أفرزت الانتخابات الاخيرة ،عدة حقائق ومعطيات لا يستقيم التحليل بدون التسطير عليها وإبراز فرادتها في المشهد السياسي المغربي، ومن هذه المعطيات : - لم يسبق لأي حزب في الحكومة أن خسر الخسارة المدوية التي مُنِي بها حزب العدالة والتنمية ، بفارق مدوخ بين الاقتراعات الثلاثة السابقة ( 2011/2015/2016) ونتيجة الاقتراع الاخير. وفي هذا المضمار يكون من المفيد الاشارة الى أن ال«بيجيدي»، حصد ما زرعه طوال عقدين من الزمن، وما رافقهما من التوترات العلنية والخفية،إضافة إلى التآكل الذي يكون سُنة المعمرين في السلطة. ولعل أبرز ما وقع في خضم هذا الانحدار هي العزلة التي فرضها على نفسه، بالاستعلاء تارة وبالخروج عن التوافقات الكبرى التي طبعت مرحلة ما قبل الانتخابات، مثل ما حصل عند مناقشة المنظومة الانتخابية و تقنين استعمال القنب الهندي أو عند الموقف من توقيع االاتفاقية الثلاثية بين المغرب وامريكا واسرائيل والذي اتسم بالازدواجية والتناقض والتذبذب.. غير أن الحزب المهيمن سابقا،كشف عن هشاشة رهيبة ، عندما ذابت نخبته مثل ثلج في يوم حار، ولم يكن من المنتظر حتما أن تذوب مثل ملح في الماء. وبدا أن البيجيدي قادر على أن يكون حزبا لتناوب مرحلي ما، لكن نخبته لم تستطع أن تقاوم الأفول الكامل. غير أن النقطة التي يجدر بنا تسجيلها هي ان العدالة والتنمية لم يمت، وحركيته ستستأنف في المجتمع لا في المؤسسات، ولا شك أنه سيكون ضعيف الصوت خافته في البرلمان بغرفتيه،كما أن اثار وجوده في التجمعات الديموقراطية الترابية الكبرى لن يكون له مجال للظهور. و لهذا نخمن أنه سيعود الى حيويته الدعوية السابقة، على يمين حركة «العدل والاحسان » ، التي يبدو أنها ستكون التعبير غير المعترف به للمجموعة الاسلاموية في المجتمع. وهذا حديث آخر - لم يسبق لأي حزب في تاريخ المغرب السياسي الحديث أن ركز كل القوة الانتخابية، من مؤسسات الجماعات الترابية الى المؤسسة التشريعية ، مرورا بالغرف المهنية والخدماتية، كما هو حال التجمع الوطني للاحرار. فهو في قلب المعادلات المؤسساتية كلها، من المجالس الجماعية الى الحكومة. والحزب الذي أسسسه أحمد عصمان في منتصف السبعينيات الماضية، كي يكون حزب التوازن ، بين الشارع والمعارضة المستندة اليه وقتها،من جهة وبين الدولة،من جهة اخرى انتقل بذلك الى صناعة التوازن هو بنفسه مع عزيز اخنوش! والأكثر اثارة في الأمر هو أن رئيس الحكومة، صانع الاغلبية كان عليه أن يكون أيضا صانع المعارضة، وهو ما قد يراه الفقهاء الدستورانيون بمثابة لعب دور ليس هو دوره في ضبط التوازنات الحزبية داخل المؤسسات. - لم يسبق لأية حكومة ان ضمت عددا من الاحزاب بهذا العدد ( ثلاثة)، ولم يسبق أبدا أن كان احزاب الحكومة على مستوى مرتفع من التنسيق السياسي افقا وعموديا، في الجماعات وفي المؤسسات. كما تحقق مع حزب الاحرار والاستقلال والبام. وتطرح هذه الوضعية الجديدة، مفارقة مؤسساتية غير مسبوقة، اذ يمكنها ان تشكل إغلاقا للحقل السياسي، كما يري بعض المنتسبين الى الاتحاد الاشتراكي، المعارض أو تشكل نقطة انسجام وتناغم حكومي سيأثر ايجابا حتما على سير الجهاز التنفيذي،كما يدافع اصحابها. لقد عشنا مع البيجيدي، أغلبية حكومية متضخمة نوعا ما،في الوقت الذي كان الحزب يدبر شؤون التراب الوطني في أكبر المدن وأغلبها. ولم تفده هذه الاغلبية في شيء، كما لم تستفد المدن والجهات بالشكل الذي يرفع من درجة نموها وتطورها. - لم يسبق لأية اغلبية، في المغرب الحديث أن كانت لها امتدادات ترابية ، محليا واقليميا وجهويا، كما هو حاصل اليوم. ولم يسبق لأي وزير أول، مع عبد الرحمان اليوسفي، أو رئيس حكومة، مع عبد الاله بنكيران وسعد الدين العثماني . بل أن عبد الرحمان اليوسفي كان قد وضع معيارا للحكم على حكومة خلفه ادريس جطو النجاح في امتداد الحكومة الترابي. وكان قد أصدر حكما سلبيا ، من خلال تجربة الدارالبيضاء على طبيعة الحكومة باعتبار أن مجالس المدن الستة كانت من نصيب... المعارضة! - لم يسبق أبدا أن جرت أربعة اقتراعات في يوم واحد، والظاهر أن العملية لم تكن ذات تبعات تقنية فقط، بل كانت لها تبعات سياسية كبيرة. فقد اعتادت الاحزاب أن تستدرك ما فاتها في الانتخابات التشريعية، عند إجراء الانتخابات المحلية، كما أن التعددية كانت تبدو أكثر بروزا من النمطية الثلاثية، فظهر كما لو أن الربح في الفعالية والتنسيق كان على حساب هامش التعددية الدينامية في المجتمع. سيكون من الصعب على أحزاب بعينها أن تستمر بدون هذا التطعيم المؤسساتي في قاعدة البناء الديموقراطي. وقد نشهد نوعا من »الانتخاب الطبيعي« الدرويني الذي تتحلل معه احزاب فقدت وظيفتها في البنيات الأولى للمجتمع.. - لم يسبق أبدا في تاريخ المغرب أن كانت كل الاحزاب، في الحكومة والمعارضة علي حد سواء، منطلقة من قاعدة واحدة وعتبة برنامج واحد، هو النموذج التنموي الجديد، الذي رحبت به كل الاحزاب، أو على الاقل الاحزاب الكبرى، في الحكومة والمعارضة معا! وهو ما يجعل مهمة الحكومة تكمن في الجواب عن اسئلة محددة: منها تمويل البرامج التي تقترحها انطلاقا من النموذج، ثم قضايا التدبير والطاقم البشري/ الكفاءات في الدولة والإدارات الذي سيبادر إلى التفعيل، في حين تكون المعارضة أمام مهمة صعبة ، في انتقاد مضامين برنامج رحبت به، بل ساهمت في صناعته، والهامش المحتمل هو في تأويل فلسفة البرنامج المقترح، (تقدمي، ليبرالي، محافظ؟) وفي فعالية وسائل تفعيل مضامين السياسات العمومية التي سطرها ملك البلاد للمرحلة القادمة، وفي القدرة على خلق الانسجام والتناغم بين ما هو قطاعي وما هو استراتيجي في تنزيل النموذج التنموي القادم!