يكتب عبد حقي بتلك الأبجدية المقدسة سيرته الأدبية، سيرته الذاتية التي يعدها ( شهادة تاريخية .. ص258) يحفز ذاكرته على الاستعادة، على استحضار صور مضت: (صور عديدة تحضر وتغيب عن صاحبنا اليوم وتنفلت من ثقب الذاكرة..ص51) يخصب عبده حقي سيرته بسرد كثير من المواقف الساخرة والعجائبية، ويثري هذه الاستعادات بتعليقات تعكس رؤاه، ويميل أحيانا إلى تقمص دور المحلل التاريخي والسياسي والاقتصادي لظواهر مر ويمر منها المغرب. وأحيانا أخرى تظهر سمات النقد والبحث الأدبي والتحليل النصي. صدر الكتاب بمطبعة بلال بفاس، وهو يتكون من 39 وقفة لكل وقفة عنوان ، في286صفحة من الحجم المتوسط. تجد في هذا الكتاب لمسات وصفية رائعة للمكان وللأشخاص (رأى شجرة السفرجل التي كان يسكنها القط الأسود وتتعانق في مشهد حميمي مع شجرة الدالية التي يتدلى فرعها مثل ذراع في أعلى باب البيت..ص22) أو (..وخرير الساقية لا يكف عن الحكي الليلي كأنها عجوز تحكي لكائنات الدرب في صمت الليل أقاصيص الحي الغريبة..ص31) أو(كانت الحديقة مشرعة على بحيرة الصهريج الرقراقة ..ترفل في أمواج الأصيل العسجدية المتلألئة كأنها قطعة من الفردوس الغناء .. من الله بها على مدينة مكناس..ص44) يحضر في سياقات هذا الكتاب كما العادة في النصوص السيرية البعد التوثيقي ( لأحداث سياسية وأدبية وحركات جمعوية..)، والخلفيات التاريخية التي ترسم ظلال وسمات الأحداث وتعطيها معانيها، كما تتداخل نصوص عديدة وتتجاور وتتفاعل منها الإبداعي الأدبي والشعري والقصصي والنصوص التعريفية والإحصاءات والشهادات وأسماء الشخصيات والمقالات والمقتطفات من الشابكة الرقمية، فضلا عن الحديث عن الأدب الرقمي وطرح عدد من الأسئلة. والكتاب زاخر بتأملات في الذات والوقائع والناس والأماكن والحياة. يقول عبده حقي: ختاما نحن جميعا قد نكون حاملين لآثار الضحية وقد نكون بدورنا قد أوقعنا آخرين ضحايا لنا .. أما مسلسل الحياة فهو بكل تأكيد مثل الشموع، هي حياة تخبو لتشتعل حياة أخرى .. وهكذا دواليك «وتلك الأيام نداولها بين الناس» ..ص274) ما الداعي إلى إصدار سيرتك الذاتية ورقيا وأنت من شيوخ العالم الرقمي؟ بداية أشكرك على مبادرتك الطيبة لإجراء هذا الحوار بمناسبة صدور سيرتي الذاتية (عودة الروح لابن عربي) وجوابا على سؤالك هذا فقد نشرت عدة كتب إلكترونية وبكل تواضع تعتبر تجربتي في مجال الإصدارات الرقمية رائدة على المستوى المغربي لكن إقدامي في هذه الانعطافة على إصدار سيرتي الذاتية ورقيا يعود بالأساس إلى خصوصية هذه التجربة الأدبية في تعالقها بما هو عائلي ومجتمعي ومن جهة أخرى بما هي قيمة مادية رمزية ومعنوية، كون كتابها الورقي يوثق بشكل مادي وأثري لتجربة وجودية واجتماعية وأدبية تعني بالدرجة الأولى عديدا من أقارب وأصدقاء الكاتب الذين تقاسموا معه كثيرا من محطات حياته من أحزان ومسرات وغيرها. السيرة الذاتية يعني تقديم الواقع والحقيقة، لاحظنا غياب حقيقة حياتك وتفاصيل ذلك عندما كنت بتوبقال، ما سبب هذا التغييب؟ أكيد .. إنني لم أقف طويلا عند تجربة منفاي بجبل (توبقال) بعيدا عن مدينة مكناس في بداية الثمانينات لأنها كانت تجربة قاسية لا تختلف من حيث أثر جرحها النفسي عن الإحساس بمرارة (الاختطاف) وقد كنت في ذروة عشقي للكتابة والإبداع الشعري ومن دون شك أنها حرمتني إن لم أقل أنها أقبرتني رمزيا وأسكتت صوتي وأنا في ريعان شبابي وعطائي الثقافي . ما رأيك في من يدعو إلى كتاب أسري يصلح أن يقرأ من طرف الجميع؟ هل سيرتك تقدم هذا الشرط؟ السيرة الذاتية جنس أدبي له شروطه السردية والجمالية والتوثيقية، إذ لا يمكن لأي شخص كيفما كان أن يكتب حياته من دون إلمام بالقواعد الدنيا للكتابة الأدبية بشكل عام ولهذا يلجأ عديد من السياسيين والفنانين إلى الاستعانة بكتاب أو صحفيين لكتابة سيرهم الذاتية .. ليس الهدف إذن هو تخطيط ورقي لمحطات حياتية إن كانت لا تختلف عن تجارب عامة الناس الآخرين فهذا الدور قد قامت به آلة التصوير في الماضي وتقوم به بشكل أنجع الهواتف الذكية في الحاضر، لكن الهدف بالأساس هو القيمة التاريخية والتوثيقية التي ستضيفها حمولة هذه السيرة الذاتية الأدبية إلى التراكم الأنطلوجي بشكل عام حتى تصبح مرجعا ومصدرا يعتمد عليه في الدراسات النقدية والسوسيوثقافية والشهادات التاريخية . ما الفائدة التربوية التي ترى أن كتابك يقدمها للشباب اليوم؟ ليست هناك فائدة تربوية بل هناك بورتريه لحياة شخصية توثق لمرحلة تلتقي في مداراتها عديد من الفوائد بل أقول عديد من الغايات سوف تقف عند محطاتها الأجيال القادمة لترى كيف عشنا وتستخلص العبر من ذلك. لا تعد كتابة السيرة عملا سهلا، فما هي صعوبات ذلك، إذا كنت متفقا مع هذا الرأي؟ – طبعا إن كتابة السيرة الذاتية من أصعب الأجناس الأدبية لكونها عملا انتدابيا ومفردا بصيغة الجمع ولكونها عملية حفر في أركولوجيا الذاكرة وآفة الذاكرة كما نعلم ثقوب النسيان إذ يستحيل القبض على كل التفاصيل لحظة بلحظة وأخيرا لا مجال فيها للانزياحات التخييلية. إن الكاتب باختصار هنا شاهد على عصره. ما حدود التماس بين السرد والعجائبي والواقع في سيرتك الذاتية، خاصة وأنك تورد فيها بعض الأحداث العجيبة؟؟ هناك طبعا خطوط تماس في سيرتي الذاتية بين الواقعي والعجائبي باعتبارها أحداثا فانتاستيكية، ليست من ضرب الخيال كما في رواية (مئة عام من العزلة) لكارسيا ماركيز وإنما هي صور غرائبية حدثت في الواقع وعشتها في مرحلة الطفولة . يبدو النص السيري المكتوب في "عودة الروح لابن عربي "مخضبا بشيء أو ربما أشياء من عالم الكتابة الرقمية، فتجاور النصوص وكثرة التضمين والتناصات واستحضار التعريفات يميل بالكتابة إلى سمات تقنية، تتوارى خلفها مباهج الأسلوب الجميل؟ – ربما .. لكن لم أعمد إلى هذه التقنية عن سبق إصرار وترصد وإنما أملتها مساقات تجربتي المتواضعة في النشر الإلكتروني والتفاعل اليومي مع العالم الإفتراضي. يصاب المتلقي بخيبة أمل ويسارع القراءة عله يجد ظلالا صوفية أو روحانية تذكره بأهل الشوق إلى الآخرة والسرور بكوثر الرضى..فلايجد شيئا من ذلك؟ صحيح فعنوان هذه السيرة الذاتية ماكر، لكن بشكل عفوي وإيجابي وقد بسطت في أحد فصولها سبب إختياره. هذه سيرة غير مكتملة ..فعبده حقي لاشك في جعبته المزيد؟ طبعا لا تكتمل السيرة الذاتية وتضع نقطة نهايتها سوى الشهقة الأخيرة والنزول إلى حافة القبر، وعموما إنني أمقت كثيرا تضخيم الذات والسرد النرجسي المجان . ربما هناك سؤال لم نطرحه ، كنت تتوقعه، ماهو؟ – سؤال لن أطرحه على نفسي بل على أصدقائي الذين تفضلوا بقراءة سيرتي الذاتية هو: أي صورة عني قد يركبونها في أذهانهم بعد إغلاق كتاب سيرتي الذاتية (عودة الروح لابن عربي) أم أنني مازلت كما كنت في مخيلتهم بالأمس؟