لطالما تأمّل الشّعراء ورجالات الثقافة والفكر والفن... في الحياة وفي عناصرها وحقائقها، وأيضا في وهمها وعبثها، وكانوا دائما يفلحون في إيصال فكرهم، وإحساسهم بأمور شائكة ومعقدة تتعلق بالكينونة والذات الإنسانية. ولكن، هل داهمتهم يوما فكرة أن تلفظ الطبيعة كلمتها من فوق أعلى قمم جبالها وشمسها ونجومها الثاقبة؟ هل احتسبوا يوما هول غضبها وثورتها على سلوكاتنا المعادية لبيئتنا الجميلة؟ هل فهموا أنه ليس بمقدورنا الاستمتاع بصحة جيدة وأمّنا الأرض عليلة... ولا يمكننا أيضا العيش في ظل مناخ بيئي نظيف ما لم نوقف عدواننا اليومي على كوكب الأرض، وما لم نقم بثورة حقيقية في طرق تفكيرنا وتعاملنا مع بيئتنا. لو كانوا فعلا دهاة عباقرة ذوي حنكة وبُعد نظر، لكانوا تهيّأوا وهيّأونا لاستقبال سلطان العبث الذي فاجأءنا بقدومه المباغث وتاجه المرصع الذي اقتحم علينا سماءنا، وماءنا، وأرضنا، وهواءنا.. حين أصدر إيميل سيروان Emile Cioran فيلسوف السخرية، كتابه "De L'inconvénient de l'Etre " (عيب الكائن)، هل فكّر ولو لحظة، في إمكانية فكّ لغز ضيف قد يزورنا يوما ما ليحير أذهاننا بوجوده السريالي القاتل ؟ هل شكك سيروان يوما في إمكانية زيارة ضيف فتاك قادر على أن يتمكن من أزماننا وأماكننا، وعقولنا وقلوبنا، بهذا الشكل؟.. وصمويل بيكيت Samuel Becket في "نهاية الحفل"، وفي "انتظاره"، في أسئلته العبثية عن الكيان والأنا والآخر، وعن الوقت واللحظة. هل حاول يوما الإمعان في غرابة ذلك الانتظار وتلك النهاية لدرجة استنتاج إمكانية الوقوف على قدوم شيء لا مرئي يقلب عوالمنا وحيواتنا رأسا على عقب. هل كان "غريب" ألبير كامو Albert Camus يوما أكثر انزعاجا ورعبا وحيرة منا نحن الآن؟ هل بكى يوما كما بكينا؟ هل تغنى بحزنه وضياعه كما نفعل نحن اليوم من وراء قناعنا الفاصل بيننا وبين الحياة والذي يحجب صوتنا ويمنعه عن البوح؟ وهل فكر الروائي فرانز كافكا Kafka هنيهة أن هراءه الجميل وشخوصه غريبة الأطوار، كانت ستندهش يوما من هرائنا وقولنا الملعثم عن الكورونا وامبراطوريته الشاسعة؟ هل تمكن عباقرة السوريالية من أمثال سالفادور دالي،وروني ماغريت، وروب غونزالفس من أن يشخصوا بريشاتهم وألوانها تاجا أحمق يحط فوق رأس غير مرئية ذات ضحكة ماكرة والتي تلعب بذيلها الحاد لترقص على لحن نهاية العالم؟. كل هذا الزخم الهائل من الكلمات والألوان والنوتات والمشاهد التي ذهبت بعقولنا ولا زالت، هل يضاهي قدرة ودهاء السيد كورونا؟ هذا البارع الذي أخذ وقته الكافي كي يتربع في عقور رئاتنا، ويخترق مسامّنا ويسافر عبر هوائنا ليعود منّا إلينا في جولاته اليومية التي يتقنها ويتفنن في اتساع دائرتها يوما بعد يوم؟ هذه الدائرة السريالية الفتاكة التي تمكنه من التحول والإبهار إلى حد الفتك بالمئات والآلاف؟ وإلى حد بعثرة أوراقنا كلها وإفشال خططنا وحساباتنا واعتباراتنا، وأيضا اعتباطاتنا التي بنينا على غرارها فلسفتنا البلهاء، وجعلناها معيارا أساسيا نزن به الجمال والقبح، والخير والشر، والمقدس والمدنّس، والأخلاقي واللاأخلاقي على هوانا وبموازاة مع مصالحنا أحادية النظرة؟. والآن، وفي هذه الشهور والأسابيع والأيام والساعات والدقائق الحرجة من عمر الكون، هل تحرّك شيء فينا؟ هل استوعبنا بعضا من اعتباطيتنا ولا وعينا؟ الم يحن الوقت كي نفهم أخيرا أن هذا الفيروس الذي صنعناه بأيدينا، هذا الفيروس الذي هو نحن، هذا الشيء الذي يقتلنا من داخلنا ومن حولنا، هو بمثابة ناقوس خطر ينادي فينا أن اهدأوا وتريثوا واصمتوا كي تفهموا ؟ هل نحن فعلا مهيأون للفهم؟ هل نسعى له؟ هل نريده؟ هذه الاستراحة العبثية التي تفتح أعيننا على ضآلة حجمنا، على ضعفنا وقلة حيلتنا، ألا تستحق منا أن نتأمل في أنفسنا، وفي مآلنا، وأن نترك لبعض الحكمة التي قد تتواجد فينا حق الانبعاث والظهور؟ أليس من واجبنا الآن أن نفكر بدل أن نثرثر بالسخافات؟، ألم يحن الوقت بعد كي نتعلم فن الإنصات لحقائق الأرض؛ لخضرتها ومائها المتدفق منها وفيها؟حقيقة السماء التي نحضنها وتحضننا؟ حقيقة أصوات الكائنات الأخرى التي نتجاهلها والتي قد نتعلم منها الكثير؟ ألم يحن الوقت لنقف وقفة إجلال لكل هذه العناصر من طير ونحل ونمل وكائنات صغيرة، ولكنها أكبر من فيروس سعينا جاهدين لاستقباله بحمق وجهل؟ متى نترك الطبيعة تحدثنا وتداوينا؟ متى نقف وقفة رجل ونصمد ضد جهلنا المتعشش أو المتعشعش فينا قبل أن يفوت الآوان ويأتي على أخضرنا ويابسنا؟....متى؟...