ما من شك في أن شهر شعبان يشكل بداية موجعة للمقاهي والمطاعم الفرنسية التي يتراجع رواجها التجاري بنسب تزيد أحيانا عن العشرين في المئة، حيث الزبناء المسلمون، وعددهم بباريس والضواحي يفوق المليونين (80% منهم يؤدون فريضة الصيام)، يهجرونها بشكل شبه تام في هذا الشهر الذي يلحق أيضا كسادا كبيرا بدعارة الرصيف والبيوت والفنادق والمراقص الليلية التي تدر على مافيا الجنس بشبكاتها السرية والعلنية ملايير اليوروات سنويا. والمتجول بأماكن اللهو والمراقص الليلية وبمحلات "السكس شوب" المختصة في بيع مقتنيات الجنس والمتواجدة بكثرة في شوارع "بيجال" و"لامدلين" "ومونبارناس"، لا بد وأن يقف على الحضور المحتشم ليلا، والمنعدم نهارا، لشغالات الجنس العربيات اللواتي يتقاسمن مع الباريسيات ومع غيرهن من بائعات الجسد من أوربا الشرقية وآسيا وإفريقيا، "المتعة الحرام". وتجمع شهادات محترفي تجارة البغاء ومعها بعض الاستطلاعات التي تنشرها الصحافة الباريسية، أن تجارة الجنس بدأت تشكو من بعض التراجع قبل شهر من حلول رمضان عندما أخذ الزبناء من دول عربية وإفريقية وحتى آسيوية يهجرون أماكن البغاء بشكل ملفت. أما صناعة الجنس، وتخص محلات "السكس شوب" ، فقد ارتفعت نسبة الكساد فيها إلى أزيد من 30 بالمائة، وخاصة في المحلات التي يرتادها الزبناء من الجالية المسلمة ومن إفريقيا وبلدان المغرب العربي. ولأنه شهر ذو مكانة روحية متميزة في الذاكرة الإسلامية، فإن من مميزاته عدول شغالات الجنس المغاربيات والعربيات (مصر، سوريا، لبنان..) والمسلمات بشكل عام عن بيوت الدعارة والمراقص الليلية والأرصفة، وحرصهن على التوقف عن امتهان الدعارة بشكل شبه تام في هذا الشهر الفضيل. ويبدو شارع "لامدلين" الذي تصطف على جنباته محلات "السكس شوب" يمينا ويسارا، خاليا في هذا اليوم "الشعباني" إلا من بعض السياح الآسيويين الذين يلتقطون صورا لكنيسة "لامدلين". ويقول بيدرو، من أصول برتغالية، وبيده بطاقات دعوة لحضور عرض ساخن، يجوب بها الشارع بحثا عن زبائن مفترضين :" زبائننا غالبيتهم إما من العرب القادمين على الخصوص من لبنانوسوريا ومصر والمغرب العربي وأحيانا من دول الخليج ، أو من المهاجرين الأتراك والأفارقة، وجميع هؤلاء يغيبون فجأة قبل حلول رمضان بحوالي أربعين يوما، مما يؤدي إلى تراجع كبير في المبيعات وخسارة مهمة بالنسبة لصاحب المحل. والأدهى أن بعضا من المتعاملات معنا من المومسات العربيات يرفضن العمل بدعوى أنهن يحترمن شهر شعبان الذي لا يقل أهمية، في نظرهن من شهر رمضان". وغير بعيد عن "لامدلين، لا يمكن للمتجول بشارع "سانت ديني" في الدائرة العاشرة والمعروف في باريس بكونه شارع البغاء بامتياز، إلا أن يلاحظ الغياب غير المألوف لشغالات الجنس العربيات في الوقت الذي تملأ هذا الفراغ المومسات الفرنسيات ومن أوروبا الشرقية وحتى الصينيات اللواتي ازداد عددهن بشكل ملفت في السنوات الأخيرة. ولا تبعد أرصفة البغاء سوى ب400 متر عن أرصفة شارع " فريبورج" حيث تنتشر في الجهة الخلفية طاولات الحلويات الرمضانية والكتب الدينية، وحيث توجد ثلاثة مساجد دفعة واحدة تابعة للجاليات الباكستانية والتركية والعربية. وبالنظر إلى تواجد "مسجد علي" التابع لجماعة الدعوة والتبليغ ومسجد "المركز الثقافي الإسلامي التركي" و"مسجد تنسيقية الباكستانيين" بقلب شارع "سان ديني" ذو الكثافة السكانية المغاربية والإفريقية، فإن شغالات الجنس العربيات وأغلبهن مغاربيات، يتوارين عن الأنظار ويختفين من أرصفة هذا الشارع طيلة شهري شعبان ورمضان. وتؤكد مراكز استطلاعات الرأي بفرنسا أن ظاهرة العودة إلى التدين تبلغ ذروتها في شهري شعبان ورمضان وأن نسبة الصيام لدى الشباب تقارب الثمانين في المئة. وتعزو ذلك إلى روحانية هذا الشهر وقدسيته لدى المسلمين. وتنتظر الكثير من بائعات الهوى ومن بينهن شريحة واسعة من المغاربيات، انقضاء شهري شعبان ورمضان للعودة على وجه السرعة إلى الملاهي الليلية العربية، وخاصة المراقص اللبنانية حيث الأجواء ملائمة لاصطياد الفرائس بعد انتهاء ساعات السهر واقتيادهم لبعض الفنادق المجاورة التي يتراوح سعر المبيت بها ما بين 400 و600 أورو. ويصعب معرفة العدد الحقيقي لشغالات الجنس المغاربيات اللواتي غالبا ما تدّعين انتماءهن لصنف الطالبات، وهو الصنف الأكثر ميولا إلى الدعارة إذ يتراوح عدد الممارسات ما بين 25 ألف إلى 45 ألف طالبة من مختلف الجنسيات حسب تقديرات المكتب الفرنسي لردع تجارة الجنس. والباحث في أوضاع الطالبات المغاربيات لا بد وأن يقف على مجموعة من التناقضات والاختلالات في التنشئة والقناعة والتوجه.. فهناك فئات ممن تأثرن بسرعة بعالم التمرد والمجون السائد في الأوساط الغربية، وتمكنت من الانغماس والذوبان في المجتمعات المضيفة إلى حد أنها تتفادى أبناء جلدتها "المتزمتين الأغبياء". ولا تتماهى هذه الفئة إلا مع الوجه القذر للحضارة الغربية الذي يقدم الجسد الأنثوي كسلعة قابلة للتجارة، ويتعامل معه عبر تسويقه في الأغاني والإعلانات التجارية. وقد توسعت ظاهرة الدعارة وارتفعت معدلاتها في أوساط فئة أخرى من الطالبات المغربيات، إذ تحولت بعد سنوات إلى حرفة عند بعضهن لكسب المزيد من المال أو للحصول على وثائق الإقامة بشكل دائم. وتعيش هذه الفئة التي ترفض اليوم العودة إلى وطنها على وثيرتين: فتجدها بالنهار ميالة إلى التقوقع والانغلاق داخل بيوتها، حتى إذا أتى الليل، تتسارع نحو مختلف المراقص العربية للبحث عن عاشق ليلة تغتال بالقرب منه حالات الاكتئاب والإحباط السائدة في الوسط الاغترابي.