يصادف أن تلمح عيناك في بعض فضاءات باريس اللاتينية سيدة مسلمة متحجبة وبجانبها فتاة غربية نصف عارية تبدي بعض مفاتن جسدها الرشيق، والاثنتان تقدمان إشهارا لمواد تجميلية. ربما تعكس الصورة الإشهارية التفاوت القائم بين ثقافتين: غربية متمردة لا تولي أي اعتبار للموروث الأخلاقي والاجتماعي كمرجع أساسي في الفكر والسلوك، وأخرى إسلامية متشبثة بثوابت الهوية وترفض الاندماج في ثقافة غريبة عنها. والتفاوت الذي لا يجوز حصره في مجرد إظهار المفاتن أو حجبها، ينتهي في أغلب أحيان لصالح الفئة الأولى التي تنتفض بشدة على المرجعيات الأخلاقية وترفض الأخذ بالأنماط السلوكية البالية، رافعة شعار "الجسد ملك لصاحبه"، وله الحق في أن يدبره كيفما يشاء. والسبب في تفوق الفئة الأولى يكمن في الغالب في انبهار الفتاة المسلمة الأمية وغير المتعلمة على وجه الخصوص بأنماط الحياة الغربية، إضافة إلى ما يلعبه الإعلام الغربي من دور في فك الروابط الدينية والاجتماعية بين المرأة المسلمة وهويتها وإظهارها كامرأة مضطهدة محرومة من حقوقها. وقد أسهم الشحن الإعلامي (صحف، تلفزيون، سينما، مواقع إلكترونية..) في بروز فئة ثالثة من بنات المغرب العربي وبلدان عربية أخرى (مصر سوريا، لبنان..) ممن وجدن طريقة أسهل للعيش عبر الجنس، وتحررن، كما يزعمن، من "قبضة العادات المتزمتة وجبروت التقاليد البالية" ليقتحمن عالم البغاء من كل أبوابه. وأسواق الدعارة بالأحياء الباريسية اللاتينية وحتى الضواحي التي كانت تعج بالآلاف من بنات الفئة الثالثة، والفرنسيات والقادمات من أوربا الشرقية، تلقت منذ ظهور جائحة كورونا (كوفيد 19) وانتشارها، ضربة موجعة ألحقت كسادا كبيرا بدعارة الرصيف والفنادق والمراقص الليلية وحتى البيوت وصالونات التدليك التي تدر مليارات اليوروات سنويا على مافيا الجنس بشبكاتها السرية والعلنية. والمتجول في بعض أماكن اللهو والأرصفة الباريسية والمراقص الليلية وحتى في المحلات المختصة في بيع وتصريف مقتنيات الجنس وأشرطة الفيديو"السكس شوب" المتمركزة بكثرة في شوارع "سان ميشيل و"بيجال ، و"لامدلين"، لا بد وأن يقف على الحضور شبه المنعدم ليلا، والنادر نهارا لشغالات الجنس اللواتي يبعن أجسادهن من أجل المتعة والاسترزاق. ويجمع محترفو البغاء ومعهم بعض استطلاعات الرأي، أن تراجعا مهولا أصاب تجارة الجنس منذ ظهور الكوفيد اللعين. ساعتها أخذ الزبناء من فرنسا ومختلف الأقطار وخاصة آسيا ودول عربية وخليجية يهجرون أماكن البغاء بشكل كبير. أما صناعة الجنس المفروض أن تعوض الدعارة المباشرة، وتخص محلات تجارة الجنس، فقد ارتفعت نسبة الكساد فيها إلى ما يزيد عن 70 بالمائة في محلات "السكس شوب" الكبرى التي يرتادها الزبناء المحليون وأيضا من دول أسيا والبلدان العربية وتركيا على الخصوص. ويعاني شارع "بيجال" الذي يعد شارع البغاء بامتيز، حيث تصطف محلات "السكس شوب" على طول الشارع، من كساد قاتل دفع ببعض المحلات إلى الإغلاق في انتظار انفراجة قد لا تأتي. وتنرقب الكثير من بائعات الهوى ومن بينهن شريحة واسعة من دول عربية تراجعا في الحالة الوبائية للعودة على وجه السرعة إلى أماكن الهوى من فنادق وبيوت الدعارة ومراقص ليلية حيث الأجواء مواتية لاصطياد الفرائس واقتيادهم بعد انتهاء ساعات السهر للفنادق المجاورة التي يتراوح فيها سعر الليلة ما بين 400 و500 أورو. ويصعب معرفة عدد بائعات الهوى المغاربيات، ومعظمهن تدعين انتماءهن للصنف الأكثر دعارة بباريس وهو صنف الطالبات، إذ عدد الممارسات يتراوح ما بين 30 إلى 40ألف طالبة من جنسيات مختلفة حسب تقديرات المركز الفرنسي لردع التجارة الجنسية. وقد أخذت ظاهرة الدعارة الطلابية المغاربية أبعادا تحولت معها إلى حرفة للحصولعلى بطاقة الإقامة من جهة، ولكسب المزيد من المال من جهة أخرى. وترفض هذه الفئة اليوم العودة إلى وطنها خشية الإقصاء والضياع. وعلى خلاف بعض الدول الأوربية مثل ألمانيا وهولندا والبلدان الإسكندنافية التي تتعامل مع الدعارة كمهنة مقننة، تعيش فرنسا خلافات بين من يرى في البغاء نوعا من الاستغلال الذي يتعين تحريمه، ومن يرى فيها نشاطا مهنيا يقتضي نصوصا ترسم شروط وضوابط الممارسة. ومن هنا تتعامل معه السلطات من زاوية تضييق الخناق عليه وعلى مافيا الجنس بشبكاتها المختلفة التي فاقت أرباحها ستة مليارات أورو سنويا، حسب المركز الفرنسي لردع التجارة الجنسية. وكانت المغربية نجاة بلقاسم هي أول من عرض على البرلمان الفرنسي من موقعها كوزيرة لحقوق المرأة في حكومة فرانسوا هولاند، قانونا يحرم الدعارة خلف استياءا واسعا في أوساط المؤسسات المختصة في الجنس ولدى الكثير من الجمعيات النسوية التي خرجت في مظاهرة حاشدة تحت شعار "معاقبة الزبائن يعني اغتيال العاهرات".