تمر العلاقات المغربية الفرنسية بفترة فتور مطبق تجسد في تراجع منسوب الزيارات بين البلدين، بعد شديد شروط منح التأشيرات للمواطنين المغاربة بدعوى رفض المغرب إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لاستعادة المهاجرين المغاربة غير الشرعيين، وهي ذريعة اعتبرتها المملكة غير مبررة لأن البلاد تعاملت بشكل عملي وصارم مع المهاجرين غير القانونيين. فيما أرخت قضية التجسس (بيغاسوس) بظلال "ثقيلة" على علاقات البلدين بعد أن اتهمت صحف فرنسية الرباط باختراق هواتف الكثير من الشخصيات الفرنسية والأجنبية عبر برنامج التجسس الإسرائيلي، وهو اتهام نفاه المغرب بشكل قطعي ورفع بشأنه دعاوى قضائية ضد عدد من وسائل الإعلام الفرنسية أهمها صحيفة "لوموند"، وموقع "ميديا بارت"، و"فرانس راديو"، وذلك بتهمة التشهير. الذريعتان المسببتان لمثل هذا الفتور لا أساس لهما وللحملات المغرضة التي تشنها وسائل الإعلام العمومية والخاصة ضد الرموز والمؤسسات الوطنية، بإيعاز من صناع القرار في فرنسا وعلى رأسهم الرئيس ايمانويل ماكرون الخاسر الأكبر في أي فتور أو تصدع في العلاقات المغربية الفرنسية. فلعلم الرئيس ماكرون، وهو من يعلم ذلك جيدا، أن بلاده تمثل الزبون الثاني للمملكة بعد إسبانيا، كما أن المغرب يعتبر أول وجهة للاستثمارات الفرنسية في القارة الإفريقية، وذلك بأكثر من 950 فرعا للشركات الفرنسية. وفي تأكيد لكل رؤساء فرنسا من شارل دوغول إلى فرانسوا هولاند مرورا بالرؤساء جوروج بومبيدو وجيسكار ديستان،وفرانسوا ميتران، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، على الطابع المتميز للروابط القائمة بين البلدين والإرادة المشتركة لبناء فضاء أورو متوسطي قوي، ما يفيد بأن فرنسا الماكرونية لا تقرأ جيدا التاريخ السياسي للبلدين، وهي على وشك القطيعة مع المحددات التقليدية للسياسة الفرنسية التي تجعل من المغرب نقطة ارتكاز أساسية في نفوذها بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الشرق الأوسط، حيث المغرب لعب على امتداد عقود دورا تواصليا هاما بين فرنسا والوطن العربي. وفي وقوف فرنسا منذ عقود، إلى جانب المغرب في المسار الذي اختاره لتحديث الاقتصاد وتكريس دولة القانون، ما يرسخ القناعة لدى المغاربة على أن فرنسا، أحب ذلك ماكرون أم كرهه، نظرت دوما إلى المغرب كمجال طبيعي لنفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في إفريقيا والمغرب العربي، بل تعتبره واجهتها الخلفية، وكانت مستعدة في عهد كل رؤساء فرنسا، لخوض أي صراع من أجل إبقائه ضمن فلكها حتى لو كان المنافس من حجم الولاياتالمتحدة التي تبحث عن موطئ قدم لها داخل دولة تستمد أهميتها الجيو إستراتيجية من موقعها كبوابة لإفريقيا ومن روابطها القوية مع منطقة الشرق الأوسط. وقد لخص الراحل إدريس البصري، الحضور الفرنسي القوي بالمغرب بقوله "لقد اشترى الفرنسيون كل شيء...ولا من بضاعة أو مؤسسة فلتت من قبضتهم".. وفي كلامه جانب هام من الصواب حيث فرنسا لم ترحل في واقع الأمر عن المغرب بعد إعلان استقلاله، بل وجدت فيه أرضا حبلى بالفرص الاستثمارية التي لا تحتاج أموالا ضخمة بقدر ما تعتمد على الجنسية والخبرة الفرنسيتين للاستثمار والربح السريع ضمن نسيج من الروابط والمصالح التجارية المشتركة تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية بأخرى إنسانية. ففرنسا من الناحية الاقتصادية، هي ثاني شريك تجاري للمغرب بعد إسبانيا، وأول مستثمر أجنبي، وأول مقترض، وأول مانح. وتحتل فروع كبريات البنوك الفرنسية العديد من شوارع الدارالبيضاءوالرباط ومراكش، وشركة "فيفاندي" الفرنسية هي التي فازت بأكبر صفقة في تاريخ الاتصالات بالمغرب، من خلال فوزها بنسبة هامة من أسهم اتصالات المغرب، فيما تعتبر شركة "أكور" الفرنسية إمبراطورية سياحية داخل المملكة، وشركة بويغ هي الأولى في مجال البناء، بعد أن فازت بصفقة بناء مسجد الحسن الثاني، وصفقة بناء ميناء طنجة المتوسطي، ومن المتوقع أن تفوز بصفقات أخرى قادمة. أما شركة "دانون" فظلت تسود بلا منافس في السوق المغربية لعدة عقود. تلك هي الصورة التي حرص ساسة فرنسا على تقويتها في مواجهة الزحف الاقتصادي القادم من الولاياتالمتحدة التي تحفزت منذ بدء حملتها على الإرهاب، لتكون فاعلا سياسيا واقتصاديا ناشطا في المغرب الذي يعد ركنا من أركان الامتداد الفرنسي لإفريقيا. وإذا كان من سبقوك من ساسة قبلوا، يا سيادة الرئيس ماكرون، باستحواذ واشنطن على مجمل المنطقة الشرق أوسطية التي لا يعتبرونها من أولوياتهم الجيوسياسية والاقتصادية، فإنّهم لن يقبلوا، مهما كلفهم ذلك، بأن يكون لواشنطن نفوذ قوي في منطقة المغرب العربي الذي تعتبر الرباط محوره الرئيسي. ولعلم الرئيس ماكرون أن الاهتمام الفرنسي بالمغرب، ليس اهتماما اقتصاديا واستراتيجيا فحسب، بل هو ثقافي وأمني أيضا. ففرنسا تريد الإبقاء على المغرب دولة فرنكفونية إن أرادت الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وهي من هذا المنطلق تعمل وفق قاعدة أن أحسن من يحافظ على مصالح فرنسا في المغرب العربي، هم المغاربة الناطقون بالفرنسية والمؤمنون بما يسمى قيم الحضارة الفرنسية. ومن هنا لا بد من توجيه إنذار مبكر للرئيس ماكرون مفاده أن فرنسا هي الخاسر الأكبر في أي تصدع في العلاقات بين البلدين. وتخلي الرباط عن فرنسا باتجاه واشنطن قد يكون له ما يبرره في الواقع الجيوسياسي الراهن حيث الاهتمام الأمريكي المتزايد بالمغرب والذي تزامن مع تسلل عدة شركات أمريكية بعد نجاحها في الحصول على امتيازات اقتصادية بدءا من توريد المعدات العسكرية إلى قطاعي الطاقة والفلاحة والصيد البحري وغيرها، فيه ما قد يهدد عدة شركات فرنسية. كما أن التدافع الأمريكي باتجاه المغرب في المجالات الاقتصادية (اتفاقية التبادل الحر)، والسياسية (اعتراف الولاياتالمتحدة بمغربية الصحراء)،والأمنية (التعاون في مجال مكافحة الإرهاب) قد يثيرمخاوف الفرنسيين من أن تخرج الرباط المحسوبة على خطّ الفرنكفونية من قبضتهم. فحذار السيد ماكرون من أن تنطفئ شعلة العشق بين المغرب فرنسا بقرارات المزاجية متسرعة قد تدفع الرباط إلى قطيعة فكرية وثقافية مع دولة موليير، تسير باتجاه استبدال اللغة الفرنسية باللغة الأنجليزية.