيمتها الوثائقية، ثم ينسبونها بعد تحريفها، أو استبدال منشئيها، إلى أنفسهم، وإبداعاتهم الخاصة. ولعل الخبيرة الألمانية "سݣرد هنكة"، في دراستها القيمة "شمس الله تسطع على الغرب"، كانت أكبر دليل، على فضح وتعرية، هذه الأنانية الغربية المرضية، حين أشارت إلى ذاك الكم الهائل من المصادر العربية الإسلامية التي اعتمد عليها الغرب، في النهوض بصحوته، والخروج من عصوره الظّلامية. لقد أشارت موثقة إلى مجموعة من المصادر العلمية، والفلسفية، والأدبية، والمدنية الحضارية، التي اعتمد عليها الغرب، انطلاقا من القرون الوسطى، إلى غاية النهضة الأوربية وما بعدها، في بناء مقومات آلياته الفكرية المعاصرة. وكذلك جاء موقف الباحث العلمي "ألدو بيللي"، في بحثه الضخم عن "المصادر والمراجع العلمية الإسلامية". وكذلك كان موقف، الباحث والفقيه اللغوي الفرنسي "تيوفيل ݣوتييه"، حين صرح في إحدى دراساته عن الحضارة العربية الإسلامية قائلا:" لقد تتلمذ العرب على يد أساتذة الإغريق، و تفوقوا عليهم، وأصبحوا فيما بعد، أساتذة لكل من جاء بعدهم". وبالعودة إلى "الكوميديا الإلهية"، نضيف قائلين، بأنه بالرغم من أن هدفها الأساسي، قد كان موجها، ومدفوعا بمحركات ودوافع دينية، إلا أنها في ختام المطاف، قد جاءت مخيبة حتى لهذه الرغبة الدفينة. وهذه الخيبة قد نتجت، عن طرح الكوميديا لمفهوم الإنسانية، في إطار متشائم وبئيس. وهذا التصور في حد ذاته، لم يكن سوى تعبيرا صادقا وصريحا للتصورات الكنائسية السوداوية في تلك الفترة. خصوصا حين وضعت الإنسان، موضع الخطيئة البدائية، وحملته كل الشرور والرذائل والمخازي، التي بإمكانه اقترافها أو ملاقاتها، في مساره الدنيوي. وهذا بالذات ما حدا بالفيلسوف الألماني "شوبنهاور" بعد قراءتها، أن يصرح قائلا بصددها " إنها تمثل المظاهر الأكثر قرافة للرسالة الدينية". لأنه كان يرى فيها خاصة، وجوها للعنف والقسوة. وكذلك كان رأي الباحثة التاريخية، والأديبة الفرنسية "جاكلين رسيت"، التي قامت بترجمة النص الإيطالي إلى اللغة الفرنسية. فهي ترى في الكوميديا "صورة سوداوية لمصير، أو لما ستصير عليه الإنسانية في المستقبل". وفي هذا السياق، لو نحن توقفنا قليلا، لنقابل هذا التصور الدّانتي التراجيدي، بالتصور العربي الإسلامي، الذي ورد في "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، لأصبنا بالدهشة، مُباشَرَة. فشيخ المعرة، يقود في رسالته السماوية، صديقه ابن القارح، في جولة خيالية عبر فضاءات الجِنان والفراديس، والجحيم وجهنم، بأسلوب فكاهي ساخر، دافعه الأساسي اختراق مجاهل اللغة، بكل أسرارها وأساليبها وتقنياتها النحوية والبلاغية، وهدفه النهائي، هو تحقيق كل هذا، عبر كوميديا فكهة، إن لم نقل متهكمة ومستهزئة. وكل هذا لا يخلو من رحمة ومغفرة وتسامح، مع من كنا نتصورهم، من أهالي النار، وإذا بهم ينعمون بالخلد في الجنان الوارفة، بسبب بيت شعري أو اثنين قالوه في حياتهم الدنيوية. إن طابع التفاؤل، بل الدعابة واضح وجلي في رسالة المعري. وصاحبنا من جهته كموسوعة لغوية، راح يبين لنا من خلال خياله الجانح، عن مدى عبقريته اللغوية، وعن مدى اضطلاعه، وإحاطته بأسباب اللغة العربية، وفقهاء لغتها، وشعرائها، ونحوييها. بل بالإضافة لكل هذا، اهتماماته بغريب اللغة وقاموسها المتميز. وذلك بأسلوب مزدوج، نثري (سجعي)، وشعري مقفى، في منتهى الروعة الأدبية. والحوارات التي كان يجريها الشيخ مع سكان تلك الديار الخالدة، كانت تتميز بالسخرية أحيانا، وبالرقة والعاطفة والتأسف، أحيانا أخرى. بالفعل لقد لاقينا صعوبة، في قراءة "رسالة الغفران"، بسبب أسلوبها المحكم، ولغتها المغلقة على مفرداتها الغريبة، ومع ذلك فلقد وجدنا فيها متعة كبيرة، ونحن نجوب آفاق خيالاتها الأدبية الرائعة. وهي من هذه الناحية، تفوق "الكوميديا الإلهية" من حيث فضل سبقها لابتكار الموضوع، وابتداع فن أدبي حديث آنذاك، على الساحة الأدبية. وهذا التصور الأدبي المعرّي، هو بدوره، لا نتصوره إلا امتدادا للأدبيات العربية الإسلامية، التي مهدت له، وساهمت في إخراجه. ونحن نقصد، اعتماد المعري على الخيال القرآني أولا، الذي كان أول من تحدث بتمثيلات مدهشة عن عوالم الجنة والنار، بالإضافة إلى الأدبيات الفقهية الروائية التي استقت منه واستفاضت في تفسيره. فالقصص القرآني، بالإضافة إلى الأحاديث والسير النبوية، وأقاصيص الأنبياء، كلها تناولت نوعا ما، أحيانا باختصار، وأخرى بإسهاب، معجزة الإسراء والمعراج المحمدية. وهذا بالذات ما دفع بالباحث الإسباني "أسين بلاسيوس"، أن يشير إلى رسالة "الإسراء" للشيخ محي الدين بن عربي، كما للحكايات الشعبية، الدارجة آنذاك بخصوص هذه المعجزة المعراجية. ولقد اعتبرها المرجع الأساسي الذي استقت منه "الكوميديا الإلهية" مادة موضوعها الأدبي. ونضيف من جانبنا، بأن هذا الجنس الأدبي المتميز، نصادفه أيضا في رسالة أندلسية "التوابع والزوابع"، لكاتبها ابن شهيد الأندلسي. وهي فيما يبدو، حسب المحققين، قد سبقت "رسالة الغفران" في التأليف، إن لم تكن متزامنة معها. والأديب هو، أبو عامر أحمد بن عبد الملك، المولود والمتوفي في قرطبة ( 323 – 393 هج / 935 – 1003 م). ولقد شغل ابن شهيد منصب الوزارة، في ظلال الدولة العامرية. وهذه الدولة، تعتبر فترة حكمها، من أجمل ما تمتعت به الأندلس من عز ورقي. ولقد وصلت السيادة الإسلامية فيها على ما جاورها من أمم، قمة النفوذ الحضاري والعسكري معا. وكذلك كان شأن الأدب والعلوم، والمباحث الدينية، في هذه الفترة. ورسالة "التوابع والزوابع" هذه، قد تعد باكورة لإبداع خيالي منقطع النظير. وخلاصتها، أن ابن شهيد يقصد "بالتوابع"، الجن التي كانت تتبع الشعراء وتروعهم. و"بالزوابع" رؤساء الشياطين أو العظماء منهم. وتتلخص هذه الرحلة فيما يلي: انتقال لأبن شهيد، في رحلة خيالية إلى عالم الجن، حيث التقى بشيطان الشعراء والكتاب، ودارت بينهم مناظرات أدبية، خرج منها الكاتب المغامر، متفوقا على الجميع. وهذه الرسالة "الزوبعية"، إذا ما نحن طرحنا خيالها جانبا، قد نعدها خزينة وذخيرة، لموروث الأدبيات العربية الإسلامية، نثرا وشعرا. ونضيف بأن هذه النثريات الناضجة، هي من سيكون مستقبلا، من وراء ظهور الأدب الروائي "الدون كيشوطي"، في إسبانيا أولا، ثم في باقي أوربا لاحقا. وإلى هذا الحد نتوقف، ونشير بأننا نرى من جانبنا، قد استوفينا بحثنا بالدرس والتحليل. ولربما بقيت ثمة ثغرات، لم نستوفها حظها من الدراسة، أو نكون قد غفلنا عنها، أو لم ننتبه إليها. على كل حال، إن الموضوع شائك ويحتاج إلى تدقيق، وقراءات موضوعية، خارجة عن كل تحمس، أو انحياز عاطفي. ولهذا قررنا أن نقيد خاتمة هذا البحث، بالمراجع والمصادر الموثوق من صحتها، كيما نسهل للقارئ الكريم، الذي يتوخى مزيدا من البحث والتنقيب أن يقف عليها بسهولة.