"كم كنت أتمنى لو يطول رمضان ستة اشهر أخرى بهذا الحي الذي أصبح أكثر أمنا وهدوءا من أحياء باريس الراقية".. بهذه العبارة لخصت لنا ماريا بلانتوار، إحدى ساكنات حي أتيس بالضاحية الباريسية وغالبيته من أبناء الهجرة المغاربيةوالإفريقية، أجواء الراحة والهدوء التي يوفرها شهر الصيام بمختلف الأحياء والضواحي الباريسية. "انظر إلى بعض هؤلاء الشباب الذين يجلسون على باب العمارة المقابلة لنا..إنهم يتناولون المخدرات طيلة السنة والبعض منهم لا يتردد في مقارعة الخمر، كما أنهم يستعملون في الغالب قاموسا لغويا حادا وبذيئا.. لكن عندما يطل شهر رمضان بنسائمه وعطوره المختلفة، يتحولون إلى ملائكة..لا خمر، لا حشيش ولا تمرد، قبل أن يعودوا للأسف إلى سيرتهم الأولى". والملفت في ظاهرة الانضباط والتدين لدى بعض شاب الضواحي ذات الكثافة المغاربية، أن معظمهم يتحولون خلال شهر رمضان المبارك بقدرة قادر، من بائعي مخدرات لا ينامون الليل في عملياتكر وفر مع الشرطة الفرنسية بين الحدائق وأبواب العمارات، إلى بائعي حلويات وتمور وسجاجيد بمداخل الأسواق وفوق العربات الراجلة التي يصنعونها خصيصا لهذه المناسبة. فبعد 11 شهرايقضيها بعض شبان الهجرة المغاربية في ممارسة شتى مظاهر التمرد ردا على سياسة التهميش والإقصاء التي تطالهم، تجدهم في رمضان متمسكين بتعاليم الإسلام، حريصين على أداء فريضة الصوم بما يقتضيه ذلك من اتقاء وإيمان. ولا يجد سليمان الباجي، حارس عمارة ينتمي لمنطقة القبايل المحتلة، وصفا دقيقا لهذا الانقلاب المفاجئ في سلوك وقناعة بعض هؤلاء الشباب الذين لا تسمع لهم، كما يقول، صوتا ناشزا من الكلمات البذيئة بالفرنسية التي تعودوا على تداولها بين بعضهم البعض في بقية الأيام، ولا تسمع مع بداية رمضان إلا كلمات: عفوا، تفضل، وأستغفر الله.. التي لا يستطيع البعض منهم نطقها بطلاقة لعدم إجادته العربية. ولن أبالغ إذا قلت، يتابع السيد الباجي بابتسامة عريضة، إن الشرطة في إجازة الآن بالضواحي ذات الكثافة المسلمة. وقد أولت مراكز استطلاعات الرأي بفرنسا اهتماما خاصا لظاهرة "العودة إلى التدين" خلال شهر رمضان المبارك، حيث اعتبر مركز استطلاعات الرأي (سي. إيس. أ.) أن 80% من مسلمي فرنسا فوق سن 18 سنة يلتزمون التزاما كاملا بصيام رمضان، فيما كشف آخر استطلاع لمركز إيفوب أن "نسبة الصائمين من الشباب تبلغ 77%. ويربط محمد الموساوي، الرئيس السابق المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهي أعلى هيئة إسلامية بفرنسا، ظاهرة العودة للتدين في شهر رمضان بشعور الأجيال بالانتماء وبأن لهم جذورا ثقافية هم في حاجة إليها في ظل الأزمات التي يعيشها المجتمع الغربي. ويرى أن الاحترام الكبير لشهر الصيام ظاهرة تفسرها عوامل عدة، أبرزها أن صوم الأجيال الجديدة من المسلمين التي تربت ونشأت في فرنسا، يعطيها إحساسا بالانتماء ويشعرهابأن لها جذورا ثقافية هي في حاجة إليها في ظل الأزمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع الغربي. وربما يكون رمضان المناسبة التي تظهر أكثر من غيرها الفارق بين هؤلاء الشباب وبين أصدقائهم الفرنسيين في الحياة العامة عن طريق امتناعهم عن الأكل والشرب والملذات، وهو ما يمنحهم هوية مختلفة يعتزون من خلالها بانتمائهم للإسلام وللحضارة الإسلامية. صحيح أن بعض الشباب المسلم في البلاد العربية مثلا يلتزمون بصيام رمضان رغم أنهم لا يؤدون فريضة الصلاة، إلا أن فريضة رمضان لها وقع مضاعف بالنسبة للشباب المسلم الذي ولد في فرنسا، لأنها تذكره ولو مرة في السنة بأن له دينا مختلفا وهوية ثقافية مختلفة عن غالبية المجتمع الذي يعيش فيه. والمتجول في في العديد من الأحياء ذات الكثافة المسلمة، كما في ضواحي العاصمة الفرنسية، مثل "لا بوبينيي، وكورناف" و "أوبرفيليي"، و"أونلي سوبوا" (الضاحية التي انطلقت منها الشرارة الأولى لانتفاضة الضواحي سنة 2005)، يلمس بقوة ظاهرة احترام صيام رمضان وتبجيله على غيره من الفرائض الأخرى. وعن تعلم اللغة العربية كشرط ضروري لتحصين الهوية وفهم تعاليم الإسلام فهما جيدا، فإن العودة إلى الذات والتي أصبحتظاهرة بين الشباب المسلم بفرنسا تتعلق أيضا بمظاهر أخرى مثل تعلم اللغة العربية الذي هو في حد ذاته مرتبط برمضان لرغبة هؤلاء الشباب في فهم ما يتلوه المقرئون خلال تراويح هذا الشهر الكريم. كما يلجأ هؤلاء إلى اقتناء الكتب العربية والخطب المسجلة التي تتحدث عن بركات رمضان وفضائله. ويرى الباحث الإسلامي، باتريك حايني، صاحب عدة مؤلفات عن الإسلام أهمها "ما قبل الإسلام"، في تنامي ظاهرة التدين لدىالأجيال الناشئة من مسلمي فرنسا، "ردة فعل" على المعاناة التي عاشها الجيل الأول من المسلمين في هذا البلد، حيث كانوا يمارسون عباداتهم في الخفاء خشية الاضطهاد. ويوافقه الرأي المفكر الإسلامي، محمد أركون، حينما يعتبر تمسك الأجيال الجديدة بهويتها بمثابة "ثأر" ضد الممارسات التضييقية التي تعرض لها آباؤهم من مهاجري الجيل الأول الذين كانوا لا يستطيعون المجاهرة بتدينهم، وكانوا يصلون ويصومون في الخفاء.